..أما بعد ؛ فإن الدنيا دار ظعن ، وليست بدار إقامة ، إنما انزل إليها آدم عليه السلام عقوبة
فاحذرها يا أمير المؤمنين ، فإن الزاد منها تركها ، والغنى فيها فقرها ، لها في كل حين قتيل
تذل من اعزها ،وتفقر من جمعها ،هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه ، فكن فيها كالمداوي
جراحه يحتمي قليلا ً مخافة ما يكره طويلا ً ،ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء .
فاحذر هذه الدار الغرارة ، الخداعة الخيالة ، التي قد تزينت بخدعها ،وفتنت بغرورها وختلت
بآمالها ، وتشوفت لخطابها ، فأصبحت كالعروس المجلوة ،فالعيون إليها ناظرة ،والقلوب إليها والهة
والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها كلهم قاتلة ، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته : فاغتر وطغى ونسي
المعاد ، فشغل بها لبه ، حتى زلت عنها قدمه ، فعظمت عليها ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه
سكرات الموت وحسرات الفوت .
وعاشق لم ينل منها بغيته ، فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب ولم تسترح نفسه من
العتب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد .
فكن أسر ٌما تكون فيها أحذر ما تكون لها ، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته
إلى مكروه ،وُصِل الرخاء منها البلاء ، وجُعل البقاء فيها إلى الفناء ، سرورها مشوب بالحزن ،
أمانيها كلها كاذبة ، وآمالها باطلة ،وصفوها كدر ، وعيشها نكد ، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا ً
ولم يضرب لها مثلا ً ، لكانت قد أيقظت النائم ، ونبهت الغافل ..
فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ ، وعنها زاجر ؟
فمالها عند الله قدر ولا وزن ،ولا نظر إليها منذ خلقها ، ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها و خزائنها
لا ينقصها عند الله جناح بعوضة ، فأبى أن يقبلها ، كره أن يحب ما ابغض خالقه ، أو يرفع ما وضع مليكه
فزواها عن الصالحين اختيارا ً ، وبسطها لأعدائه اغترارا ً ، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أ ُكرم
بها ونسي ما صنع الله عز وجل برسوله حين شد الحجر على بطنه .
انتهى ..
من كتاب : اغاثة اللهفان من مكائد الشيطان ، لابن القيم طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه
اللهم جعلنا خير انصار لخير مجاهدين
منقول لكاتبته : رياح الزحوف
تعليق