إذا كنت مسافرا وحدك فرأيت أمامك ...
بسم الله الرحمن الرحيم
اذا كنت مسافراً وحدك فرأيت أمامك مفرق طريقين. طريقا صعبا صاعدا في الجبل، وطريقاً سهلاً منحدراً إلى السهل. الاول فيه وعورة، وحجارة منثورة، وأشواك وحفر، يصعب تسلقه، ويتعسر السير فيه، ولكن أمامه لوحة نصبتها الحكومة، فيها: ان هذا الطريق على وعورة أوله، وصعوبة سلوكه، هو الطريق الصحيح، الذي يوصل إلى المدينة الكبيرة، والغاية المقصودة.
والثاني معبّد، تظلله الأشجار ذوات الأزهار والثمار، وعلى جانبيه المقاهي[1] والملاهي، فيها كل ما يلذ القلب، ويسر العين، ويشنف[2] الاذن. ولكن عليه لوحة فيها: انه طريق خطر مهلك، آخره هوة فيها الموت المحقق، والهلاك الأكيد.
فأي الطريقين تسلك؟
لا شك ان النفس تميل إلى السهل دون الصعب، واللذيذ دون المؤلم، وتحب الانطلاق وتكره القيود، هذه فطرة فطرها الله عليها، ولو ترك الانسانُ نفسه وهواها، وانقاد لها، سلك الطريق الثاني، ولكن العقل يتدخل، ويوازن بين اللذة القصيرة الحاضرة يعقبها ألم طويل، والألم العارض المؤقت تكون بعده لذة باقية، فيؤثر الاول.
هذا هو مثال طريق الجنة، وطريق النار..
طريق النار فيه كل ما هو لذيذ ممتع، تميل اليه النفس، بدفع اليه الهوى. فيه النظر إلى الجمال ومفاتنه، فيه الاستجابة للشهوة ولذاتها، فيه أخذ المال من كل طريق، والمال محبوب مرغوب فيه، وفيه الانطلاق والتحرر، والنفوس تحب الحرية والانطلاق، وتكره القيود.
وطريق الجنة فيه المشقات والصعاب. فيه القيود والحدود، فيه مخالفة النفس، ومجانبة الهوى. ولكن عاقبة هذه المشقة المؤقتة في هذا الطريق، اللذة الدائمة في الآخرة، وثمرة اللذة العارضة في طريق النار، الألم المستمر في جهنم. كالتلميذ ليالي الامتحان يتألم حين يترك أهله عاكفين على الراني[3]، يشاهدون ما يسر ويمتع، وينفرد هو بكتبه ودفاتره، فيجد بعد هذا الألم لذة النجاح. وكالمريض يصبر أياما على ألم الحِمية عن أطايب الطعام فينال بعدها سعادة الصحة.
وضع الله الطريقين أمامنا، ووضع فينا ملكة نفرق بها بينهما، نعرف بها الخير من الشر سواء في ذلك العالمُ والجاهل، والكبير والصغير. كل منهم يستريح ضميره اذا عمل الخير، وينزعج اذا أتى الشر. بل ان هذه الملكة موجودة حتى في الحيوان: القط اذا القيت اليه بقطعة اللحم أكلها أمامك، متمهلا مطمئنا، واذا خطفها ذهب بها بعيداً، فأكلها على عجل، وعينه عليك يخاف أن تلحق به، فتنزعها منه، أفليس معنى هذا أنه أدرك ان اللقمة الاولى حق له، والثانية عدوان منه؟.
أليس هذا تفريقا منه بين الحق والباطل، والحلال والحرام؟.
والكلب اذا عمل حسنا تمسح بصاحبه، كأنه يطلب منه المكافأة. واذا أذنب ذنبا نأى فوقف بعيداً، يبصبص بذنبه، كأنه يبدي المعذرة أو يتوقع العقاب.
وهذا تأويل قوله تعالى: { ووهديناه النجدين}.
وأقام الله على طريق الجنة دعاةً يدعون اليه، ويدلّون عليه، هم الانبياء. كما قام على طريق النار، دعاةٌ يدعون اليه، ويرغبون فيه هم الشياطين. وجعل العلماء، ورثة الأنبياء، فاطمة بنت محمد ما ورثت منه مالا ولا عقاراً، والعلماء ورثوا منه هذه (الدعوة) فمن قام بها حق قيامها، استحق شرف هذا الميراث.
وهذه (الدعوة) صعبة، لأن النفس البشرية طبعت على الميل إلى الحرية، والدين يُقيدها، وعلى الانطلاق وراء اللذة، والدين يُمسكها، فمن يدعو إلى الفسوق والعصيان، يوافق طبيعتها فتمشي معه مشي الماء في المنحدر. اصعد إلى خزان الماء في رأس الجبل، فأثقبه بضربة معول، يَنْزل الماء وأنت واقف حتى يستقر في قرارة الوادي، فاذا أردت أن تعيده لم يعد الا بمضخات، ومشقات، ونفقات بالغات. والصخرة الراسية في الذروة، لا تحتاج الا إلى زحزحتها وامالتها، حتى تتدحرج وتهوي، تنزل بلا مشقة ولا تعب. فاذا أردت أن ترجعها، وجدت المتاعب والمشقات.
[1] أقهى: داوم على شرب القهوة.
[2] الشنف القرط (الحلق) وهذا التعبير هنا على المجاز.
[3] الراني والرائي: كلمتان وضعتهما للتلفزيون، وهما (اسم فاعل) بمعنى (اسم المفعول) على المجاز العقلي، كقوله تعالى: "فهو في عيشة راضية..."، أي: في عيشة مرضية.
بسم الله الرحمن الرحيم
اذا كنت مسافراً وحدك فرأيت أمامك مفرق طريقين. طريقا صعبا صاعدا في الجبل، وطريقاً سهلاً منحدراً إلى السهل. الاول فيه وعورة، وحجارة منثورة، وأشواك وحفر، يصعب تسلقه، ويتعسر السير فيه، ولكن أمامه لوحة نصبتها الحكومة، فيها: ان هذا الطريق على وعورة أوله، وصعوبة سلوكه، هو الطريق الصحيح، الذي يوصل إلى المدينة الكبيرة، والغاية المقصودة.
والثاني معبّد، تظلله الأشجار ذوات الأزهار والثمار، وعلى جانبيه المقاهي[1] والملاهي، فيها كل ما يلذ القلب، ويسر العين، ويشنف[2] الاذن. ولكن عليه لوحة فيها: انه طريق خطر مهلك، آخره هوة فيها الموت المحقق، والهلاك الأكيد.
فأي الطريقين تسلك؟
لا شك ان النفس تميل إلى السهل دون الصعب، واللذيذ دون المؤلم، وتحب الانطلاق وتكره القيود، هذه فطرة فطرها الله عليها، ولو ترك الانسانُ نفسه وهواها، وانقاد لها، سلك الطريق الثاني، ولكن العقل يتدخل، ويوازن بين اللذة القصيرة الحاضرة يعقبها ألم طويل، والألم العارض المؤقت تكون بعده لذة باقية، فيؤثر الاول.
هذا هو مثال طريق الجنة، وطريق النار..
طريق النار فيه كل ما هو لذيذ ممتع، تميل اليه النفس، بدفع اليه الهوى. فيه النظر إلى الجمال ومفاتنه، فيه الاستجابة للشهوة ولذاتها، فيه أخذ المال من كل طريق، والمال محبوب مرغوب فيه، وفيه الانطلاق والتحرر، والنفوس تحب الحرية والانطلاق، وتكره القيود.
وطريق الجنة فيه المشقات والصعاب. فيه القيود والحدود، فيه مخالفة النفس، ومجانبة الهوى. ولكن عاقبة هذه المشقة المؤقتة في هذا الطريق، اللذة الدائمة في الآخرة، وثمرة اللذة العارضة في طريق النار، الألم المستمر في جهنم. كالتلميذ ليالي الامتحان يتألم حين يترك أهله عاكفين على الراني[3]، يشاهدون ما يسر ويمتع، وينفرد هو بكتبه ودفاتره، فيجد بعد هذا الألم لذة النجاح. وكالمريض يصبر أياما على ألم الحِمية عن أطايب الطعام فينال بعدها سعادة الصحة.
وضع الله الطريقين أمامنا، ووضع فينا ملكة نفرق بها بينهما، نعرف بها الخير من الشر سواء في ذلك العالمُ والجاهل، والكبير والصغير. كل منهم يستريح ضميره اذا عمل الخير، وينزعج اذا أتى الشر. بل ان هذه الملكة موجودة حتى في الحيوان: القط اذا القيت اليه بقطعة اللحم أكلها أمامك، متمهلا مطمئنا، واذا خطفها ذهب بها بعيداً، فأكلها على عجل، وعينه عليك يخاف أن تلحق به، فتنزعها منه، أفليس معنى هذا أنه أدرك ان اللقمة الاولى حق له، والثانية عدوان منه؟.
أليس هذا تفريقا منه بين الحق والباطل، والحلال والحرام؟.
والكلب اذا عمل حسنا تمسح بصاحبه، كأنه يطلب منه المكافأة. واذا أذنب ذنبا نأى فوقف بعيداً، يبصبص بذنبه، كأنه يبدي المعذرة أو يتوقع العقاب.
وهذا تأويل قوله تعالى: { ووهديناه النجدين}.
وأقام الله على طريق الجنة دعاةً يدعون اليه، ويدلّون عليه، هم الانبياء. كما قام على طريق النار، دعاةٌ يدعون اليه، ويرغبون فيه هم الشياطين. وجعل العلماء، ورثة الأنبياء، فاطمة بنت محمد ما ورثت منه مالا ولا عقاراً، والعلماء ورثوا منه هذه (الدعوة) فمن قام بها حق قيامها، استحق شرف هذا الميراث.
وهذه (الدعوة) صعبة، لأن النفس البشرية طبعت على الميل إلى الحرية، والدين يُقيدها، وعلى الانطلاق وراء اللذة، والدين يُمسكها، فمن يدعو إلى الفسوق والعصيان، يوافق طبيعتها فتمشي معه مشي الماء في المنحدر. اصعد إلى خزان الماء في رأس الجبل، فأثقبه بضربة معول، يَنْزل الماء وأنت واقف حتى يستقر في قرارة الوادي، فاذا أردت أن تعيده لم يعد الا بمضخات، ومشقات، ونفقات بالغات. والصخرة الراسية في الذروة، لا تحتاج الا إلى زحزحتها وامالتها، حتى تتدحرج وتهوي، تنزل بلا مشقة ولا تعب. فاذا أردت أن ترجعها، وجدت المتاعب والمشقات.
[1] أقهى: داوم على شرب القهوة.
[2] الشنف القرط (الحلق) وهذا التعبير هنا على المجاز.
[3] الراني والرائي: كلمتان وضعتهما للتلفزيون، وهما (اسم فاعل) بمعنى (اسم المفعول) على المجاز العقلي، كقوله تعالى: "فهو في عيشة راضية..."، أي: في عيشة مرضية.
تعليق