إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التنويــع في أساليــب البيــان القرآنــي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التنويــع في أساليــب البيــان القرآنــي


    التنويــع في أساليــب البيــان القرآنــي



    يلاحِظُ الأديب ذو الحسّ الأدبيّ المرهف التنويعَ العجيبَ البَدِيع في أساليب الأداء البيانيّ القرآنيّ، حتَّى في عَرْض الأقسام أو الأنواع الّتي تدخُلُ في جنْسٍ واحد، أو تدخُل تحت عنوانٍ واحد، إيثاراً للجمال الْفَنّيِ بالتنويع الْمُجَدِّد




    وقد يَقْتَرِنُ بإيثار الجمال الفنّيِّ غَرَضٌ بيانيٌّ آخر، كاخْتيار الأُسْلُوب الأَكثرِ مُلاءمةً للْقِسْم أو النَّوعِ أو الصِّنْفِ أو الْفَرْدِ الذي جرَى التنويعُ في الأسلوب عنْد ذكْرِه



    والْغَفْلَةُ عن مُلاحَظَةِ هذا التنويع في أساليب الأداء البياني، تَجْعَلُ المتبدبّرَ لكلام الله عزّ وجلّ لا يُدْرِكُ الترابُطَ الفِكْريَّ في موضُوع النَّصّ، فَيَفْهَمُه وحَدَاتٍ مُجَزَّآتٍ غَيْرَ مُتَرابِطاتٍ، وتَنِدُّ عنْه بسبب ذلك روائِعُ مَفَاهِيمَ، وقَدْ يَقَعُ في أغَالِيطَ، إذْ يُحَاوِلُ أنْ يَنْتَزِعَ ارتِبَاطاً منْ قَريبٍ أَوْ بَعيدٍ لأدْنَى مُنَاسبَةٍ، أوْ شُبْهَةِ مُنَاسَبَةٍ، أوْ يخْتَرِعَ منْ عنده أُموراً لا أصْلَ لها ولا دليلَ عليها.



    وقد اخترت لكم مثال على ظاهرة التنويع في أساليب الأداء البيانيّ في القرآن



    عرَضَ القرآن المجيد ما كان في غزوة الأحزاب من المنافقين وضعفاء الإِيمان الذين في قلوبهم مرض، من أقوال وأعمال، هي مظاهر لما في قلوبهم، فقال الله عزّ وجلّ في سورة (الأحزاب)



    {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}.



    هذا قِسْمٌ من المنافين جاء الحديث عنهم بأسْلُوب: {وَإِذْ يَقُولُ} بإِذْ الظَّرْفِيَّة، أي: واذْكُرْ إذْ، وبالفعل المضارع {يَقُول} الذي يَدُلُّ على أنّ المقالة دارَتْ على الألسنة حتَّى شاعتْ، فقالها المنافقون،




    وقالَها تأثّراً بهمُ الّذين في قُلوبهم مرضٌ دُونَ النفاق، وهو مرضُ ضعيفِ الإِيمان.



    أمّا القسم الثاني فقد جاء أسلوب عرضه كما يلي:



    {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ...} [الآية:13].



    فجاء بأسلوب: {وَإِذَ قَالَ} بإذْ الظرفيّة، أي: واذْكُرْ إِذْ، وبالفعل الماضي {قَالَ} الّذِي يَدُلُّ عَلى أَنَّ هذه المقالة قد قِيلَتْ منْ طائفةٍ منْهم، ثُمَّ لم تتكرّر، ولَمْ تَدُرْ عَلى الأَلْسِنة.



    وأمّا القسم الثالث فقد جاء أُسْلوب عرضه كما يلي:


    {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً}.


    فجاء بأسْلوب: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ} بصيغة الفعل المضارع، للدلالة على تكرار الاستئذان من أفراد هذا الفريق، أو على الإِلحاح به، ولم يأتِ على النَّسَق السابق من استعمال كلمة {إذْ} قبله، لأنَّ حالتهم هذه كانت مستمرّة لا تستدعي التذكير بزمن حدوثها.



    واعتنى القرآن المجيد بتربيةِ هذا الفريق المستأذن، وببيان حالته النفسيّة وإقناعه،
    لتصحيح العناصر المختلّة لدَيْه من عناصر القاعدة الإِيمانيّة.



    وأمّا القسم الرّابع وهو التعويقُ والتثبيط عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة عدوّه،



    فقَدْ جاء أسلوب عرضه كما يلي:


    {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً}.


    فاختلف الأسلوبُ هنا اختلافاً كلّيّاً، إذْ نُلاحظُ أنَّ التعويقَ قد عرضه الله عزّ وجلّ وصْفاً مثبتاً لفريقٍ من المنافقين، ولم يَذْكُرْهُ عَلى أنَّه مُجَرّد عَرَضٍ طارئ استدعَتْهُ حالَةٌ مُزْعِجَة، وهو الأَمْر الذي كان في غزوة الأحزاب،



    وقَبْلَ ذِكْر المعوّقينَ بيَّنَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ تَحَقُّقَ عِلْمِه بهم، لِيُشيرَ هذا البيان من طَرْفٍ خفِيٍّ إشارةَ تَهْدِيدٍ لهم، بأنَّهُمْ مَكْشُوفُونَ مَعْلومُونَ لله، وبأن عقاب الله يَتَرصَّدُهُمْ.



    فمع التنويع في الأسلوب لإِكساب التعبير جمالاً فنيّاً، وإبداعاً مُعْجِباً، اخْتِير لِعَرْض كلِّ قسم الأُسلوبُ الأكْثَرُ ملاءمةً له، والأَكْثَرُ مضامِينَ فكريَّةً يُرادُ الدّلاَلَةُ عليها مع ذكره، كإضافة أنّ المعوّقين معلومون لله عزّ وجلّ، وأنَّ تَعْوِيقَهُم لإِخوانهم صِفَةٌ مثبتَةٌ من صفاتهم، ومُلازِمَةٌ لهم في كلّ الأحوال، فهم معوّقّون دائماً، وقائلونَ في كلّ المعارك لإِخوانهم:
    هلُمَّ إلينا، لا تخرجوا مع محمّد إلى قتال.
جاري التحميل ..
X