ليل ونهار
إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب}.
ما أجملها من دعوة من خالق الوجود لعباده أصحاب العقول، للتفكّر والتأمّل بهذا الكون العجيب حتى نزداد قرباً ورفعة، ولندرك أن هذا الجمال الذي نعيش فيه والإتقان العجيب في الخلق كلّه مسخرٌ للإنسان، ليعمر الأرض بأمر الله ويحافظ على عهده.. حتى يكون له في النهاية جمال أكثر من هذا الجمال، وخلود ما بعده موت.. ويا الله! شر العبيد إليك صاعد، وخيرك إليهم نازل، وأنت الغني عنهم، وهم الفقراء إليك، فكيف لا تهيم القلوب بحبك؟!
ليل أسود.. قدرة من أقدار الله العجيبة.. جندي من جنوده المخلصين.. يأخذ دوره ليُريح الشمس ويؤدي وظيفة جديدة.. سترٌ وهدوء.. شهادة صامتة لكل ما يجري تحت جنحه... صديق حميم للمتعبين والخائفين.. نارٌ وبارود على أهل الحرابة في الأرض..
به يخلو المحبّون مع خالق الوجود فلا يسمعهم أحد..
به ترتاح الأرواح من عناء الظلم والقهر..
به تسكن الموجودات وتدخل في تسبيح لمالك الأكوان..
به يواسى الموجوع، وبه يعطى القرب، وبه تمسح الأحزان..
به يعلو أهل الله المخلصون المشتاقون الهاربون من عناء البشر وظلمهم..
بالليل وحده يقف الوجود وقفة حبٍّ ورجاء وخوف على باب ملك الملوك، ليؤذن له بالدخول إلى عالم العشق الأبدي..
نهار أبيض وشمس ساطعة، وقدرة من أقدار الله العجيبة..
به تستيقظ الأرواح والأجساد بعد غياب ونوم عميقين.. تبحث عن أسباب وجودها.. تملأ الدنيا صخباً ما بين طائع وعاصٍ..
به يُكشف ما خفي بالليل من ظلم وعذاب، وتُبان الحقائق على الملأ..
به ينهض أهل الله في دعوتهم للعودة إلى رحاب الله وتجديد عهود انقطعت بعد أن قُطعت..
به تنار الدنيا وتطرب الأكوان، وتدخل مع الشجر والبحر والطير بوابات الأنس والفرح بخالق الأكوان..
به يذلّ أهل الظلام وتنكَّس رؤوسهم، وتنفضح ألاعيبهم وكذباتهم، فيختبئون كخفافيش ضالّة كُتب عليها الحرمان من رؤية النور في الدنيا والآخرة..
به يستعد المشتاقون للرحيل، ويملأون رحالهم زاداً، وينتظرون قطار الأولين، فربما إذا جنّ الليل؛ كان آخر عهدهم بالدنيا...
(لأولي الألباب..)
ما أعجب كلام الله وما أحلاه!.. كلنا نملك عقولاً تميزنا عن غيرنا من الخلائق.. وكلنا نبحث عن أسباب بقائنا والاستمتاع بالدنيا، ولكن أصحاب العقول المتميّزة الباحثة عن جمال الخلق والكون لتنفيذ عهدها، وإتمام صفقة الخلافة لتنال النعيم الخالد؛ هي المقصودة بكلام الحق.. وما أشد الدرس العظيم في هذه الآية؛ أن كل عاقل لم يربط وجوده بالله، ولم يبحث عن جمال الوجود، ولم يشكر الله ليل نهار؛ فهو بعيد كل البعد عن ما يحمل قوله تعالى: }لأولي الألباب{ من معنى.. ويكون قد أدخل نفسه دون أن يشعر في عالم آخر من الجنون والضلال..
يااااا رب..
أنعِمْ علينا بالطمأنينة والسكينة.. وكُنْ مع المظلومين والمقهورين، وأنعِمْ علينا بليل يُقهر فيه الظلاّم، ويرتاح فيه عبادك المظلومون، ونهارٍ نقيم فيه عرس موت أعدائنا ونملأ الدنيا طرباً.. ويا رب! لك العتبى حتى ترضى.. ولا حول ولا قوة إلا بك...
تعليق