يقول ماكس فيبر max weber عالم الاجتماع الألماني الشهير : "لا يوجد في السياسة سوى خطأين قاتلين الخطأ الأول أن لا يدافع الإنسان عن أي قضية و الخطأ الثاني أن لا يتحمل المسؤولية."
و الشيخ نحناح رحمه كرس حياته للدفاع عن قضايا الامة كما تحمل المسؤولية في ظروف استثنائية , إبان الثورة التحريرية حين اعتنق الثورة و انخرط في صفوفها و هو في ريعان شبابه لم يتجاوز سنه 16 سنة , و حين عارض دستور 1976 الذي كرس الأحادية و الاشتراكية كخيار لا رجعة فيه و اعتقل من اجل ذلك و حكم عليه 15 سنة سجنا ا ما المحطة الأهم في حياته و التي تميز فيها عن كثير من الدعاة و الساسة و القادة هو موقفه الاستثنائي و الإبداعي من المأساة الوطنية التي كادت تعصف بالجزائر في تسعينيات القرن الماضي
و لم يكن هذا الموقف سهلا في ظل فتنة عمياء تدع الحليم حيرانا فهذه جماعة الجزأرة التي تعتبر من النخبة و كانت تدعي الحكمة و القدرة على الاستشراف و تتهم الشيخ نحناح رحمه الله بالارتجال و التهور و المغامرة و لكنها لم تتمالك أمام بهرج جبهة الإنقاذ التي عارضتها في البداية و لكن ما لبثت أن التحقت بها بعد فوز هذه الأخيرة في الانتخابات المحلية سنة 1990 التي تبوأت فيها المرتبة الأولى و احتلت الصدارة في الخريطة السياسية بحجة ترشيدها ثم استدرجت للعمل المسلح حيث كان حتف قيادتها على يد الإرهابيين
حين اندلعت الفتنة انقسم الناس تجاهها إلى أقسام عدة فمنهم من نأى بنفسه عنها و التزم الحياد و لزم بيته و منهم من انحاز الى معسكر الإرهاب و منهم من انحازالى معسكر الاستئصال اما الشيخ نحناح رحمه الله و من خلاله حركة مجتمع السلم فقد تميز في موقفه فلم ينحاز الى هؤلاء و لا هؤلاء و دعا الى ضرورة استيعاب الفتنة و تطويق المأساة بمصالحة وطنية شاملة و قال لسنا طرفا في الازمة و لكننا طرف في الحل
و اتخذ من حديث الرسول صلى الله عليه و سلم شعارا له :" كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه "
و تبنى نهج المشاركة في مقابل نهج المغالبة الذي كان يتسم بالحدية و الرغبة في الاشتباك مع النظام
هناك 5 مبررات ناضلت جميعا لصالح نهج المشاركة
1– المساهمة في الحفاظ على الدولة الجزائرية
التي كانت تتهددها أخطار الانهيار , الحرب الأهلية و التدخل الأجنبي مع ضرورة التمييز بين الدولة و النظام و الحكومة فالدولة ملك للجزائريين جميعا دفعوا ثمنها باهظا دماء و دموعا و تضحيات بلغت مليونا و نصف مليون من الشهداء
اذكر أنني كنت رفقة الشيخ نحناح رحمه الله في زيارة إلى لندن سنة 1994 في عز الفتنة فكان جل الإسلاميين الذين التقيناهم مشفقين على الحركة لا سيما بعد استشهاد الشيح محمد بوسليماني رحمه الله على يد الإرهابيين , متوجسين من المستقبل خصوصا أن الإعلام العربي المهاجر كان يجنح إلى التهويل و يتحدث عن زحف وشيك للجماعات المسلحة على العاصمة التي باتت وشيكة السقوط - حسب زعمهم - و لكن نحن في الحركة كنا واثقين ان مآل هذا المشروع الفشل لأنه مخترق و يفتقد إلى مقومات النجاح و يصادم سنن التغيير و يحمل بذور فنائه في طياته
و كان إخوان الصومال مؤيدين لموقف الحركة مثمنين انحيازها إلى الدولة الجزائرية لأنهم يصدرون عن تجربة تقول انه ليس هناك أسوا من انهيار الدولة لان الأمر سيؤول إلى الفوضى و الانفلات و انعدام الأمن و سيادة قانون الغاب و تعطل مصالح الناس. بل و أصبحوا يترحمون على عهد الرئيس المخلوع الطاغية سياد بري لأنه في غياب البديل الناضج اخف الضررين و أهون الشرين و لا زال الصومال يتخبط في فتنة الحرب الأهلية إلى يومنا هذا و لولا ان الله سلّم ثم وعي الشعب الجزائري و تحالف الوطنيين الصادقين و الإسلاميين المخلصين لدينهم و وطنهم لعرفت الجزائر نفس المصير
2- الحفاظ على المشروع الإسلامي :
الجزائريون برمتهم مسلمون يحبون الإسلام ويلوذون به في أوقات الشدة فكل الثورات التي خاضوها ضد المستعمر الفرنسي لافتكاك الحرية والاستقلال كانت باسم الإسلام وتحت رايته،ولكن ما اقترفه الإرهابيون من جرائم باسم الإسلام يندى لها الجبين ويشيب لها الولدان كان كفيلا بتشويه صورة الإسلام وتنفير الناس منه وإقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي والاجتماعي الى الابد ،لولا التميّز المبكر الذي بادر إليه الشيخ نحناح رحمه الله وحركته والبراءة التي أعلنها من الإرهابيين والتنديد بجرائمهم والانحياز إلى الدولة الجزائرية وتبني نهج المشاركة بدل المغالبة التي كانت تنادي بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ ،والتميز لم يقتصر على المواقف السياسية فقط بل كان شاملا في الفكر والخطاب والممارسة من خلال مدرسة الوسطية والاعتدال وما يتصل بها من مفردات كالتربية والمرحلية والعمل السلمي ونبذ العنف والدعوة بالتي هي أحسن وما إلى ذالك من المعاني الجميلة التي تتميز بها هذه المدرسة.
وهناك مستوى أخر لا يقل أهمية يتمثل في الحفاظ على الشرعية القانونية والحق في النشاط العلني في إطار القانون على غرار القوى السياسية الأخرى لأن الإسلام لم يزدهر وينتشر يوما كما انتشر وازدهر في ضل الأمن والسلم والحرية والعلنية فهذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قدم خمس تنازلات كبرى في صلح الحديبية لقاء الهدنة مع المشركين والسلم والحرية ولم يستوعب الصحابة رضي الله عنهم هذا الصلح حتى أن عمر رضي الله عنه قال لرسول صلى الله عليه وسلم " لمَ نعطي الدنية في ديننا" ولكن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي المعصوم من الأخطاء كان يدرك الأبعاد الإستراتيجية لصلح الحديبية والمكاسب التي يمكن أن يجنيها الإسلام من هذا الصلح والتي خفيت عن الصحابة بل اعتبر بعض المؤرخين صلح الحديبية فتحا اذ خرج الرسول صلى الله عليه و سلم الى الحديبية في 1400صحابي ثم خرج عام فتح مكة بعد سنتين من ذلك في عشرة آلاف
فالحرية والشرعية القانونية نعمتان مغبون فيهما كثير من الحركات الإسلامية في مصر وسوريا وتونس وليبيا وغيرها من الدول العربية والإسلامية فمشكلة الإخوان في مصر مثلا تُعزى إلى حرمانهم من الشرعية القانونية وهذا الذي حرمهم من الاستقرار والتراكم وعرّضهم باستمرار إلى الضربات المتتالية فلا يكادوا يفوزون في نقابة من النقابات حتى تجمد ولا مؤسسة من المؤسسات حتى تصادر أو تحل ولا اجتماع من الاجتماعات حتى يعتقلون بتهمة الانتماء لجماعة محظورة .
3 - الطمأنة
و تهدف الى استعادة الثقة المهزوزة في المشروع الإسلامي جراء الأعمال الإرهابية، على صعيد الشعب والدولة والخارج ،وقد تمكنت الحركة في ظرف وجيز بفضل نهج المشاركة من استعادة هذه الثقة ،وآية ذلك الثقة العالية والتأييد الكبير الذين أولاهما المواطنون والمواطنات لمرشح الحركة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله في رئاسيات 1995 رغم دعوة الجبهات الثالث "جبهة الإنقاذ وجبهة التحرير وجبهة القوى الاشتراكية" وغيرها من الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية إلى مقاطعة الانتخابات ولكن الشعب الجزائري لم يلتفت لدعاة المقاطعة وأقبل بقوة وكثافة على صناديق الاقتراع ومنح الشيخ نحناح رحمه الله أكثر من ثلاثة ملايين صوت،ولولا يد التزوير التي عبثت بالأصوات لكان الفوز حليف الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله و لكن رغم حرمانه من فوز محقق صبر واحتسب وقال أن بين المصلحة الفردية ومصلحة الحركة أقدم مصلحة الحركة وبين مصلحة الحركة ومصلحة الجزائر أفضل مصلحة الجزائر .
في حوار مع أحد المسؤولين الكبار في الدولة قال لقد كسبت حركة مجتمع السلم ثقة الدولة وإن لم تنتبه لذلك، واطمأنت الكثير من الأطراف الى نهجها بعد أن كانوا متوجسين من مشاركتها في الحكم بل رافضين لذلك ،ولكن بفضل التضحيات التي بلغت خمسمائة شهيد و بفضل المواقف و الاداءات في مختلف المؤسسات ارتفع منسوب الثقة
والدليل أنه في سنة 1996 لم تمنح للحركة سوى وزارة وكتابة دولة رغم أن الوعاء الانتخابي للحركة كان كبيرا جدا وبلغ زهاء ثلاثة ملايين صوت التي حازها الشيخ نحناح في رئاسيات 95 أما اليوم ورغم تراجع الوعاء الانتخابي إلى قرابة مليون صوت فقد مُنحت للحركة خمس حقائب وزارية ، فلو تعاملت الدولة مع الحركة بمنطق الانتخابات والرياضيات لكان عدد الحقائب الوزارية في 1996 أكثر مما لديها اليوم،لكن الفارق أن الثقة أكبر اليوم منها البارحة .
أما على الصعيد الخارجي فالحركة تحظى باهتمام واحترام كبيرين من قبل كل الدول الكبرى كأمريكا ، دول الاتحاد الأوروبي و الصين وغيرها من الدولة فالتواصل معها قائم بناء على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة و تسخّر الحركة هذه العلاقات لخدمة الجزائر و الاسلام و فلسطين .
4 المصالحة الوطنية
منذ ظهور بوادر الازمة و الحركة تدعو الى المصالحة الوطنية كحل اوحد للازمة حقنا للدماء و صونا للاعراض و حفظا للأموال و الممتلكات حتى بحّ صوتها وتشققت حنجرتها لانه لا هوية و لا ديمقراطية و لا تنمية في غياب الامن و الاستقرار و هذه حقيقة قرآنية لا تقبل الجدل " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف " فالأمن الاجتماعي و الاقتصادي مرهون بالاستقرار السياسي
لقد ساهمت الحركة مع الخيريين لترجيح كفة المصالحة الوطنية ضد طرفين نقيضين كان يغذي بعضهم بعضا : انصار اللاءات الثلاث ( لا مصالحة , لا هدنة , لا حوار ) من الارهابيين و مؤيديهم الذين كانوا يسعون للاطاحة بالدولة و ينتهجون سياسة الارض المحروقة و انصار التيار الاستئصالي من غلاة العلمانيين الذين حاولوا استغلال الاوضاع لتصفية حساباتهم التاريخية مع الاسلاميين جميعا دون تمييز بل مع الاسلام ذاته، اذ سعوا الى الارتداد على قانون تعميم اللغة العربية و منعوا بث الآذان في الاذاعة و التلفزيون و اغلقوا الكثير من المساجد في الاحياء الجامعية و حاربوا المظاهر الاسلامية بحجة تجفيف منابع الارهاب ولكن بعد اشتداد الازمة وسقوط أكثر من 150 ألف ضحية، وخسارة أزيد من 20 مليار دولار، بدأ الجميع يقتنع بخيار المصالحة عبر مسار متدرج يلملم الجراح و يستوعب الاحتقان و يمتص الاحقاد فكان قانون الرحمة ثم قانون الوئام المدني فميثاق السلم و المصالحة الذي صوت عليه في استفتاء شعبي و قد وعد رئيس الجمهورية اثناء الحملة الانتخابية في رئاسيات 2009 بترقية المصالحة الوطنية، و الحركة تؤيد هذا المسعى على ان ياخذ بعين الاعتبار الجوانب السياسية و لا يكتفي بالجوانب الامنية و الانسانية و الاجتماعية فقط حتى تتمكن الجزائر من طي هذه الصفحة نهائيا دون ان تمزقها ليتمكن الرجوع اليها بين الحين و الاخر لاستخلاص العبر و الدروس و عدم تكرار هذه الماساة ابدا
5 المشاركة في تسيير الحكومة
غالبا ما تنصرف الاذهان عند تقييم المشاركة الى المكاسب المادية و الحقائب الوزارية بل هناك من ساء ظنهم في الحركة فأصبحوا يتهمونها بالانحراف و الانتهازية و يعتقدون ان الحركة لم تشارك في الحكومة إلا حبا في السلطة و إيثارا للدنيا غافلين او متغافلين عن المسوغات الحقيقية لهذه المشاركة و الحقيقة ان الحركة شاركت في الحكومة من اجل تقاسم المسؤوليات و الأعباء و الدماء في ظرف عصيب يطبعه العنف و الإرهاب و يتهرب فيه الكثير من تحمل المسؤولية خوفا على أهله و نفسه و ماله لان الإرهابيين كانوا يتوعدون كل من يشارك في الدولة من قريب او بعيد و يهدرون دمه
وثمة أهداف أخرى للمشاركة كالاطلاع و التجريب و الإبداع و تقديم النموذج الناجح الذي يغري بتوسيع التجربة، والمساهمة في إنجاز البرامج التنموية واستكمال بناء المنشآت القاعدية كالطريق السيار والموانئ والمطارات، المقدمات الضرورية لأي اقتصاد ناجع وتنمية حقيقية.
بقلم محمد جمعة قيادي في حركة مجتمع السلم
تعليق