الليل المظلم مُشرق الأنوار، الصمت المطبق معطَّر بآيات القرآن، السكون الموحش مُبدّد بانحناء الأصلاب وسجود الجباه، والجفاف اليابس مُبلّل بدموع الأسحار، قلوب خاشعة، وأنفس زكية، وألسن ذاكرة، وأعين ساهرة، وجباه ساجدة، وجنوب متجافية، إنه مساء الصالحين وليل العابدين، إنها همّة المتهجّدين ولذّة المتضرّعين، إنه أُنس المنفردين وحبّ المخلصين، إنها مجاهدة السالكين ومكابدة المرابطين، الله أكبر، ما أروع هذا الليل، وما أحبه وما أمتعه، وما أروعه!
أين هذا الليل من نوم طويل، وركون ثقيل، وغفلة تامة؟ شتان ما بين النور والظلمة، وبين السموّ والدنوّ، وبين الثرى والثريّا.
إنه قيام الليل أيها النائمون، اسمعوا النداء ممن عمّروه بالطاعات، وملؤوه بالصلوات، فهذا زمعة العابد كان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً فإذا كان السَحَر نادى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرِّسون، أَكُلّ هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون، فإذا طلع الفجر نادى: عند الصباح يحمد القوم السُّرى
دعني أريك ليلهم، بل دعني وإياك نقضي ليلة معهم، هذا أبو هريرة رضي الله عنه كان هو وامرأته وخادمه يقسِّمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا ثم يوقظ هذا ،
فالليل كله صلاة ومناجاة، ودموع وخشوع، وذكر وشكر، والشّعار لا للفُرُش الوثيرة، والنوم اللذيذ ، إنهم الموصوفون بأبلغ قول وأعظم صورة في قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة:16].
القرآن يرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرّقاد، والراحة والتذاذ المنام، ولكن هذه الجنوب لا تستجيب؛ لأن لها شغلاً عن المضاجع اللّينة والرقاد اللذيذ شغلاً بربها، شغلاً بالوقوف في حضرته، والتوجّه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء
استمع إلى يزيد الرقاشي وهو يقول: إذا نمتُ فاستيقظتُ ثم عدتُ في النوم فلا أنام الله عيني، وتأمل هذا الحوار مع الفراش حيث كان عبد العزيز بن أبي رواد يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل فكان يضع يده على الفراش ويتحسّسه ثم يقول: ما ألينك! ولكنّ فراش الجنة ألين منك، ثم يقوم إلى صلاته، نعم هؤلاء القوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون، ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام [الظلال 5/2578] ، ولله در الفضيل بن عياض، وهو يعرض وضعاً شعورياً إيمانياً بديعاً؛ إذ يقول: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لكِ، قومي خذي حظكِ من الآخرة، ولا تنسَ أنهم كانوا بذلك التعب يتلذّذون، وبالقيام يفرحون، وبعيونٍ غير أعيننا إلى الليل ينظرون، فهو عندهم موطن تنتعش فيه الأرواح، وتبتهج وترتاح، وتتقلّب بين مسرات وأفراح، وتكثر من المساءلة والإلحاح ..
فهي قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنّسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القُرُبات، وما يَرِدُ عليها في تلك المقامات ولذا جاءت وصاياهم وقد عملوا، وتذكيرهم وقد اعتبروا، وحثّهم وقد سبقوا، فها هو الحسن ينادي بكم قائلاً: كابِدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر ثم اجلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار
، وقال أبو محمد الجريري: قصدتُ الجنيد فوجدتُه يصلي فأطال جداً فلما فرغ قلتُ: قد كبرتَ وَوَهَنَ عَظْمُكَ ورقََّ جلدكَ وضعفتْ قوتكَ، ولو اقتصرتَ على بعض صلاتك، فقال: اسكتْ، طريق عرفنا به ربَّنا، لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه، والنفس ما حمّلتها تتحمل، والصلاة صلة والسجود قُربة، ولهذا قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، ومن ترك طريق القرب يوشك أن يُسلَك به طريق البعد وأبو سليمان الداراني يجدّد هذا الفقه، ويبين هذا الشعور بقوله : أهل الليل بليلهم ألذّ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولو لم يعطِ الله تعالى أهل الليل في ثواب صلاتهم إلا ما يجدون من اللذّة فيها لكان الذي أعطاهم أفضل من صلاتهم
في ظلمة الليل للعباد أنـوارُ
منها شموسٌ ومنها فيه أقمارُ
تسري قلوبهم في ضوئهن إلى
ذاك المقـامُ ومولاهم لهم جارُ
تخالهم ويك موتى لا حراك بهم
وهم مع الله إقبــالٌ وإدبارُ
إن ينطقوا فتلاواتٌ وأذكــارُ
أو يسكتوا فاعتبارٌ وأفكــارُ
مستيقظين لذي الذكرى فكلّهم
لذا التذكرِ أسماعٌ وأبصارُ
لم يستثقلوا القيام لأن النفوس راغبة، والنوايا صادقة، والخشية غامرة، وإذا قوي الباعث وكثرت الرغبة، وعظمت الرهبة، نشطت النفس وخف الجسد، وذلّ الصعب، وهانت المؤنة [ الصلاة والتهجد ص15 ].
وإليك الترجمة العملية لذلك فيما قاله رجل لزمعة العابد:ما أفضل عملك؟
فقال: ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعدٌّ لها ومشتاق إليها، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها مني حيث كنت فيها، ولولا أن الفرائض تقطع لأحببت أن أكون ليلي ونهاري قائماً راكعاً ساجداً
ذلكم هو الشوق والتعلق، وهذا هو الذوق والتعبّد، قلوب للعبادة ظامئة، ترتشف ولا ترتوي، تزيد ولا تحيد، نفوس بالذكر متلذّذة، تغترف ولا تنصرف، تنصب ولا تتعب، كان صلة بن أشيم يقوم الليل حتى يفتر فما يجيء إلى فراشه إلا حبواً
لأمرٍ ما سهروا ليلهم، ولأمرٍ ما خشعوا نهارهم .. ينتصبون لله على أقدامهم، ويفترشون وجو**م سجداً لربهم، تجري دموعهم على خدودهم فَرَقَاً من ربهم
، قدوتهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وقد خاطبه ربه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) وناداه مولاه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ)، فقام ليله بلا مزيد عليه، وسئل عن إتعاب نفسه وقد تورّمت قدماه فقال - وما أعظم ما قال!-: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، ومن هنا جاء وصفهم بلسان الحسن
حيث قال: صحبت أقواماً يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجُّداً وقياماً، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدودهم، فمرة ركّعاً ومرة سجّداً، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، لم يَمَلُوا كلال السهر لما قد خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين، فرحم الله امرأً نافسهم في مثل هذه الأعمال، ولم يرض من نفسه لنفسه بالتقصير في أمره باليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة ثم يبكي حتى تبتلّ لحيته بالدموع
أين هذا الليل من نوم طويل، وركون ثقيل، وغفلة تامة؟ شتان ما بين النور والظلمة، وبين السموّ والدنوّ، وبين الثرى والثريّا.
إنه قيام الليل أيها النائمون، اسمعوا النداء ممن عمّروه بالطاعات، وملؤوه بالصلوات، فهذا زمعة العابد كان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً فإذا كان السَحَر نادى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرِّسون، أَكُلّ هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون، فإذا طلع الفجر نادى: عند الصباح يحمد القوم السُّرى
دعني أريك ليلهم، بل دعني وإياك نقضي ليلة معهم، هذا أبو هريرة رضي الله عنه كان هو وامرأته وخادمه يقسِّمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا ثم يوقظ هذا ،
فالليل كله صلاة ومناجاة، ودموع وخشوع، وذكر وشكر، والشّعار لا للفُرُش الوثيرة، والنوم اللذيذ ، إنهم الموصوفون بأبلغ قول وأعظم صورة في قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة:16].
القرآن يرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرّقاد، والراحة والتذاذ المنام، ولكن هذه الجنوب لا تستجيب؛ لأن لها شغلاً عن المضاجع اللّينة والرقاد اللذيذ شغلاً بربها، شغلاً بالوقوف في حضرته، والتوجّه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء
استمع إلى يزيد الرقاشي وهو يقول: إذا نمتُ فاستيقظتُ ثم عدتُ في النوم فلا أنام الله عيني، وتأمل هذا الحوار مع الفراش حيث كان عبد العزيز بن أبي رواد يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل فكان يضع يده على الفراش ويتحسّسه ثم يقول: ما ألينك! ولكنّ فراش الجنة ألين منك، ثم يقوم إلى صلاته، نعم هؤلاء القوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون، ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام [الظلال 5/2578] ، ولله در الفضيل بن عياض، وهو يعرض وضعاً شعورياً إيمانياً بديعاً؛ إذ يقول: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لكِ، قومي خذي حظكِ من الآخرة، ولا تنسَ أنهم كانوا بذلك التعب يتلذّذون، وبالقيام يفرحون، وبعيونٍ غير أعيننا إلى الليل ينظرون، فهو عندهم موطن تنتعش فيه الأرواح، وتبتهج وترتاح، وتتقلّب بين مسرات وأفراح، وتكثر من المساءلة والإلحاح ..
فهي قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنّسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القُرُبات، وما يَرِدُ عليها في تلك المقامات ولذا جاءت وصاياهم وقد عملوا، وتذكيرهم وقد اعتبروا، وحثّهم وقد سبقوا، فها هو الحسن ينادي بكم قائلاً: كابِدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر ثم اجلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار
، وقال أبو محمد الجريري: قصدتُ الجنيد فوجدتُه يصلي فأطال جداً فلما فرغ قلتُ: قد كبرتَ وَوَهَنَ عَظْمُكَ ورقََّ جلدكَ وضعفتْ قوتكَ، ولو اقتصرتَ على بعض صلاتك، فقال: اسكتْ، طريق عرفنا به ربَّنا، لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه، والنفس ما حمّلتها تتحمل، والصلاة صلة والسجود قُربة، ولهذا قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، ومن ترك طريق القرب يوشك أن يُسلَك به طريق البعد وأبو سليمان الداراني يجدّد هذا الفقه، ويبين هذا الشعور بقوله : أهل الليل بليلهم ألذّ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولو لم يعطِ الله تعالى أهل الليل في ثواب صلاتهم إلا ما يجدون من اللذّة فيها لكان الذي أعطاهم أفضل من صلاتهم
في ظلمة الليل للعباد أنـوارُ
منها شموسٌ ومنها فيه أقمارُ
تسري قلوبهم في ضوئهن إلى
ذاك المقـامُ ومولاهم لهم جارُ
تخالهم ويك موتى لا حراك بهم
وهم مع الله إقبــالٌ وإدبارُ
إن ينطقوا فتلاواتٌ وأذكــارُ
أو يسكتوا فاعتبارٌ وأفكــارُ
مستيقظين لذي الذكرى فكلّهم
لذا التذكرِ أسماعٌ وأبصارُ
لم يستثقلوا القيام لأن النفوس راغبة، والنوايا صادقة، والخشية غامرة، وإذا قوي الباعث وكثرت الرغبة، وعظمت الرهبة، نشطت النفس وخف الجسد، وذلّ الصعب، وهانت المؤنة [ الصلاة والتهجد ص15 ].
وإليك الترجمة العملية لذلك فيما قاله رجل لزمعة العابد:ما أفضل عملك؟
فقال: ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعدٌّ لها ومشتاق إليها، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها مني حيث كنت فيها، ولولا أن الفرائض تقطع لأحببت أن أكون ليلي ونهاري قائماً راكعاً ساجداً
ذلكم هو الشوق والتعلق، وهذا هو الذوق والتعبّد، قلوب للعبادة ظامئة، ترتشف ولا ترتوي، تزيد ولا تحيد، نفوس بالذكر متلذّذة، تغترف ولا تنصرف، تنصب ولا تتعب، كان صلة بن أشيم يقوم الليل حتى يفتر فما يجيء إلى فراشه إلا حبواً
لأمرٍ ما سهروا ليلهم، ولأمرٍ ما خشعوا نهارهم .. ينتصبون لله على أقدامهم، ويفترشون وجو**م سجداً لربهم، تجري دموعهم على خدودهم فَرَقَاً من ربهم
، قدوتهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وقد خاطبه ربه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) وناداه مولاه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ)، فقام ليله بلا مزيد عليه، وسئل عن إتعاب نفسه وقد تورّمت قدماه فقال - وما أعظم ما قال!-: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، ومن هنا جاء وصفهم بلسان الحسن
حيث قال: صحبت أقواماً يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجُّداً وقياماً، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدودهم، فمرة ركّعاً ومرة سجّداً، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، لم يَمَلُوا كلال السهر لما قد خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين، فرحم الله امرأً نافسهم في مثل هذه الأعمال، ولم يرض من نفسه لنفسه بالتقصير في أمره باليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة ثم يبكي حتى تبتلّ لحيته بالدموع
تعليق