الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ، سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، في كتب العلم باب يسمى بباب الرقائق ، هذا الباب يرقق القلب ، يشوقه بطاعة الله ، يزهده في الدنيا ، ذلك أن العالم الإسلامي الحق فيه واضح :
(( قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ))
[ صحيح عن العرباض بن سارية]
أيها الأخوة ، بل قبل خمسين عاماً إن صحّ أن هناك ساحة عليها المبادئ والقيم ، كان هناك كتل ثلاث الغرب والشرق والإسلام ، الشرق تداعى من الداخل وانتهى لأنه رفع شعار لا إله بعد سبعين عاماً وهو من أعتى القوى في الأرض ، انتهى تداعى من الداخل وكفى الله المؤمنين القتال ، بقي على ساحة المبادئ والقيم كتلتان كبيرتان الغرب والإسلام .
الحقيقة تقال : الغرب قوي جداً وغني جداً وذكي جداً ، وطرح قيماً سابقاً رائعة جداً ، كرم الإنسان ، طرح قيمة الحرية ، وقيمة الديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، والرفق بالحيوان ، وتكافؤ الفرص ، والعولمة ، احترام جميع الأديان ، وحق المقاضاة ، إلى ما هنالك ، الذي حصل بعد الحادي عشر من أيلول أن هذا الغرب الذي كان حضارة نافست الإسلام حتى صار الذي معه بطاقة خضراء كأنه دخل الجنة ، بعد أن كان طموح أي شاب أن يصل إلى هناك ، هذا الغرب الذي نافس الإسلام بعد الحادي عشر من أيلول انتهى كحضارة وبقي قوة غاشمة ، بقي قوة غاشمة ولم يبقَ على ساحة المبادئ والقيم إلا الإسلام ، مع أن الإسلام تشن عليه حرب عالمية ثالثة ، مع أن الإسلام يُحارب في كل مكان ، ومع ذلك الإسلام ينمو نمواً يفوق حدّ الخيال ، كنت في فرنسا قبل شهر ، أنبأني من أثق بكلامه أنه يدخل في الإسلام يومياً خمسون فرنسي من أصل فرنسي ، في فرنسا ألفين وسبعمئة مسجد ، والإسلام هو الدين الثاني .
يوجد بأمريكا عشرة ملايين مسلم ، الإسلام ينمو بشكل عجيب ولعل الهجوم عليه من نموه السريع ، لماذا ؟ هناك عالم أمريكي هداه الله إلى الإسلام ، التقى بالجالية الإسلامية في بريطانيا قال : أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اليوم اللحاق بالغرب على الأقل في المدى المنظور لاتساع الهوة بينهما ، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين لا لأنهم أقوياء هم أضعف الناس الآن ، ولكن لأن خلاص العالم في الإسلام . هو الحل الوحيد هو الحل الوحيد والأكيد والفريد والأخير .
البشر جربوا كل شيء ، جربوا مبادئ مستوردة ، هذه المبادئ لم تفلح في تحقيق السلامة والسعادة ؛ بل ساهمت في شقّ صفوف المجتمع البشري ، إلى عشرة بالمئة من أهل الأرض يملكون تسعين بالمئة من ثروات الأرض ، وإلى تسعين بالمئة من أهل الأرض يملكون عشرة بالمئة من ثروات الأرض .
أيها الأخوة الكرام ، الغلاء في المواد الغذائية ليس غلاءً طبيعياً يقتضيه العرض والطلب أبداً ، غلاء الهدف منه تركيع الشعوب لأن الغذاء شيء أساسي في حياة الشعوب ، على كل أيها الأخوة ، هذه المقدمة لموضوع قلما أطرقه إطلاقاً ، الموضوع بعد الحادي عشر من أيلول المساحة الرمادية الواسعة جداً بين الحق والباطل ، يمكن أن أرمز للحق باللون الأبيض الناصع ، والباطل باللون الأسود الداكن ، وكان في قبل خمسين عاماً وإلى عشر سنوات ماضية كان في مساحة واسعة جداً من المنطقة الرمادية بين بين الآن المنطقة الرمادية تلاشت ولم يبقَ إلا الأبيض الناصع والأسود الداكن ، لم يبق إلا ولي وإباحي ، محسن ومجرم ، هذا اسمه انقسام ، العالم انقسم ، لكن الذي يعنيني من هذه المقدمة العالم الإسلامي الأمور واضحة ، الحق واضح أبلج ، القرآن واضح ، طريق الحق واضح ، طريق السعادة واضح ، طريق التعاون واضح ، طريق القوة واضح ، طريق السيطرة واضح ، لكن الناس نائمون في ضوء الشمس والأعداء يعملون ليلاً نهاراً في الظلام ، الذي يعمل في الظلام يسبق النائم في ضوء الشمس .
موضوع هذه الخطبة رقائق كلمات ترقق القلب يعني مثلاً من آيات الرقائق :
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ (16) ﴾
( سورة الحديد)
إلى متى وأنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
تعصي الإله وأنت تظهر حبـه ذاك لعمــري في المقام شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعــته إن المــحب لمن يـحب يطيع
***
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لمــــــا وليت عنا لغيرنا
و لــــو سمعت أذناك حسن خطابنا خلـعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولـــــو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الـذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولــــو نسمت من قربنا لك نسمة لــــمت غريباً واشتياقاً لقربنا
***
هذه رقائق أي كلام يرقق القلب ، يزهدك في الدنيا ، يرغبك في الآخرة ، يحببك بقيام الليل ، بطاعة الله ، ببذل المال ، والغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، هذا الباب في أكثر كتب العلم تحت عنوان الرقائق ، وأنا قلّما أعالج هذا الموضوع .
أردت في هذا الأسبوع أن يكون موضوع الخطبة الرقائق ، من هذه الرقائق حديث لرسول الله يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ )) .
[ أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ]
الْكَيِّسُ ، العاقل الذكي المتفوق الفالح الناجح ، مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ضبطها وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ أما َالْعَاجِزُ يعني غير الذكي ، غير العاقل ، الأحمق ، الغبي مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا و تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ، ترى دعاءً عريضاً منمقاً يا رب لا تسألنا عن شيء ، من قال لك ذلك والله سيسألك عن كل شيء :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ .
( سورة الحجر ) .
تقول لا تسألنا عن شيء ويقول الله عز وجل :
﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ .
( سورة الزلزلة ) .
الله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور :
﴿ فَلَا تظلمُ نفسٌ شيئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) ﴾
( سورة الأنبياء)
ما هذا القول لا تسألنا عن شيء ؟
لذلك يمكن أن تستنبط من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وكأنه بيننا قَالَ َسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ )) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
في العراق في ثلاثين دولة متحالفة مع أمريكا ، في أفغانستان في ثلاثين دولة ، في لبنان في ثلاثين دولة .
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، مليار وخمسمئة مليون لا وزن لهم في الأرض ، ليست كلمتهم هي العليا ، أمرهم ليس بيدهم ، لأعدائهم عليهم ألف سبيل وسبيل ، لا أنتم كثير ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، تصور قش فوق السيل هل يستطيع هذا السيل أن يغير من مجرى السيل ؟ ألا تذكرون قبل الحرب الثانية على العراق ، أن مسيرات في الأرض ما من دولة في الأرض إلا وسارت فيها مسيرات بالملايين ، أنا أذكر هذا تماماً ما من دولة حتى في أمريكا ، حتى في أوربا، في آسيا ، في استراليا ، ما من دولة إلا وسار فيها ملايين مملينة تشجب العدوان على العراق ومع ذلك ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ )) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
(( نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ )) .
[ البخاري ومسلم عن أبي هريرة ]
نحن هزمنا بالرعب مسيرة عام ، أيها الأخوة ، ثم يسأل الصحابة الكرام رسولهم لما يا رسول ؟
((...... وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
إذاً نحن بحاجة إلى رقائق .
هذا الوضع الأمور واضحة ، هناك تقصير بالعبادات ، بالطاعات ، بالأعمال الصالحة ، بالبذل ، بالعطاء ، تصور بلد مثل السودان ، نحن في سوريا والفضل لله عندنا مئة وخمسة وثمانون ألف كيلو متر مربع ، ربع هذه المساحة صالحة للزراعة فقط ، المزروع منها ربع الربع ، واحد على ستة عشر من مئة وخمسة وثمانين ألفاً ، من فضل الله عندنا ستة ملايين طن من القمح لكل سنة ، واستهلاكنا مليون ، وفي الحمضيات سبعمئة ألف طن ، في الزيتون ثاني دولة في العالم ، في القطن من الدول المتقدمة ، هذه المساحة المتواضعة واحد على ستة عشر من مساحة صغيرة جداً مزروعة وهذا إنتاجنا ، حدثني أخ كريم من السودان قال لي : الأرض الصالحة للزراعة في السودان اثنين ونصف مليون كيلو متر ونهر النيل يصب أربعة أخماسه في البحر ، وهذا السودان يحتاج إلى بنية تحتية فقط يطعم العالم الإسلامي بأكمله ، ومع ذلك ترى ألف مليار مودعة في البلاد الغربية لصالح المسلمين ، أليس هذا وصمة عار في حق المسلمين ؟
أيها الأخوة الكرام ، سبب موضوع هذه الخطبة المفارقة الحادة بين وضوح الأمور وبين تقصير المسلمين .
المسلم يحتاج إلى مرقق من هذه المرققات ما ورد في بعض خطب النبي عليه الصلاة والسلام :
إن الأيام تطوى ، والأعمار تفنى ، والأبدان تبلى ، وإن والليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد ، يقربان كل بعيد ، ويخلقان كل جديد .
أيها الأخوة ، كم من مستقبل يوماً وليس يستكمله ، والله بهذا العمر المتواضع بالدعوة إلى الله معي قصص العقل لا يصدقها ، إنسان ما تمكن أن يسكن في البيت الذي جهد في كسوته ، في بأرقى أحياء دمشق بناء فيه سبعة طوابق ، هذه الطوابق يزيد سعر الطابق عن مئة وثلاثين ، مئة وأربعين مليوناً ، هذا أغلى سعر ، سبعة طوابق فارغة الذين اشتروها لم يتمكنوا من سكناها .
كم من مستقبل يوماً ليس يستكمله ، والله جلست مع مدير ثانوية حدثني عن مشاريعه لعشرين سنة قادمة سيسافر إلى الجزائر ، وسيقيم هناك خمس سنوات ، ولن يأتي إلى الشام في الصيف ، وسوف يزور في أول صيف بريطانيا ، وثاني صيف فرنسا ، وثالث إسبانيا ، والرابع سويسرا ، وسوف يعود بعد ذلك يقدم استقالته ، يأخذ التقاعدية ، ينشئ محلاً للتحف ، لعشرين سنة قادمة ، والله في اليوم نفسه رأيت نعوته على الجدران .
كم من مستقبل يوماً ليس يستكمله ، أخوانا الكرام من هذه المنطقة والله صالحون أحدهم إمام مسجد صلى الظهر إماماً وكان العصر مدفون ، في جامع الشافعي في المزة في مجموعة من أخوتنا الكرام يصلون أحدهم صاحب دعابة كلما خرجوا من المسجد يلقي على مسامعهم دعابة ، في أحد الأيام صلى الفجر في المسجد والظهر في المسجد وكان مع أذان العصر تحت أطباق الثرى ، قصص كثيرة لا تعد ولا تحصى .
كم من مستقبل يوماً ليس يستكمله ، من يملك أن يعيش لساعة قادمة ؟ أحد كبار علماء الشام كان يحضر خطبة في جامع الحسن ، والخطيب هناك فكرة يناقشها قال والله لنسأل الأستاذ فلان ، كان ميتاً في صحن المسجد ، طبعاً أجمل موتة ، مات وهو يؤدي الصلاة في المسجد ، وعندنا أحد الأخوان مرة توفي وهو في الجامع ، وهو في صلاة الجمعة ، من يملك أن يعيش لثانية ، هل أعددنا العدة ، أساساً تطور الصحة يضعف بصره ، يصلح أسنانه ، يعالج نفسه ، يقول لك معي أسيد أوريك ، معي شحوم ثلاثية ، معي معي ، هذه كلها الأعراض السلبية الصحية ، هذه رسائل لطيفة من الله أن يا عبدي قد اقترب اللقاء ، فهل أنت مستعد له ؟ هيأت حالك ، تنتقل من بيت مئتي متر إلى قبر ، من غرفة نوم ، وغرفة ضيوف ، وغرفة طعام ، وغرفة جلوس ، مطبخ ، جميع الأجهزة موجودة في البيت ، هيأت نفسك من بيت إلى قبر ماذا في القبر .
وإن أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، و أحزمكم أشدكم استعداداً له ، ألا و إن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، و الإنابة إلى دار الخلود ، و التزود لسكنى القبور ، و التأهب ليوم النشور .
النبي عليه الصلاة والسلام سئل :
(( أيّ المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقاً ، قال : فأي المؤمنين أكيس ؟ يعني أعقل ، قال : أكثرهم للموت ذكراً ، وأحسنهم لما بعده استعداداً قبل أن ينزل بهم أولئك من الأكياس ))
[صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ]
أحد علماء دمشق اشترى قبراً قبل موته بخمس سنوات كان يزور مع بعض أخوانه قبره كل يوم خميس ، يا بني هنا المصير ، أحد الصالحين حفر قبراً في بيته ، وصار يضطجع فيه كل يوم خميس ، ويتلو قوله تعالى :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
( سورة المؤمنون)
فيخاطب نفسه ويقول : قومي لقد أرجعناك ، تفضلي ، سيدنا علي له كلام طيب من الرقائق قال :
" أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع وأن أضمرتم ، وبادروا الموت الذي إن هربتم منه أدرككم ، و إن قمتم أخذكم ، ليس قبل الموت إلا والموت أشد منه ، وليس بعد الموت شيء إلا والموت أيسر منه ".
أيها الأخوة الكرام ، بالمناسبة معظم الناس يعيشون الماضي يقول لك كنت وكنت ، خاصة المتقاعدين ما عنده حديث ثانٍ ، كنت رئيس دائرة ، عملت كذا ، فعلت كذا ، وهناك ناس يعيشون الحاضر ، هؤلاء أكثر ذكاء ، أما هناك أشخاص أذكياء جداً يعيشون المستقبل ، أخطر حدث في المستقبل ، أخطر حدث الانتقال للدار الآخرة ، حينما أرى جنازة ختم عمله لا يوجد حل ثالث ، هناك خياران لا ثالث لهما ، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ، الذي في هذا النعش أمام خيارين ، الإنسان حينما يولد أمام مليون خيار إذا جاءه الموت أمام خيارين إما إلى جنة يدوم نعيمها أو إلى نار لا ينفذ عذابها .
قال بعضهم السعيد لا يركن إلى الخدع ولا يغتر بالطمع ، وقال بعضهم إن بقاءك إلى فناء ، الإنسان مكانته ، هيمنته ، ذكاؤه ، ألمعيته ، أعوانه ، أتباعه ، هيمنته ، كل هذا الكم من الإنجاز منوط بقطر شريانه التاجي فإذا أغلق وضعت النعوة على الجدارن ، كل هذه المكانة منوطة بنبض القلب ، فإذا توقف القلب كل أملاكه لغيره ، كل هذه المكانة بنمو الخلايا ، فإذا نمت نمواً عشوائياً الإنسان بثانية يموت ، بثانية يغادر الدنيا .
إن بقاءك إلى فناء ، وفناءك إلى بقاء ، بقاؤك في الدنيا إلى فناء وفناؤك بعد الدنيا إلى شقاء أبدي ، فخذ من فنائك الذي لا يبقى إلى بقائك الذي لا يفنى .
أيها الأخوة ، مرة ألقيت خطبة هذه القصة منذ اثنتي عشرة سنة عنوانها ماذا بعد ؟ جمعنا أموالاً طائلة ماذا بعد ؟ القبر ، بلغنا إلى أعلى منصب ماذا بعد ؟ القبر ، أنجبنا أولاداً نجباء ماذا بعد ؟ القبر ، استمتعنا بالحياة ماذا بعد ؟ تصور سباق أول مركبة تسقط في حفرة عميقة مالها من قرار ، والثانية تسقط ، بأي موقع أنت ، بأي مكانة ، بأي حجم ، بأي ثروة ، بأي منصب ، الموت مصير كل حي ، الأنبياء ماتوا ، الأقوياء ماتوا ، لذلك ماذا بعد ؟ دائماً فكر ماذا بعد أن أصل إلى هذا الهدف ؟ سيدنا عمر بن عبد العزيز قال : تاقت نفسي إلى الإمارة فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الخلافة ، ما شاء الله طموح ، قال فلما بلغتها قال تاقت نفسي إلى الجنة .
أنت ممكن أن يكون لك تجارة عريضة ، إنجاز ضخم ، لكن هذا موظف للآخرة ؟ إن كان للآخرة اشتغل في الدنيا قدر ما تستطيع ، لأن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح .
أيها الأخوة الكرام ، المؤمن عاداته عبادات ، اشترى سيارة أخذ أهله نزهة أنا موقن بهذا الشيء ، عاداته اليومية التي يفعلها كل الناس ، عادات المؤمن عبادات وعبادات المنافق سيئات ، قال بعضهم أقلل من الدنيا تعش حراً ، الآن استغني عن الرجل تكن نظيره ، أحسن إليه تكن أميره ، احتج إليه تكن أسيره ، أي شخص أمامك تستغني عنه نظيره ، تحسن إليه أنت أميره ، تحتاجه أنت أسيره ، بإمكانك أن تحدد موقع الذي أمامك إما تكون له أمير أو نظير أو أسير ، هذه من المرققات .
مثلاً ما مضى فات والمؤمل غيب ، الماضي مضى ، الماضي لا يسترجع ، والمستقبل ليس بيدك ، ولك الساعة التي أنت فيها ، ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها .
هناك قول آخر هنالك خمسة أيام يوم مفقود الماضي ، ويوم مشهود ، ويوم مورود الموت ، ويوم موعود القيامة ، ويوم ممدود إلى أبد الآبدين ، أخطر هذه الأيام اليوم المشهود ، هلك المسوفون ، تريد أن تتوب تُب الآن ، قال بعض الصحابة الكرام نبه بالتفكر قلبك ، وجاف عن النوم جنبك ، واتقِ الله ربك .*
وقال سيدنا عمر ارض بالقوت وخف من الفوت ، وقال بعض العلماء : ما رأيت يقيناً لاشك (كالموت) فيه أشبه بشك لا يقين فيه ، كالحياة الدنيا .
أيها الأخوة ، ألفنا بحياتنا أن نعد أعمارنا عدّاً تصاعدياً ، أنا عمري ثلاثة وستون عاماً ، سبعة وستون ، سبعون ، خمسة وثمانون ، أحياناً الإنسان يفتخر أن عمره مديد ، لكن ينبغي أن تعده عدّاً تنازلياً أن تقول كم بقي ؟ شخص وصل للأربعين يقول لك : أنا أربعون سنة كيف مضت ؟ يقول لك كلمح البصر ، إذا مضت الأربعون كلمح البصر ولو عشت أربعين قادمة سوف تمضي كلمح البصر فماذا تبحث ؟ ماذا تهدف ؟ ماذا تعمل ؟
السعيد من اعتبر بأمسه والشقي من جمع لغيره ، أندم الناس رجل عاش فقيراً ليموت غنياً ، أندم الناس رجل دخل ورثته بماله الجنة ودخل هو بماله النار .
(( إن روح الميت ترفرف فوق النعش تقول : يا أهلي ، يا ولدي ، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم ، فأنفقته في حله ، وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعة علي )).
ورد في الأثر
بعضهم قال : رتعنا في الدنيا جاهلين وعشنا فيها غافلين وأخرجنا منها كارهين .
والله أعرف رجلاً بعيداً عن الالتزام بعد الأرض عن السماء ، يميل إلى النساء ميلاً غير طبيعي ، تزوره مغنيات في بيته ، أصيب بمرض عضال وهو في الأربعين ، وتجارته رابحة جداً ، ودخله كبير ، وعنده مرح عجيب ، هو قريب أحد أخواني يحدثني عنه كثيراً هذا المرض ما أخبروه به ظن أنه مرض عارض ، فلما علم بأنه مصاب بمرض عضال أصبحت تأتيه تشنجات نوبية يقول لا أريد أن أموت ، فلما جاء ملك الموت يقسم بالله العظيم أهل البناء أنه صاح صيحة لم يبق بالأربعة طوابق أحد إلا سمعها ، ما الموت ؟ أيها الأخوة الكرام ، الموت عندنا فكرة الآن ، الله يتم فضله عليكم بالصحة لكن الموت عندما يأتي حقيقة شيء مخيف ، إنسان مفرط في طاعته جاءته أزمة قلبية ، وضعوه في المستشفى بالعناية المشددة ، يقول يخاطب ربه ألقاك وأنا عارٍ ، ماله ولا عمل صالح يا رب أمهلني ، أمهله الله عز وجل ، تابع الدروس في المساجد ، قال مرة ناجيت ربي قلت يا رب كل هذه السعادة بمعرفتك لما لم ترسل لي هذه الأزمة منذ عشر سنوات ، كل هذه السعادة بمعرفتك ، هذا الإنسان ماله منتبه لنفسه ، هذا العمر محسوب ، أنت بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، لو الساعة نظرت لها حركة عقارب ، الثواني كلما تحرك حركة نقص عمرك ، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه .
أيها الأخوة الكرام ، حديث أرويه كثيراً :
(( بادروا إلى الأعمال الصالحة ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غِنَىً مُطْغِياً ، أو فَقْراً مُنْسِياً ، أو مَرَضاً مُفْسِداً ، أو هَرَماً مُقَيِّداً ، أو مَوْتاً مُجْهِزاً ؛ أو الدجال ، فالدجال شرُّ غائِبٍ يُنْتَظَر ؛ أو السَّاعَةُ ، والساعة أدهى وأَمَرّ )) .
[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]
هناك سبعة أشياء ممكن شخص ينجو منها ؟ مستحيل هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ كاد الفقر أن يكون كفراً ، يكون وكيل شركة تسحب منه الشركة وعليه ديون والتزامات والمنافس باع بسعر أقل فلس ، كان غنياً صار فقيراً هذا فقر منسي ، أو غِنَىً مُطْغِياً ؟ شخص من هذه البلدة وله زوجة محجبة ، سافر لبلد ، والله رزقه ثروة طائلة جداً تتصل به زوجته قال لها إن لم تأت إليّ بالبنطال لا أقبلك ، محجبة ترتدي معطفاً وتكلم كلاماً آخر قبيحاً لا أستقبلك كزوجة ، هذا الغنى المطغي بعدما اغتنى يحب المعصية .
هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ هناك مرض يا أخوان يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق ، اسألوا الله العافية ، اسألوا الله دوام العافية وتمام العافية ، إنا نعوذ بك من عضال الداء ومن شماتة الأعداء ومن السلب بعد العطاء ، أو هَرَماً مُقَيِّداً ، يعيد القصة مئة مرة ، يكرهه أولاده ، يصبح حشرياً ، ظله ثقيل ، يتمنى من حوله أن يموت ، أو هَرَماً مُقَيِّداً ، أو مَوْتاً مُجْهِزاً ، أو الدجال شرُّ غائِبٍ يُنْتَظَر ؛ أو السَّاعَةُ ، والساعة أدهى وأَمَرّ .
أيها الأخوة الكرام ، هناك قول رائع جداً قال تعالى :
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ﴾
( سورة يونس)
بعض العلماء شرح من هم قال : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها فكر بالقبر تحت الأرض ، الناس همهم البيوت أربعمئة متر ، له إطلالة ثمنه ، الناس ينظرون إلى ظاهر الدنيا ما فوق الأرض ، هو بأوج شبابه نظر إلى باطنها ، الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، ونظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن يميت قلوبهم ، وتركوا منها ما أيقنوا أنه سيتركهم ، فقال سيدنا عمر تعقيباً على هذه الآية : إذا رأيتم طالب الآخرة فنافسوه فيها وإذا رأيتم طالب الدنيا فارفضوها في نحره .
سيدنا أبو الدرداء يخاطب أهل الشام يقول : يا أهل الشام اسمعوا قول أخ ناصح مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون ، وتجمعون ما لا تأكلون ، إن الذين كانوا قبلكم بنوا فشيدوا ، وأملوا بعيداً ، وجمعوا كثيراً ، فأصبح أملهم غروراً ، وجمعهم ثبوراً ، ومساكنهم قبوراً .
أيها الأخوة ، هذه بعض الرقائق التي لعل القلب يرق لها ، فالإنسان عندما ينشحن يومياً ، أنت أيها المؤمن أنا متأكد من هذا التطابق ، أنت كالهاتف المحمول إنجاز كبير جداً لكنه يحتاج إلى شحن ، إن لم تشحنه انطفأت الشاشة وسكت ما عاد هاتف بقي صامتاً ، بقي أخرساً ، مظلماً ، لابدّ من الشحن ، هناك شحن يومي خمس صلوات ، شحن أسبوعي صلاة الجمعة ، شحن سنوي رمضان ثلاثين يوماً ، شحن العمر الحج ، هذا شحن فما لم نشحن أنفسنا تمت قلوبنا .
أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى صحابته الغر الميامين و على آل بيته الطيبين الطاهرين .
أيها الأخوة ، لذلك بناء على هذا الموضوع أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن نكثر من هادم اللذات مفرق الأحباب مشتت الجماعات .
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به )) .
[ أخرجه الشيرازي عن سهل بن سعد و البيهقي عن جابر ] .
تعلق بالحي الذي لا يموت أما إذا تعلقت بالحي الذي يموت لابدّ من أن تتركه ، أو أن يتركك ، ما سوى الله تتركه أو يتركك ، تعلق بالحي الذي لا يموت ، تعلق مع الأزلي الأبدي ، تعلق مع من بيده الجنة والنار ، تعلق مع من مصيرك إليه :
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾
(سورة الغاشية)
يا أيها الأخوة هناك موظفون أذكياء جداً يشعرون أن الوزارة سوف تستقيل ، يحاول ، يستوضح من الوزير القادم لهذه الوزارة ؟ حتى ينشئ معه علاقات طيبة قبل أن يصبح وزيراً ، يزوره ، يقدم له هدايا ، عندما يصبح وزيراً ، مركزه قوي يفكر لمسافات بعيدة ، أنت بالنهاية علاقتك مع من ؟ مع الله :
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾
(سورة الغاشية)
بطولتك أن تقيم علاقة متميزة بشكل خاص مع من مصيرك إليه ، الله عز وجل رحيم ومنهجه حكيم وواقعي وضمن استطاعتك ، ما كلفك فوق ما تطيق :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (286) ﴾
( سورة البقرة )
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، انصر المسلمين في كل مكان ، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين ، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .
والحمد لله رب العالمين
أيها الأخوة الكرام ، في كتب العلم باب يسمى بباب الرقائق ، هذا الباب يرقق القلب ، يشوقه بطاعة الله ، يزهده في الدنيا ، ذلك أن العالم الإسلامي الحق فيه واضح :
(( قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ))
[ صحيح عن العرباض بن سارية]
أيها الأخوة ، بل قبل خمسين عاماً إن صحّ أن هناك ساحة عليها المبادئ والقيم ، كان هناك كتل ثلاث الغرب والشرق والإسلام ، الشرق تداعى من الداخل وانتهى لأنه رفع شعار لا إله بعد سبعين عاماً وهو من أعتى القوى في الأرض ، انتهى تداعى من الداخل وكفى الله المؤمنين القتال ، بقي على ساحة المبادئ والقيم كتلتان كبيرتان الغرب والإسلام .
الحقيقة تقال : الغرب قوي جداً وغني جداً وذكي جداً ، وطرح قيماً سابقاً رائعة جداً ، كرم الإنسان ، طرح قيمة الحرية ، وقيمة الديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، والرفق بالحيوان ، وتكافؤ الفرص ، والعولمة ، احترام جميع الأديان ، وحق المقاضاة ، إلى ما هنالك ، الذي حصل بعد الحادي عشر من أيلول أن هذا الغرب الذي كان حضارة نافست الإسلام حتى صار الذي معه بطاقة خضراء كأنه دخل الجنة ، بعد أن كان طموح أي شاب أن يصل إلى هناك ، هذا الغرب الذي نافس الإسلام بعد الحادي عشر من أيلول انتهى كحضارة وبقي قوة غاشمة ، بقي قوة غاشمة ولم يبقَ على ساحة المبادئ والقيم إلا الإسلام ، مع أن الإسلام تشن عليه حرب عالمية ثالثة ، مع أن الإسلام يُحارب في كل مكان ، ومع ذلك الإسلام ينمو نمواً يفوق حدّ الخيال ، كنت في فرنسا قبل شهر ، أنبأني من أثق بكلامه أنه يدخل في الإسلام يومياً خمسون فرنسي من أصل فرنسي ، في فرنسا ألفين وسبعمئة مسجد ، والإسلام هو الدين الثاني .
يوجد بأمريكا عشرة ملايين مسلم ، الإسلام ينمو بشكل عجيب ولعل الهجوم عليه من نموه السريع ، لماذا ؟ هناك عالم أمريكي هداه الله إلى الإسلام ، التقى بالجالية الإسلامية في بريطانيا قال : أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اليوم اللحاق بالغرب على الأقل في المدى المنظور لاتساع الهوة بينهما ، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين لا لأنهم أقوياء هم أضعف الناس الآن ، ولكن لأن خلاص العالم في الإسلام . هو الحل الوحيد هو الحل الوحيد والأكيد والفريد والأخير .
البشر جربوا كل شيء ، جربوا مبادئ مستوردة ، هذه المبادئ لم تفلح في تحقيق السلامة والسعادة ؛ بل ساهمت في شقّ صفوف المجتمع البشري ، إلى عشرة بالمئة من أهل الأرض يملكون تسعين بالمئة من ثروات الأرض ، وإلى تسعين بالمئة من أهل الأرض يملكون عشرة بالمئة من ثروات الأرض .
أيها الأخوة الكرام ، الغلاء في المواد الغذائية ليس غلاءً طبيعياً يقتضيه العرض والطلب أبداً ، غلاء الهدف منه تركيع الشعوب لأن الغذاء شيء أساسي في حياة الشعوب ، على كل أيها الأخوة ، هذه المقدمة لموضوع قلما أطرقه إطلاقاً ، الموضوع بعد الحادي عشر من أيلول المساحة الرمادية الواسعة جداً بين الحق والباطل ، يمكن أن أرمز للحق باللون الأبيض الناصع ، والباطل باللون الأسود الداكن ، وكان في قبل خمسين عاماً وإلى عشر سنوات ماضية كان في مساحة واسعة جداً من المنطقة الرمادية بين بين الآن المنطقة الرمادية تلاشت ولم يبقَ إلا الأبيض الناصع والأسود الداكن ، لم يبق إلا ولي وإباحي ، محسن ومجرم ، هذا اسمه انقسام ، العالم انقسم ، لكن الذي يعنيني من هذه المقدمة العالم الإسلامي الأمور واضحة ، الحق واضح أبلج ، القرآن واضح ، طريق الحق واضح ، طريق السعادة واضح ، طريق التعاون واضح ، طريق القوة واضح ، طريق السيطرة واضح ، لكن الناس نائمون في ضوء الشمس والأعداء يعملون ليلاً نهاراً في الظلام ، الذي يعمل في الظلام يسبق النائم في ضوء الشمس .
موضوع هذه الخطبة رقائق كلمات ترقق القلب يعني مثلاً من آيات الرقائق :
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ (16) ﴾
( سورة الحديد)
إلى متى وأنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
تعصي الإله وأنت تظهر حبـه ذاك لعمــري في المقام شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعــته إن المــحب لمن يـحب يطيع
***
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لمــــــا وليت عنا لغيرنا
و لــــو سمعت أذناك حسن خطابنا خلـعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولـــــو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الـذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولــــو نسمت من قربنا لك نسمة لــــمت غريباً واشتياقاً لقربنا
***
هذه رقائق أي كلام يرقق القلب ، يزهدك في الدنيا ، يرغبك في الآخرة ، يحببك بقيام الليل ، بطاعة الله ، ببذل المال ، والغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، هذا الباب في أكثر كتب العلم تحت عنوان الرقائق ، وأنا قلّما أعالج هذا الموضوع .
أردت في هذا الأسبوع أن يكون موضوع الخطبة الرقائق ، من هذه الرقائق حديث لرسول الله يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ )) .
[ أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ]
الْكَيِّسُ ، العاقل الذكي المتفوق الفالح الناجح ، مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ضبطها وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ أما َالْعَاجِزُ يعني غير الذكي ، غير العاقل ، الأحمق ، الغبي مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا و تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ، ترى دعاءً عريضاً منمقاً يا رب لا تسألنا عن شيء ، من قال لك ذلك والله سيسألك عن كل شيء :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ .
( سورة الحجر ) .
تقول لا تسألنا عن شيء ويقول الله عز وجل :
﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ .
( سورة الزلزلة ) .
الله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور :
﴿ فَلَا تظلمُ نفسٌ شيئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) ﴾
( سورة الأنبياء)
ما هذا القول لا تسألنا عن شيء ؟
لذلك يمكن أن تستنبط من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وكأنه بيننا قَالَ َسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ )) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
في العراق في ثلاثين دولة متحالفة مع أمريكا ، في أفغانستان في ثلاثين دولة ، في لبنان في ثلاثين دولة .
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، مليار وخمسمئة مليون لا وزن لهم في الأرض ، ليست كلمتهم هي العليا ، أمرهم ليس بيدهم ، لأعدائهم عليهم ألف سبيل وسبيل ، لا أنتم كثير ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، تصور قش فوق السيل هل يستطيع هذا السيل أن يغير من مجرى السيل ؟ ألا تذكرون قبل الحرب الثانية على العراق ، أن مسيرات في الأرض ما من دولة في الأرض إلا وسارت فيها مسيرات بالملايين ، أنا أذكر هذا تماماً ما من دولة حتى في أمريكا ، حتى في أوربا، في آسيا ، في استراليا ، ما من دولة إلا وسار فيها ملايين مملينة تشجب العدوان على العراق ومع ذلك ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ )) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
(( نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ )) .
[ البخاري ومسلم عن أبي هريرة ]
نحن هزمنا بالرعب مسيرة عام ، أيها الأخوة ، ثم يسأل الصحابة الكرام رسولهم لما يا رسول ؟
((...... وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
إذاً نحن بحاجة إلى رقائق .
هذا الوضع الأمور واضحة ، هناك تقصير بالعبادات ، بالطاعات ، بالأعمال الصالحة ، بالبذل ، بالعطاء ، تصور بلد مثل السودان ، نحن في سوريا والفضل لله عندنا مئة وخمسة وثمانون ألف كيلو متر مربع ، ربع هذه المساحة صالحة للزراعة فقط ، المزروع منها ربع الربع ، واحد على ستة عشر من مئة وخمسة وثمانين ألفاً ، من فضل الله عندنا ستة ملايين طن من القمح لكل سنة ، واستهلاكنا مليون ، وفي الحمضيات سبعمئة ألف طن ، في الزيتون ثاني دولة في العالم ، في القطن من الدول المتقدمة ، هذه المساحة المتواضعة واحد على ستة عشر من مساحة صغيرة جداً مزروعة وهذا إنتاجنا ، حدثني أخ كريم من السودان قال لي : الأرض الصالحة للزراعة في السودان اثنين ونصف مليون كيلو متر ونهر النيل يصب أربعة أخماسه في البحر ، وهذا السودان يحتاج إلى بنية تحتية فقط يطعم العالم الإسلامي بأكمله ، ومع ذلك ترى ألف مليار مودعة في البلاد الغربية لصالح المسلمين ، أليس هذا وصمة عار في حق المسلمين ؟
أيها الأخوة الكرام ، سبب موضوع هذه الخطبة المفارقة الحادة بين وضوح الأمور وبين تقصير المسلمين .
المسلم يحتاج إلى مرقق من هذه المرققات ما ورد في بعض خطب النبي عليه الصلاة والسلام :
إن الأيام تطوى ، والأعمار تفنى ، والأبدان تبلى ، وإن والليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد ، يقربان كل بعيد ، ويخلقان كل جديد .
أيها الأخوة ، كم من مستقبل يوماً وليس يستكمله ، والله بهذا العمر المتواضع بالدعوة إلى الله معي قصص العقل لا يصدقها ، إنسان ما تمكن أن يسكن في البيت الذي جهد في كسوته ، في بأرقى أحياء دمشق بناء فيه سبعة طوابق ، هذه الطوابق يزيد سعر الطابق عن مئة وثلاثين ، مئة وأربعين مليوناً ، هذا أغلى سعر ، سبعة طوابق فارغة الذين اشتروها لم يتمكنوا من سكناها .
كم من مستقبل يوماً ليس يستكمله ، والله جلست مع مدير ثانوية حدثني عن مشاريعه لعشرين سنة قادمة سيسافر إلى الجزائر ، وسيقيم هناك خمس سنوات ، ولن يأتي إلى الشام في الصيف ، وسوف يزور في أول صيف بريطانيا ، وثاني صيف فرنسا ، وثالث إسبانيا ، والرابع سويسرا ، وسوف يعود بعد ذلك يقدم استقالته ، يأخذ التقاعدية ، ينشئ محلاً للتحف ، لعشرين سنة قادمة ، والله في اليوم نفسه رأيت نعوته على الجدران .
كم من مستقبل يوماً ليس يستكمله ، أخوانا الكرام من هذه المنطقة والله صالحون أحدهم إمام مسجد صلى الظهر إماماً وكان العصر مدفون ، في جامع الشافعي في المزة في مجموعة من أخوتنا الكرام يصلون أحدهم صاحب دعابة كلما خرجوا من المسجد يلقي على مسامعهم دعابة ، في أحد الأيام صلى الفجر في المسجد والظهر في المسجد وكان مع أذان العصر تحت أطباق الثرى ، قصص كثيرة لا تعد ولا تحصى .
كم من مستقبل يوماً ليس يستكمله ، من يملك أن يعيش لساعة قادمة ؟ أحد كبار علماء الشام كان يحضر خطبة في جامع الحسن ، والخطيب هناك فكرة يناقشها قال والله لنسأل الأستاذ فلان ، كان ميتاً في صحن المسجد ، طبعاً أجمل موتة ، مات وهو يؤدي الصلاة في المسجد ، وعندنا أحد الأخوان مرة توفي وهو في الجامع ، وهو في صلاة الجمعة ، من يملك أن يعيش لثانية ، هل أعددنا العدة ، أساساً تطور الصحة يضعف بصره ، يصلح أسنانه ، يعالج نفسه ، يقول لك معي أسيد أوريك ، معي شحوم ثلاثية ، معي معي ، هذه كلها الأعراض السلبية الصحية ، هذه رسائل لطيفة من الله أن يا عبدي قد اقترب اللقاء ، فهل أنت مستعد له ؟ هيأت حالك ، تنتقل من بيت مئتي متر إلى قبر ، من غرفة نوم ، وغرفة ضيوف ، وغرفة طعام ، وغرفة جلوس ، مطبخ ، جميع الأجهزة موجودة في البيت ، هيأت نفسك من بيت إلى قبر ماذا في القبر .
وإن أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، و أحزمكم أشدكم استعداداً له ، ألا و إن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، و الإنابة إلى دار الخلود ، و التزود لسكنى القبور ، و التأهب ليوم النشور .
النبي عليه الصلاة والسلام سئل :
(( أيّ المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقاً ، قال : فأي المؤمنين أكيس ؟ يعني أعقل ، قال : أكثرهم للموت ذكراً ، وأحسنهم لما بعده استعداداً قبل أن ينزل بهم أولئك من الأكياس ))
[صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ]
أحد علماء دمشق اشترى قبراً قبل موته بخمس سنوات كان يزور مع بعض أخوانه قبره كل يوم خميس ، يا بني هنا المصير ، أحد الصالحين حفر قبراً في بيته ، وصار يضطجع فيه كل يوم خميس ، ويتلو قوله تعالى :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
( سورة المؤمنون)
فيخاطب نفسه ويقول : قومي لقد أرجعناك ، تفضلي ، سيدنا علي له كلام طيب من الرقائق قال :
" أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع وأن أضمرتم ، وبادروا الموت الذي إن هربتم منه أدرككم ، و إن قمتم أخذكم ، ليس قبل الموت إلا والموت أشد منه ، وليس بعد الموت شيء إلا والموت أيسر منه ".
أيها الأخوة الكرام ، بالمناسبة معظم الناس يعيشون الماضي يقول لك كنت وكنت ، خاصة المتقاعدين ما عنده حديث ثانٍ ، كنت رئيس دائرة ، عملت كذا ، فعلت كذا ، وهناك ناس يعيشون الحاضر ، هؤلاء أكثر ذكاء ، أما هناك أشخاص أذكياء جداً يعيشون المستقبل ، أخطر حدث في المستقبل ، أخطر حدث الانتقال للدار الآخرة ، حينما أرى جنازة ختم عمله لا يوجد حل ثالث ، هناك خياران لا ثالث لهما ، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ، الذي في هذا النعش أمام خيارين ، الإنسان حينما يولد أمام مليون خيار إذا جاءه الموت أمام خيارين إما إلى جنة يدوم نعيمها أو إلى نار لا ينفذ عذابها .
قال بعضهم السعيد لا يركن إلى الخدع ولا يغتر بالطمع ، وقال بعضهم إن بقاءك إلى فناء ، الإنسان مكانته ، هيمنته ، ذكاؤه ، ألمعيته ، أعوانه ، أتباعه ، هيمنته ، كل هذا الكم من الإنجاز منوط بقطر شريانه التاجي فإذا أغلق وضعت النعوة على الجدارن ، كل هذه المكانة منوطة بنبض القلب ، فإذا توقف القلب كل أملاكه لغيره ، كل هذه المكانة بنمو الخلايا ، فإذا نمت نمواً عشوائياً الإنسان بثانية يموت ، بثانية يغادر الدنيا .
إن بقاءك إلى فناء ، وفناءك إلى بقاء ، بقاؤك في الدنيا إلى فناء وفناؤك بعد الدنيا إلى شقاء أبدي ، فخذ من فنائك الذي لا يبقى إلى بقائك الذي لا يفنى .
أيها الأخوة ، مرة ألقيت خطبة هذه القصة منذ اثنتي عشرة سنة عنوانها ماذا بعد ؟ جمعنا أموالاً طائلة ماذا بعد ؟ القبر ، بلغنا إلى أعلى منصب ماذا بعد ؟ القبر ، أنجبنا أولاداً نجباء ماذا بعد ؟ القبر ، استمتعنا بالحياة ماذا بعد ؟ تصور سباق أول مركبة تسقط في حفرة عميقة مالها من قرار ، والثانية تسقط ، بأي موقع أنت ، بأي مكانة ، بأي حجم ، بأي ثروة ، بأي منصب ، الموت مصير كل حي ، الأنبياء ماتوا ، الأقوياء ماتوا ، لذلك ماذا بعد ؟ دائماً فكر ماذا بعد أن أصل إلى هذا الهدف ؟ سيدنا عمر بن عبد العزيز قال : تاقت نفسي إلى الإمارة فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الخلافة ، ما شاء الله طموح ، قال فلما بلغتها قال تاقت نفسي إلى الجنة .
أنت ممكن أن يكون لك تجارة عريضة ، إنجاز ضخم ، لكن هذا موظف للآخرة ؟ إن كان للآخرة اشتغل في الدنيا قدر ما تستطيع ، لأن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح .
أيها الأخوة الكرام ، المؤمن عاداته عبادات ، اشترى سيارة أخذ أهله نزهة أنا موقن بهذا الشيء ، عاداته اليومية التي يفعلها كل الناس ، عادات المؤمن عبادات وعبادات المنافق سيئات ، قال بعضهم أقلل من الدنيا تعش حراً ، الآن استغني عن الرجل تكن نظيره ، أحسن إليه تكن أميره ، احتج إليه تكن أسيره ، أي شخص أمامك تستغني عنه نظيره ، تحسن إليه أنت أميره ، تحتاجه أنت أسيره ، بإمكانك أن تحدد موقع الذي أمامك إما تكون له أمير أو نظير أو أسير ، هذه من المرققات .
مثلاً ما مضى فات والمؤمل غيب ، الماضي مضى ، الماضي لا يسترجع ، والمستقبل ليس بيدك ، ولك الساعة التي أنت فيها ، ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها .
هناك قول آخر هنالك خمسة أيام يوم مفقود الماضي ، ويوم مشهود ، ويوم مورود الموت ، ويوم موعود القيامة ، ويوم ممدود إلى أبد الآبدين ، أخطر هذه الأيام اليوم المشهود ، هلك المسوفون ، تريد أن تتوب تُب الآن ، قال بعض الصحابة الكرام نبه بالتفكر قلبك ، وجاف عن النوم جنبك ، واتقِ الله ربك .*
وقال سيدنا عمر ارض بالقوت وخف من الفوت ، وقال بعض العلماء : ما رأيت يقيناً لاشك (كالموت) فيه أشبه بشك لا يقين فيه ، كالحياة الدنيا .
أيها الأخوة ، ألفنا بحياتنا أن نعد أعمارنا عدّاً تصاعدياً ، أنا عمري ثلاثة وستون عاماً ، سبعة وستون ، سبعون ، خمسة وثمانون ، أحياناً الإنسان يفتخر أن عمره مديد ، لكن ينبغي أن تعده عدّاً تنازلياً أن تقول كم بقي ؟ شخص وصل للأربعين يقول لك : أنا أربعون سنة كيف مضت ؟ يقول لك كلمح البصر ، إذا مضت الأربعون كلمح البصر ولو عشت أربعين قادمة سوف تمضي كلمح البصر فماذا تبحث ؟ ماذا تهدف ؟ ماذا تعمل ؟
السعيد من اعتبر بأمسه والشقي من جمع لغيره ، أندم الناس رجل عاش فقيراً ليموت غنياً ، أندم الناس رجل دخل ورثته بماله الجنة ودخل هو بماله النار .
(( إن روح الميت ترفرف فوق النعش تقول : يا أهلي ، يا ولدي ، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم ، فأنفقته في حله ، وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعة علي )).
ورد في الأثر
بعضهم قال : رتعنا في الدنيا جاهلين وعشنا فيها غافلين وأخرجنا منها كارهين .
والله أعرف رجلاً بعيداً عن الالتزام بعد الأرض عن السماء ، يميل إلى النساء ميلاً غير طبيعي ، تزوره مغنيات في بيته ، أصيب بمرض عضال وهو في الأربعين ، وتجارته رابحة جداً ، ودخله كبير ، وعنده مرح عجيب ، هو قريب أحد أخواني يحدثني عنه كثيراً هذا المرض ما أخبروه به ظن أنه مرض عارض ، فلما علم بأنه مصاب بمرض عضال أصبحت تأتيه تشنجات نوبية يقول لا أريد أن أموت ، فلما جاء ملك الموت يقسم بالله العظيم أهل البناء أنه صاح صيحة لم يبق بالأربعة طوابق أحد إلا سمعها ، ما الموت ؟ أيها الأخوة الكرام ، الموت عندنا فكرة الآن ، الله يتم فضله عليكم بالصحة لكن الموت عندما يأتي حقيقة شيء مخيف ، إنسان مفرط في طاعته جاءته أزمة قلبية ، وضعوه في المستشفى بالعناية المشددة ، يقول يخاطب ربه ألقاك وأنا عارٍ ، ماله ولا عمل صالح يا رب أمهلني ، أمهله الله عز وجل ، تابع الدروس في المساجد ، قال مرة ناجيت ربي قلت يا رب كل هذه السعادة بمعرفتك لما لم ترسل لي هذه الأزمة منذ عشر سنوات ، كل هذه السعادة بمعرفتك ، هذا الإنسان ماله منتبه لنفسه ، هذا العمر محسوب ، أنت بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، لو الساعة نظرت لها حركة عقارب ، الثواني كلما تحرك حركة نقص عمرك ، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه .
أيها الأخوة الكرام ، حديث أرويه كثيراً :
(( بادروا إلى الأعمال الصالحة ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غِنَىً مُطْغِياً ، أو فَقْراً مُنْسِياً ، أو مَرَضاً مُفْسِداً ، أو هَرَماً مُقَيِّداً ، أو مَوْتاً مُجْهِزاً ؛ أو الدجال ، فالدجال شرُّ غائِبٍ يُنْتَظَر ؛ أو السَّاعَةُ ، والساعة أدهى وأَمَرّ )) .
[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]
هناك سبعة أشياء ممكن شخص ينجو منها ؟ مستحيل هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ كاد الفقر أن يكون كفراً ، يكون وكيل شركة تسحب منه الشركة وعليه ديون والتزامات والمنافس باع بسعر أقل فلس ، كان غنياً صار فقيراً هذا فقر منسي ، أو غِنَىً مُطْغِياً ؟ شخص من هذه البلدة وله زوجة محجبة ، سافر لبلد ، والله رزقه ثروة طائلة جداً تتصل به زوجته قال لها إن لم تأت إليّ بالبنطال لا أقبلك ، محجبة ترتدي معطفاً وتكلم كلاماً آخر قبيحاً لا أستقبلك كزوجة ، هذا الغنى المطغي بعدما اغتنى يحب المعصية .
هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ هناك مرض يا أخوان يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق ، اسألوا الله العافية ، اسألوا الله دوام العافية وتمام العافية ، إنا نعوذ بك من عضال الداء ومن شماتة الأعداء ومن السلب بعد العطاء ، أو هَرَماً مُقَيِّداً ، يعيد القصة مئة مرة ، يكرهه أولاده ، يصبح حشرياً ، ظله ثقيل ، يتمنى من حوله أن يموت ، أو هَرَماً مُقَيِّداً ، أو مَوْتاً مُجْهِزاً ، أو الدجال شرُّ غائِبٍ يُنْتَظَر ؛ أو السَّاعَةُ ، والساعة أدهى وأَمَرّ .
أيها الأخوة الكرام ، هناك قول رائع جداً قال تعالى :
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ﴾
( سورة يونس)
بعض العلماء شرح من هم قال : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها فكر بالقبر تحت الأرض ، الناس همهم البيوت أربعمئة متر ، له إطلالة ثمنه ، الناس ينظرون إلى ظاهر الدنيا ما فوق الأرض ، هو بأوج شبابه نظر إلى باطنها ، الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، ونظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن يميت قلوبهم ، وتركوا منها ما أيقنوا أنه سيتركهم ، فقال سيدنا عمر تعقيباً على هذه الآية : إذا رأيتم طالب الآخرة فنافسوه فيها وإذا رأيتم طالب الدنيا فارفضوها في نحره .
سيدنا أبو الدرداء يخاطب أهل الشام يقول : يا أهل الشام اسمعوا قول أخ ناصح مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون ، وتجمعون ما لا تأكلون ، إن الذين كانوا قبلكم بنوا فشيدوا ، وأملوا بعيداً ، وجمعوا كثيراً ، فأصبح أملهم غروراً ، وجمعهم ثبوراً ، ومساكنهم قبوراً .
أيها الأخوة ، هذه بعض الرقائق التي لعل القلب يرق لها ، فالإنسان عندما ينشحن يومياً ، أنت أيها المؤمن أنا متأكد من هذا التطابق ، أنت كالهاتف المحمول إنجاز كبير جداً لكنه يحتاج إلى شحن ، إن لم تشحنه انطفأت الشاشة وسكت ما عاد هاتف بقي صامتاً ، بقي أخرساً ، مظلماً ، لابدّ من الشحن ، هناك شحن يومي خمس صلوات ، شحن أسبوعي صلاة الجمعة ، شحن سنوي رمضان ثلاثين يوماً ، شحن العمر الحج ، هذا شحن فما لم نشحن أنفسنا تمت قلوبنا .
أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى صحابته الغر الميامين و على آل بيته الطيبين الطاهرين .
أيها الأخوة ، لذلك بناء على هذا الموضوع أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن نكثر من هادم اللذات مفرق الأحباب مشتت الجماعات .
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به )) .
[ أخرجه الشيرازي عن سهل بن سعد و البيهقي عن جابر ] .
تعلق بالحي الذي لا يموت أما إذا تعلقت بالحي الذي يموت لابدّ من أن تتركه ، أو أن يتركك ، ما سوى الله تتركه أو يتركك ، تعلق بالحي الذي لا يموت ، تعلق مع الأزلي الأبدي ، تعلق مع من بيده الجنة والنار ، تعلق مع من مصيرك إليه :
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾
(سورة الغاشية)
يا أيها الأخوة هناك موظفون أذكياء جداً يشعرون أن الوزارة سوف تستقيل ، يحاول ، يستوضح من الوزير القادم لهذه الوزارة ؟ حتى ينشئ معه علاقات طيبة قبل أن يصبح وزيراً ، يزوره ، يقدم له هدايا ، عندما يصبح وزيراً ، مركزه قوي يفكر لمسافات بعيدة ، أنت بالنهاية علاقتك مع من ؟ مع الله :
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾
(سورة الغاشية)
بطولتك أن تقيم علاقة متميزة بشكل خاص مع من مصيرك إليه ، الله عز وجل رحيم ومنهجه حكيم وواقعي وضمن استطاعتك ، ما كلفك فوق ما تطيق :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (286) ﴾
( سورة البقرة )
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، انصر المسلمين في كل مكان ، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين ، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .
والحمد لله رب العالمين