عصفت بالاقتصاد العالمي خلال الأيام الماضية أزمة مالية ضخمة، ارتجت لها أسواق العالم، وتهاوت معها مؤسسات مالية ضخمة، وترنحت أمامها أكبر دولة في العالم، وهي الولايات المتحدة.
ولكي نفهم الأمر، لابد أن نلقي نظرة سريعة على الموضوع من بدايته، فأساس المشكلة كلها هي الولايات المتحدة – فرقها الله وشتتها -، وأساس الأمر من الربا الذي يقود منظومته في العالم اليهود عليهم لعائن الله، والذين حرّم الله عليهم الربا في شريعتهم، وكذلك حرمها على النصارى، وفي كل شريعة سماوية، لكنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وألقوا كلام الله تعالى وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم بغير علم، ومعلوم للكل أن لليهود يد طولى في اقتصاد أمريكا ومؤسساتها المالية، وأنهم يتحكمون بميزانيات ضخمة هنا وهناك في العالم، ولذا فإنهم قادة الانحراف وأساس البلاء.
في أمريكا كل شيء بالآجل ( credit ) فيمكنك – طالما أن لديك راتباً شهرياً – يمكنك أن تشتري ما تشاء بالأقساط، كذلك يملك معظم الناس بطاقة ائتمان؛ بل بطاقات تعطيهم سقفاً عالياً من المشتريات وتمكنهم من الإسراف والتبذير وممارسة الحياة الرأسمالية بكل أشكالها، حتى أن سقف الشراء قد يصل إلى مائة ألف دولار للبطاقة الواحدة، وبمجرد انضباطك مع شركة بطاقات ائتمان لفترة زمنية، فإنهم يزيدون سقف بطاقتك.
ولدى أي إنسان رغبة في امتلاك بيت خاص له، وبالأخص في أمريكا، فإن من مكونات الحلم الأمريكي أن يمتلك الشخص بيتاً مستقلاً له حديقة ومواصفات يعرفها من عاش هناك وله صلة بالمجتمعات الأمريكية، وهكذا تجتهد شركات العقار في بيع البيوت بالآجل، وتأتي شركات لتقييم البيوت، وتتم رشوة المخمنين ليزيدوا من قيم البيوت، مما أدى إلى ارتفاع أسعار العقار بشكل كبير، وربما اشترى شخص بيتاً كبيراً يصل ثمنه إلى سبعمائة ألف أو مليون دولار، وراتبه لا يتجاوز ثلاثة آلاف دولار عن طريق البنك وبفائدة معينة ويتم رهن البيت، وتقوم شركات التأمين بضمان السداد بضمانة البيت أيضاً، أو بضمانة راتب الشخص، وهكذا تتكئ مؤسسة مالية على أخرى، ولكن المفاجأة إن البنوك الأمريكية التي تعطي القروض ليس لديها أصول مالية أو عقارية تملكها وتغطي بها تلك القروض، بل هي تعتمد على ودائع خارجية – يمكن أن تسحب في أي وقت- وتعتمد على سمعة أمريكا كبلد يسود العالم ويملي على الدنيا دولاره ومنهج اقتصاده، ويفرض اتفاقيات التجارة الحرة على العديد من الدول.
ومن قبل فإن أمريكا نفسها كدولة، قامت قبل ما يقرب من عشرين سنة ببيع ذهبها الذي كان يغطي عملتها، وأصبح الدولار ليس له غطاء من الذهب أو أي معدن آخر، بل إن أمريكا المعجبة بنفسها، والمنتشية على الدنيا بأسرها، تطبع دولاراتها بدون حساب وبلا غطاء، معتمدة فقط على سمعتها وجيشها وأساطيلها ومساطيلها الذين يجوبون العالم بطشاً وإرهاباً.
ونعود إلى العقارات التي يشتريها المواطن الأمريكي، حيث أن هذه الشركات وبالتعاون مع البنوك، تغري المواطن بأن يشتري البيت بفائدة مخفضة لأول سنة أو سنتين، ومن ثم تتضاعف الفائدة وتزيد حتى تزيد من أرباحها، وتسرع في جني أموالها، ومع موجة الغلاء العالمي التي تسببت به أمريكا نفسها؛ جراء ضغطها لرفع أسعار البترول، والتطاول على القمح والغذاء في العالم وتحويل كمية كبيرة منه إلى وقود حيوي، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وخاصة للمحروقات، وصاحبها ارتفاع في أسعار معظم المواد، فتسبب ذلك بضغط على المؤسسات والأفراد، فأصبح المواطن الأمريكي العادي يعاني معاناة كبيرة حيث أن تكاليف المعيشة زادت عليه بشكل كبير، وفي نفس الوقت الفوائد ارتفعت، بل إن بعض المؤسسات المالية رفعت سعر الفائدة قبل الموعد المحدد بسبب الظروف الاقتصادية، ومعظم هذه الشركات لديها عقود كبيرة يوقع عليها المواطن العادي بدون التدقيق في تفاصيلها، مما يبيح لها رفع سعر الفائدة قبل الموعد المحدد.
كل ما سبق أدى إلى عدم قدرة المواطنين على السداد، وبالتالي أصبح المواطن الأمريكي – ومثله آخرين في بلدان أخرى – بين نارين، إما يدفع الأقساط المتزايدة وهو فوق طاقته، وإما أن يسلم البيت للبنك، وهذا هو الحل الأسهل، ودخل الناس في إشكاليات كبيرة، فتوقف كثير منهم عن السداد، ولم تستطع البنوك أن تدفع للشركات، ولم تستطع شركات التأمين الوفاء بالسداد، وجرّت هذه المنظومة القائمة على الفوائد الجشعة كل الأنظمة المالية المرتبطة بها في العالم، وبدأت المؤسسات المالية بالانهيار واحدة تلو الأخرى، وبدأت قيمة العقار بالنزول، لأن المعروض أصبح أكثر من المطلوب، وكثير من الناس سيترك بيته، بل إن أعداداً بمئات الألوف مهددون بالتشرد مع نهاية عام 2008، وسبحان الله كيف أن أمريكا التي شردت مئات الآلاف من الناس في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال، تذوق من نفس الكأس، وها هم مواطنوها على أعتاب تشرد حقيقي أمام حكومتهم، وهي لا تملك لهم نفعاً !!
ومع تبسيطنا للأمر، إلا أننا نتكلم عن بلد كأمريكا يقرب عدد سكانه من مائتين وثمانين مليوناً، ولذا فإن أرقام الخسائر للبنوك أصبحت بالمليارات، وبدأت الإدارة الأمريكية بمحاولة إنقاذ الوضع، وسعت لضخ المليارات في الميزانية – مستعينة بأصدقائها من العربان وغيرهم - لتوقف انهيار المؤسسات المالية، وتضمن الودائع والقروض، لكن اتسع الخرق على الراقع، ولن تتمكن بإذن الله تعالى من معالجة الأمر، حتى ولو تظاهرت بذلك وحاولت، لكن الحكم الإلهي صدر من قبل: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات }.
ولننتقل الآن إلى المشهد الآخر حيث المنهج الإسلامي يرشدنا إلى حقيقة الأمر وتفاصيله، وذلك في كتاب الله تعالى، وكأن الآيات تتنزل علينا الآن، فرب العزة سبحانه وتعالى يقول:
{ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
ولنلاحظ كيف يصف القرآن الكريم آكلي الربا، بأنهم لا يقومون، والقيام يكون بعد القعود أو السقوط، فمن أكل الربا سواءً من الأفراد أو المؤسسات والدول وقع وسقط، وعند محاولته القيام من سقطته، فإنه يتخبط ويضطرب، كالذي يضربه الشيطان ويخبطه ويصيبه بالمس، والسبب أنهم قالوا – ومارسوا- أن الربا وأكل أموال الناس بالباطل والجشع والتطاول على الأموال، إنما هو كالبيع العادي، وقد أصبح الربا عند كثير من الناس أمراً عادياً، فأحدهم يعيش وبيته وسيارته وأقساط جامعة أبنائه وسفره وكثير من شؤون حياته عبارة عن أقساط ربوية من البنوك !! بل الأشد من ذلك والأدهى أن بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي قد أحل التعامل مع البنوك والعمل فيها، وقال إن الفائدة التي يأخذها البنك إنما هي نظير عمله بالمال وهو كالمضاربة !!
فتأتي الآيات لتفرق بين الربا والمنهج الباطل، وبين البيع والمنهج الحق، فمن جاءه موعظة وتنبيه من الله تعالى فاتعظ وأخذ العبرة وانتهى عن الربا، فله رأس ماله وأمره إلى الله، إن علم أنه صادق وأنه تاب توبة نصوحاً، فإنه تعالى يغفر له ويقربه، ويرحمه، وأما من عاد مرة أخرى، ولم يستطع أن ينفك عن البنوك بأي حجة كانت، فأولئك أصحاب النار، سيخلدون فيها ما شاء الله تعالى لهم ذلك.
ثم يأتي الحكم الإلهي النهائي القاطع بأن الربا مصيره إلى المحق {يمحق الله الربا}، فلا يتصور أي مؤمن بالله تعالى، أن المرابي وأن البنك الربوي سيدوم أبداً، وللأسف كم ذكرنا هذا لبعض الناس، فكانوا يستهزئون، ويقولون دعكم يا أيها المتدينون من هذه الدروشات، وأفيقوا إلى حقيقة أن العالم كله يعمل بهذا النظام، وأنه لا فكاك لأحد عنه، وأنه لا يمكن لبنوك قوية تملك المليارات أن تضعف وتسقط، ويعددوا لك أسماء لامعة كبيرة في عالم الربا، وأنها تعمل منذ عشرات السنين، وما درى هؤلاء أن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأنه برحمته وكرمه يعطي الناس الفرصة تلو الفرصة ليغيروا وليتوبوا، فإن لم يرتدعوا عاملهم بقوانينه العادلة، وأصابهم بما كان قد أوعدهم به.
وأما الآية التي تليها فإنني كنت دائماً أتعجب من ورودها في هذا الموضع بين آيات الربا، وأتساءل ما حكمة الله تعالى أن تأتي في هذا الموضع، فأول الآيات تتكلم عن آكلي الربا وأنهم لا يقومون إلا كالمتخبط، ثم محق الربا، وبعد هذه الآية، توجيه للمؤمنين ليتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا، لكن هذه الآية: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
ما مناسبتها؟ فإذا بها في صميم المعنى لمن تدبرها، فمن أكل الربا تخبط واضطرب ومحق، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات – لاحظ أنهم يعملون ويجتهدون، لا يركنون إلى التمويل ليزيد من أموالهم بدون أن يحركوا العمل في المجتمع – والذين يقيمون الصلاة ويجتهدون في الاستقامة على منهج الله تعالى، ويعطوا الزكاة لمستحقيها، أي أنهم حققوا العمل لعمارة المجتمع، ومن كان له ظرف خاص من المرضى والعجزة والأيتام وغيرهم ممن لا يستطيع العمل فإنهم يعطونه الزكاة ويكفونه، فهؤلاء لا خوف عليهم من أزمات اقتصادية أو مالية، ولا يحزنون من انهيارات، ولا تصيبهم الكآبة والضغط والأمراض!!
ثم يتواصل التوجيه لأهل الإيمان، الذي آمنوا بالله تبارك وتعالى وبمنهجه، ولكنهم مازالوا يتعاملون بالربا، فإن الله تعالى يذكرهم ويدعوهم إلى التقوى وترك ما بقي من الربا في اقتصادهم وفي حياتهم:
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }، إن كانوا مؤمنين حقاً، وإن لم يفعلوا واستمروا في غيهم ومتابعتهم للأمريكان والغربيين، فإن الأمر جد خطير، حيث أعلن الله تبارك وتعالى عليهم الحرب، وهو أمر خطير جداً:
{فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون }.
وإن تبتم، فلكم رءوس أموالكم، ومن كان معسراً لا يستطيع السداد فأنظروه واصبروا عليه، وإن استطعتم أن تتصدقوا عليه بمسامحته بما لكم عليه أو بجزء منه، فهو خير لكم وأعظم أجراً عند الله تعالى.
فهل رأيتم روعة هذا المنهج الرباني العظيم، وحمايته للأفراد والمجتمعات الإسلامية من الربا ومخاطره.
وعليه فإن المؤمن بالله تعالى ينبغي عليه أن يلتزم بمنهج الله عز وجل، ويحافظ على دينه، ولا ينساق وراء المغريات الشيطانية، والتي تدعوه إلى الربح المضمون والسريع، ومثال ذلك البورصات العالمية التي انتشر التعامل بها مؤخراً وخاصة في عدد من الدول العربية والإسلامية، وقد حذرنا منها مراراً وتكراراً ولكن للأسف بعض الناس ليس عنده وازع من دين وتقوى، ويبحث عن بعض الفتاوى المتعجلة التي أطلقها عدد من العلماء، والذين للأسف لم يدرسوا المسائل بشكل صحيح، وقد كانت من ضمن منظومة الاحتيال العالمي على أموال الناس لسحبها إلى أمريكا والدول الغربية، ومحاولة التخفيف من أزمة الرهن العقاري التي عصفت بأمريكا، والتخفيف من ارتفاع الأسعار في أوروبا، وقد أدت لخسائر كبيرة للناس في عدد من الدول.
وكل نظام لا يتبع فيه منهج الله تعالى في انضباط العمل، وتدوير رأس المال ومنع الغبن والغرر، ومنع أكل المال بالباطل، فإن مآله إلى المحق والزوال، والعجيب أن كبار الماليين الغربيين بدأوا بالاقتناع بالنظام المالي الإسلامي، وبدأوا بدعوة حكوماتهم للتعامل بالنظام المصرفي الإسلامي، والسعي للوصول إلى أن تكون الفائدة صفراً، وأن يتم تشغيل المال في مشاريع حقيقية، لا أن يتم الإقراض وفقط.
فهل يعقل المسلمون روعة المنهج الذي لديهم، وهل نأخذ العبرة والعظة مما حدث، فنعود بحق إلى الله تعالى في كل شؤون حياتنا !!
منقول
ولكي نفهم الأمر، لابد أن نلقي نظرة سريعة على الموضوع من بدايته، فأساس المشكلة كلها هي الولايات المتحدة – فرقها الله وشتتها -، وأساس الأمر من الربا الذي يقود منظومته في العالم اليهود عليهم لعائن الله، والذين حرّم الله عليهم الربا في شريعتهم، وكذلك حرمها على النصارى، وفي كل شريعة سماوية، لكنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وألقوا كلام الله تعالى وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم بغير علم، ومعلوم للكل أن لليهود يد طولى في اقتصاد أمريكا ومؤسساتها المالية، وأنهم يتحكمون بميزانيات ضخمة هنا وهناك في العالم، ولذا فإنهم قادة الانحراف وأساس البلاء.
في أمريكا كل شيء بالآجل ( credit ) فيمكنك – طالما أن لديك راتباً شهرياً – يمكنك أن تشتري ما تشاء بالأقساط، كذلك يملك معظم الناس بطاقة ائتمان؛ بل بطاقات تعطيهم سقفاً عالياً من المشتريات وتمكنهم من الإسراف والتبذير وممارسة الحياة الرأسمالية بكل أشكالها، حتى أن سقف الشراء قد يصل إلى مائة ألف دولار للبطاقة الواحدة، وبمجرد انضباطك مع شركة بطاقات ائتمان لفترة زمنية، فإنهم يزيدون سقف بطاقتك.
ولدى أي إنسان رغبة في امتلاك بيت خاص له، وبالأخص في أمريكا، فإن من مكونات الحلم الأمريكي أن يمتلك الشخص بيتاً مستقلاً له حديقة ومواصفات يعرفها من عاش هناك وله صلة بالمجتمعات الأمريكية، وهكذا تجتهد شركات العقار في بيع البيوت بالآجل، وتأتي شركات لتقييم البيوت، وتتم رشوة المخمنين ليزيدوا من قيم البيوت، مما أدى إلى ارتفاع أسعار العقار بشكل كبير، وربما اشترى شخص بيتاً كبيراً يصل ثمنه إلى سبعمائة ألف أو مليون دولار، وراتبه لا يتجاوز ثلاثة آلاف دولار عن طريق البنك وبفائدة معينة ويتم رهن البيت، وتقوم شركات التأمين بضمان السداد بضمانة البيت أيضاً، أو بضمانة راتب الشخص، وهكذا تتكئ مؤسسة مالية على أخرى، ولكن المفاجأة إن البنوك الأمريكية التي تعطي القروض ليس لديها أصول مالية أو عقارية تملكها وتغطي بها تلك القروض، بل هي تعتمد على ودائع خارجية – يمكن أن تسحب في أي وقت- وتعتمد على سمعة أمريكا كبلد يسود العالم ويملي على الدنيا دولاره ومنهج اقتصاده، ويفرض اتفاقيات التجارة الحرة على العديد من الدول.
ومن قبل فإن أمريكا نفسها كدولة، قامت قبل ما يقرب من عشرين سنة ببيع ذهبها الذي كان يغطي عملتها، وأصبح الدولار ليس له غطاء من الذهب أو أي معدن آخر، بل إن أمريكا المعجبة بنفسها، والمنتشية على الدنيا بأسرها، تطبع دولاراتها بدون حساب وبلا غطاء، معتمدة فقط على سمعتها وجيشها وأساطيلها ومساطيلها الذين يجوبون العالم بطشاً وإرهاباً.
ونعود إلى العقارات التي يشتريها المواطن الأمريكي، حيث أن هذه الشركات وبالتعاون مع البنوك، تغري المواطن بأن يشتري البيت بفائدة مخفضة لأول سنة أو سنتين، ومن ثم تتضاعف الفائدة وتزيد حتى تزيد من أرباحها، وتسرع في جني أموالها، ومع موجة الغلاء العالمي التي تسببت به أمريكا نفسها؛ جراء ضغطها لرفع أسعار البترول، والتطاول على القمح والغذاء في العالم وتحويل كمية كبيرة منه إلى وقود حيوي، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وخاصة للمحروقات، وصاحبها ارتفاع في أسعار معظم المواد، فتسبب ذلك بضغط على المؤسسات والأفراد، فأصبح المواطن الأمريكي العادي يعاني معاناة كبيرة حيث أن تكاليف المعيشة زادت عليه بشكل كبير، وفي نفس الوقت الفوائد ارتفعت، بل إن بعض المؤسسات المالية رفعت سعر الفائدة قبل الموعد المحدد بسبب الظروف الاقتصادية، ومعظم هذه الشركات لديها عقود كبيرة يوقع عليها المواطن العادي بدون التدقيق في تفاصيلها، مما يبيح لها رفع سعر الفائدة قبل الموعد المحدد.
كل ما سبق أدى إلى عدم قدرة المواطنين على السداد، وبالتالي أصبح المواطن الأمريكي – ومثله آخرين في بلدان أخرى – بين نارين، إما يدفع الأقساط المتزايدة وهو فوق طاقته، وإما أن يسلم البيت للبنك، وهذا هو الحل الأسهل، ودخل الناس في إشكاليات كبيرة، فتوقف كثير منهم عن السداد، ولم تستطع البنوك أن تدفع للشركات، ولم تستطع شركات التأمين الوفاء بالسداد، وجرّت هذه المنظومة القائمة على الفوائد الجشعة كل الأنظمة المالية المرتبطة بها في العالم، وبدأت المؤسسات المالية بالانهيار واحدة تلو الأخرى، وبدأت قيمة العقار بالنزول، لأن المعروض أصبح أكثر من المطلوب، وكثير من الناس سيترك بيته، بل إن أعداداً بمئات الألوف مهددون بالتشرد مع نهاية عام 2008، وسبحان الله كيف أن أمريكا التي شردت مئات الآلاف من الناس في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال، تذوق من نفس الكأس، وها هم مواطنوها على أعتاب تشرد حقيقي أمام حكومتهم، وهي لا تملك لهم نفعاً !!
ومع تبسيطنا للأمر، إلا أننا نتكلم عن بلد كأمريكا يقرب عدد سكانه من مائتين وثمانين مليوناً، ولذا فإن أرقام الخسائر للبنوك أصبحت بالمليارات، وبدأت الإدارة الأمريكية بمحاولة إنقاذ الوضع، وسعت لضخ المليارات في الميزانية – مستعينة بأصدقائها من العربان وغيرهم - لتوقف انهيار المؤسسات المالية، وتضمن الودائع والقروض، لكن اتسع الخرق على الراقع، ولن تتمكن بإذن الله تعالى من معالجة الأمر، حتى ولو تظاهرت بذلك وحاولت، لكن الحكم الإلهي صدر من قبل: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات }.
ولننتقل الآن إلى المشهد الآخر حيث المنهج الإسلامي يرشدنا إلى حقيقة الأمر وتفاصيله، وذلك في كتاب الله تعالى، وكأن الآيات تتنزل علينا الآن، فرب العزة سبحانه وتعالى يقول:
{ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
ولنلاحظ كيف يصف القرآن الكريم آكلي الربا، بأنهم لا يقومون، والقيام يكون بعد القعود أو السقوط، فمن أكل الربا سواءً من الأفراد أو المؤسسات والدول وقع وسقط، وعند محاولته القيام من سقطته، فإنه يتخبط ويضطرب، كالذي يضربه الشيطان ويخبطه ويصيبه بالمس، والسبب أنهم قالوا – ومارسوا- أن الربا وأكل أموال الناس بالباطل والجشع والتطاول على الأموال، إنما هو كالبيع العادي، وقد أصبح الربا عند كثير من الناس أمراً عادياً، فأحدهم يعيش وبيته وسيارته وأقساط جامعة أبنائه وسفره وكثير من شؤون حياته عبارة عن أقساط ربوية من البنوك !! بل الأشد من ذلك والأدهى أن بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي قد أحل التعامل مع البنوك والعمل فيها، وقال إن الفائدة التي يأخذها البنك إنما هي نظير عمله بالمال وهو كالمضاربة !!
فتأتي الآيات لتفرق بين الربا والمنهج الباطل، وبين البيع والمنهج الحق، فمن جاءه موعظة وتنبيه من الله تعالى فاتعظ وأخذ العبرة وانتهى عن الربا، فله رأس ماله وأمره إلى الله، إن علم أنه صادق وأنه تاب توبة نصوحاً، فإنه تعالى يغفر له ويقربه، ويرحمه، وأما من عاد مرة أخرى، ولم يستطع أن ينفك عن البنوك بأي حجة كانت، فأولئك أصحاب النار، سيخلدون فيها ما شاء الله تعالى لهم ذلك.
ثم يأتي الحكم الإلهي النهائي القاطع بأن الربا مصيره إلى المحق {يمحق الله الربا}، فلا يتصور أي مؤمن بالله تعالى، أن المرابي وأن البنك الربوي سيدوم أبداً، وللأسف كم ذكرنا هذا لبعض الناس، فكانوا يستهزئون، ويقولون دعكم يا أيها المتدينون من هذه الدروشات، وأفيقوا إلى حقيقة أن العالم كله يعمل بهذا النظام، وأنه لا فكاك لأحد عنه، وأنه لا يمكن لبنوك قوية تملك المليارات أن تضعف وتسقط، ويعددوا لك أسماء لامعة كبيرة في عالم الربا، وأنها تعمل منذ عشرات السنين، وما درى هؤلاء أن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأنه برحمته وكرمه يعطي الناس الفرصة تلو الفرصة ليغيروا وليتوبوا، فإن لم يرتدعوا عاملهم بقوانينه العادلة، وأصابهم بما كان قد أوعدهم به.
وأما الآية التي تليها فإنني كنت دائماً أتعجب من ورودها في هذا الموضع بين آيات الربا، وأتساءل ما حكمة الله تعالى أن تأتي في هذا الموضع، فأول الآيات تتكلم عن آكلي الربا وأنهم لا يقومون إلا كالمتخبط، ثم محق الربا، وبعد هذه الآية، توجيه للمؤمنين ليتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا، لكن هذه الآية: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
ما مناسبتها؟ فإذا بها في صميم المعنى لمن تدبرها، فمن أكل الربا تخبط واضطرب ومحق، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات – لاحظ أنهم يعملون ويجتهدون، لا يركنون إلى التمويل ليزيد من أموالهم بدون أن يحركوا العمل في المجتمع – والذين يقيمون الصلاة ويجتهدون في الاستقامة على منهج الله تعالى، ويعطوا الزكاة لمستحقيها، أي أنهم حققوا العمل لعمارة المجتمع، ومن كان له ظرف خاص من المرضى والعجزة والأيتام وغيرهم ممن لا يستطيع العمل فإنهم يعطونه الزكاة ويكفونه، فهؤلاء لا خوف عليهم من أزمات اقتصادية أو مالية، ولا يحزنون من انهيارات، ولا تصيبهم الكآبة والضغط والأمراض!!
ثم يتواصل التوجيه لأهل الإيمان، الذي آمنوا بالله تبارك وتعالى وبمنهجه، ولكنهم مازالوا يتعاملون بالربا، فإن الله تعالى يذكرهم ويدعوهم إلى التقوى وترك ما بقي من الربا في اقتصادهم وفي حياتهم:
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين }، إن كانوا مؤمنين حقاً، وإن لم يفعلوا واستمروا في غيهم ومتابعتهم للأمريكان والغربيين، فإن الأمر جد خطير، حيث أعلن الله تبارك وتعالى عليهم الحرب، وهو أمر خطير جداً:
{فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون }.
وإن تبتم، فلكم رءوس أموالكم، ومن كان معسراً لا يستطيع السداد فأنظروه واصبروا عليه، وإن استطعتم أن تتصدقوا عليه بمسامحته بما لكم عليه أو بجزء منه، فهو خير لكم وأعظم أجراً عند الله تعالى.
فهل رأيتم روعة هذا المنهج الرباني العظيم، وحمايته للأفراد والمجتمعات الإسلامية من الربا ومخاطره.
وعليه فإن المؤمن بالله تعالى ينبغي عليه أن يلتزم بمنهج الله عز وجل، ويحافظ على دينه، ولا ينساق وراء المغريات الشيطانية، والتي تدعوه إلى الربح المضمون والسريع، ومثال ذلك البورصات العالمية التي انتشر التعامل بها مؤخراً وخاصة في عدد من الدول العربية والإسلامية، وقد حذرنا منها مراراً وتكراراً ولكن للأسف بعض الناس ليس عنده وازع من دين وتقوى، ويبحث عن بعض الفتاوى المتعجلة التي أطلقها عدد من العلماء، والذين للأسف لم يدرسوا المسائل بشكل صحيح، وقد كانت من ضمن منظومة الاحتيال العالمي على أموال الناس لسحبها إلى أمريكا والدول الغربية، ومحاولة التخفيف من أزمة الرهن العقاري التي عصفت بأمريكا، والتخفيف من ارتفاع الأسعار في أوروبا، وقد أدت لخسائر كبيرة للناس في عدد من الدول.
وكل نظام لا يتبع فيه منهج الله تعالى في انضباط العمل، وتدوير رأس المال ومنع الغبن والغرر، ومنع أكل المال بالباطل، فإن مآله إلى المحق والزوال، والعجيب أن كبار الماليين الغربيين بدأوا بالاقتناع بالنظام المالي الإسلامي، وبدأوا بدعوة حكوماتهم للتعامل بالنظام المصرفي الإسلامي، والسعي للوصول إلى أن تكون الفائدة صفراً، وأن يتم تشغيل المال في مشاريع حقيقية، لا أن يتم الإقراض وفقط.
فهل يعقل المسلمون روعة المنهج الذي لديهم، وهل نأخذ العبرة والعظة مما حدث، فنعود بحق إلى الله تعالى في كل شؤون حياتنا !!
منقول
تعليق