طباعة الصفحة إرسال المقال
صلاح الفتوى والدور الحضاري للفقيه المصلح
خالد الطراولي
إن عالم الفتوى أصبح اليوم عالما يعتريه الكثير من الغموض والضوضاء والشطط، ولعل الثورة التكنولوجية ساهمت في تعريته وفي زيادة تشتته، وهي غابة الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود.
"
كلما خطا الفقيه خطوة داخل خيمة السلطان وأدرك أماكنها المرتفعة والمقربة، نضج لدى الجماهير فكر التوجس منه والريبة في فتاواه، ففقدت الفتوى من مصداقيتها حتى وإن كان حاملها يشار إليه بالبنان في ديار العلم
"
وإني أزعم أن إحدى كبريات القضايا المصيرية اليوم في تحديد هويتنا ونجاح مشروعنا وتنمية مجتمعاتنا ونجاعة علاقتنا بمن حولنا، وحتى في تحديد وجودنا من عدمه أمة تدعو إلى الخير ورفاهية الناس روحا ومادة، تكمن أساسا في ماهية الفتوى وماهية الفقيه والعلاقة المرجوة مع هذا الواقع المتجدد المليء بالتحديات.
ذلك لأننا أحببنا أم كرهنا نحمل خاصية لم تجتمع في أقوام غيرنا وهي هذه العلاقة المتميزة مع المقدس هذه العلاقة التي تمثل مرجعية حراكنا، والتي تعتبر عنصرا إيجابيا إذا عرفنا توظيفها كما وظفها الأجداد، علما ودراية وحكمة فبنوا حضارتهم، ثم لما تقاعسوا وركنوا إلى الغوغاء والشطط وسكون المقابر، خرجوا من التاريخ، وتبعناهم وتركوا مفاتيح المنازل لأقوام آخرين استوطنوا المكان بعلم وحكمة إلى حين.
ولهذا تطلع علينا بين الحين والآخر فتاوى كالفقاقيع لا تعرف كيف خرجت ومتى خرجت وعن أي واقع تتحدث، يرفعها في بعضها فقيه علَم، أو فقيه نكرة مختف وراء شاشات وأسترة.
فترى العجب، هل هو زمن الأمويين أو العباسيين أم زمن بني عثمان؟ هل هي ديار مضر وفقه البادية ورحلة الشتاء والصيف؟ هل هي ديار حرب وسلم وجروح دموع ودماء؟ حتى تسمع من يسأل عن جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، ويتلقفها بعضهم من وراء شاشته ويصر على حرمتها وكأننا لا نعيش مع الجار المسيحي والمواطن اليهودي ولا نعمل في قرية كونية متشابكة.
ويصبح من مات غريقا وهو يريد الهجرة للاسترزاق، غير شهيد لأنه غادر موطنه ورمى بنفسه انتحارا، ونسي فقيه الديار الإلمام بكل المعطيات وطرح التساؤلات وإبعاد الغشاوة عن كل الأبعاد.
ويتلفظ علينا آخر سامحه الله بنكتة العصر وهو يلوّح لنا بكل جدية بوجوب إرضاع زميلة العمل إذا خيف الاختلاط، وقد نسي صاحبنا الإلمام بكل أبعاد القضية الذي تتجاوز شخصه وحيّه، وترتبط بفلسفة حياة وعلاقة جنس بآخر، لم يتأخر الإسلام في نحت أطرافها بكل دقة، شعارها مسؤولية وحياء وتناسب أدوار.
الصلاح والإصلاح مصطلحات تنطلق من نفس الجذع اللغوي، وهذا الارتباط العضوي يجعل من الصلاح هدفا أساسيا للإصلاح، وبدون صلاح يفقد الإصلاح مبررات وجوده ويصبح تخريبا وتدميرا ومنبت سوء وضلال.
والإصلاح عملية ومسار متشابك ومعقد رغم بعض التنظيرات المثالية التي تقتصر على الشعار الفضفاض والكلمات الجوفاء.
وأطراف الإصلاح متعددة، تبدأ بالفرد لتلامس الجماعة، تعني الحاكم والمحكوم وكل هيئة أو مجموعة أو جمعية داخل المجتمع المدني.
من هذا الباب الموسع نجد طرفا هاما في معادلة الإصلاح والتوعية والبناء وهو الفقيه والمفتي، فدور الفقيه محدد في هذا العملية عبر علمه وحكمته، علم بالأصول وفقه بالواقع. وفي تلازم هذه الثنائية ونجاحها أو فشلها تنتج إصابة الفتوى أو خطؤها ومن ورائها نجاح الإصلاح المرجو منها أو فشله.
ومن هذه الزاوية يمكن الحديث عن فتاوى صالحة وأخرى غير ذلك... فالفتوى مسار علمي واجتماعي، تحدد كل محطاته نجاح الفتوى أو ضمورها.
وهذه العلاقة بين العالم وعالَمه التي تحدد صلاح فتواه وحكمتها أو مجانبتها للصواب متشابكة ومعقدة، وتجمعها ثلاثة أطراف: علاقة مع السلطان وعلاقة مع الجماهير وعلاقة مع المحيط المادي الذي يعيش فيه.
فأما العلاقة مع السلطان فهي بين طرفي نقيض وليس من السهل أن يعيشها الفقيه بكل تجرد، فهو إما مساند أو مخالف، إما داخل الخيمة وتابع للحاشية، فتطاله أصابع الاتهام بصواب أو خطأ.
وكلما خطا خطوة داخل خيمة السلطان وأدرك أماكنها المرتفعة والمقربة، نضج لدى الجماهير فكر التوجس والريبة، وفقدت الفتوى من مصداقيتها حتى وإن كان حاملها يشار إليه بالبنان في ديار العلم، واقتربت الفتوى من الطلاح لأنها عجزت عن كسب رضا الناس.
وفي هذا يقول نجم الدين الغزي أحد العلماء المستقلين في عهد العثمانيين:
احذر من الملوك والسلطان *** بحسب القدرة والإمكان
لا يجتني مصاحب السلطان *** من قربه سوى العصيان
وإما مجاف للسلطان ومتجنب دياره ومعبر عن استقلاليته، وفي هذا الصنف من يتطرف فيظهر سخطه وعداوته ولا يبني إلا على مواجهة وعلى نقيض، ولا يرى في التقرب من مقاربة السلطان ولو كانت سليمة إلا ممرا نحو فقدان المصداقية ومغازلة الشيطان والوقوع في حباله، ومنهم من يظهر استقلاليته دون الخوض المباشر في السياسة والسياسيين، ويسعى لتجنب المواجهة ولو بكثير من العنت.
"
اللحظات المعبرة في علاقة الفقيه بالسلطان كثيرة وتوحي بوجود تلازم بين حضور الفقيه الجريء وتقدم الأمة وصلاحها، وبين غياب الفقيه والتزامه القرب السلبي من السلطان والتواري عن الفعل والنظر والسقوط الحضاري
"
غير أن كلا الصنفين لا يعيش حالة هدوء مع القصر، فتخطي الحدود الحُمْر أو التعاطي مع الفتوى بشكل لا يضمن مصالح أصحاب الشأن، لا يعطي لصاحبها الأمان. وإذا كان الصنف الأول قد حدد بداية مربعه الذي يقف عليه في الصدام والمواجهة، فإن الصنف الثاني رغم محاولته الاعتدال فكثيرا ما يلمسه حنق السلطان لمجرد تجاوز أو عدم اعتبار لخصوصية القصر أو التباعد والتجنب أكثر من اللزوم، مما يظهر للعامة جفاء أو عداء.
وهذا ما نراه في علاقة الكثير من الأئمة في التاريخ الإسلامي، فرغم هذه الاستقلالية غير العدوانية تجاه السلطان، فإن بعضهم لمجرد انفلاتة لم تعجب الأمير، ذاق الأمرين فكان نصيب مالك خلع كتفه بعد اجتهاد في طلاق المكره لم يستسغه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وسيق الشافعي مكبلا إلى هارون الرشيد من اليمن إلى بغداد بعدما وشى به الواشون ولم يرض الخليفة، وقاسى ابن حنبل الأمرين لرفضه موافقة الخليفة في قضية كلامية خالصة رأى المعتصم أن لها ما بعدها.
وهكذا فمن صلاحية الفتوى مصداقية صاحبها، وهذه المصداقية طريق إلى الشرعية في قلوب الجماهير مما يجعلها أقرب إلى التبني والقبول، وأن تتشكل في مسار إصلاحي فردي أو جماعي.
إن هذه العلاقة الحساسة مع السلطان ارتبطت غالبا بحالة الأمة في تاريخها بين مد وجزر في مستوى تحضرها وتقدمها، ومن هذا الباب وجب النظر إلى الدور الإنمائي والإصلاحي والحضاري للفقيه وهو داخل خيمة السلطان أو خارجها.
واللحظات المعبرة في هذا الشأن كثيرة وتوحي بهذا التلازم بين حضور جريء ومستقل للفقيه وبين تقدم الأمة وصلاحها، وبين غياب الفقيه والتزامه القرب السلبي من السلطان والتواري عن الفعل والنظر وبين السقوط الحضاري.
فقد روى ابن حيان في ذكره لحال الفقهاء في البلاط الأموي الأندلسي "والفقهاء أئمتهم صموت عنهم صُدُف عما أكده الله عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم، وخابط في أهوائهم وبين مستشعر مخافتهم آخذ بالتقية في صدقهم".
ولكن هل هذه الاستقلالية ومحاباة الجماهير لكل فتوى لا تخرج من أقبية السلطان كافية وحدها لضمان صلاح الفتوى؟ هذا ينعكس على صنف العلاقة بين المفتي والجماهير!
ليس المفتي نجما طارقا يعيش بين جدران مدرسته أو مركزه أو مسجده، ليس المفتي لغزا منغلقا على ذاته، يركن إلى صومعته ولا يتحدث إلا من منطلق العارف المطلق وما سواه العدم، ليس الفقيه درة مصونة تخاف الأيدي ومخالطة الناس حتى لا يقل بريقها ويخفت إشعاعها، ولكنه مواطن قبل ذلك يعيش بين أضلع مجتمع، يأكل خبزهم ويشرب ماءهم، ويمشي في أسواقهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.
وإذا كانت الجماهير مقتصرة في الأيام الخوالي على أبناء الحي والبلدة والبلاد، فإن الثورة التكنولوجية وتقارب البلدان وانتشار المعلومة تجعل من العالم قرية كونية ومن الجماهير سكان العالم إذا عرف الفقيه عن قرب ولمس بدقة هموم هذا الطرف أو ذاك وفقه واقعه بكل ملابساته.
هذا الاختلاط بهموم الناس ومعايشة محنهم ونعمهم، يولدان هذه الاستجابة العينية والمباشرة لكل سؤال أو قضية يتعرض لها هذا الوطن وتعطي للفتوى التصاقا كاملا بمشاغل الناس، فتنطلق منهم لتعود إليهم، ولا تكون مسقطة على حالهم تنطلق من الكتب الصفراء لتعود إليها، وكأنها تستجيب للتاريخ ولا تستجيب للجغرافيا.
والفقيه مواقف وممارسة، يمشي بين الناس، يدخل أسواقهم، ويطرق بيوتهم، وهذا النموذج الحي الذي يمشي على رجليه يحمل مسؤولية العلم ولكن أيضا مسؤولية الحب والقرب والتفهم والمعايشة.
"
ليس على المفتي أن يكون جوابا آليا "لما يحبه المستمعون"، ولكنه مرشد ومرب ودافع إلى الصلاح، وهذا لا يتأتى إلا بالكلمة الطيبة والمنهج القويم والصبر والمصابرة والتمسك بالحق أينما كان
"
والفقيه الناجح والصالح هو الفقيه الذي يعتبر النموذج في الفعل والنظر، تتعلق بتلابيبه الجموع، وتتمسح على أطرافه الجماهير، التي ترى فيه قائدا لها ومرشدا، فيصبح ممثلا للأمة في مجموعها، فهي إطاره وهو زعيمها، وهي المدافعة عنه، والحامية لمبادئه وأفكاره.
يُروى أن البهلول بن راشد كان من علماء القيروان الأجلاّء، فأراد أمير البلاد أن يحبسه، فخرجت القيروان في عشرة آلاف مقاتل مدافعة عن ابن راشد قائلين للأمير: إياك والبهلول بن راشد فإنه منا بمثابة الرأس من الجسد!
كما يصبح دوره الإفتائي إصلاحيا خالصا وحضاريا حاسما وبارزا، يجعل السلطة التنفيذية نفسها، مجبرة على أخذه في الاعتبار.
وقد شهد العالم الإسلامي عزل السلطان العثماني سليم الثالث سنة 1807، استنادا إلى فتوى من مفتي البلاد الذي اتهمه بأنه غير صالح للملك، "لأنه فرض على المسلمين أنظمة الكفار وأدخل نظم الإفرنج وعوائدهم، وأجبر الرعية عليها".
لكن في المقابل ليس على المفتي أن يكون جوابا آليا "لما يحبه المستمعون" ولكنه مرشد ومرب ودافع إلى الصلاح، وهذا لا يتأتى إلا بالكلمة الطيبة والمنهج القويم والصبر والمصابرة والتمسك بالحق أينما كان، ومنهجية التدرج والمرونة دون مجاملة أو محاباة.
فعلاقة الفقيه بالجماهير هي علاقة إرشاد وتربية وليست علاقة فوقية وأستاذية، هي علاقة مرافقة بناءة وليست علاقة تابع ذليل وقاصر بمتّبَع.
ومن أغرب ما قرأت في هذا الباب طلب أحدهم فتوى من فقيه وهو يريد الذهاب لزيارة أحد البلاد حول جواز الابتسامة أو عدمها لأهل تلك الديار، وكأن هذا الدين جاء يحمل شعار الحزن والعداوة والتكشير والعدوان.
الجماهير جزء من هذا الواقع المتحرك والمتجدد، وما يعنينا هو هذه البيئة المادية التي تتحرك فيها الفتوى، من علاقات ومعطيات وسلوكيات وثقافة وعقليات وتواريخ ومستويات تنمية، فلا تتساوى فتاوى تتنزل في إطار يعيش الوفرة والسلام والأمن والاستقرار، مع إطار يعيش الندرة والضيق والخوف والرعب، ولا تتساوى فتوى الحي والقرية مع فتوى المدينة والبلاد، ولا تتماثل فتوى يطلبها فرد، مع فتوى تخص جماعة أو تلمس المجموعة.
وهذه العلاقة مع الواقع تتطلب ولا شك فقها وعلما وحكمة، فلا يكفي علم الفقيه لاعتبار الفتوى صالحة، ولكن معرفته بإطارها المادي الذي تتنزل فيه، يعتبر مؤشر نجاحها وصلاحها، أو فشلها وطلاحها.
ولن نعيد حديثا قتل بحثا وتذكيرا بتغيّر الفتوى بتغيير الديار وتغيّر الزمان، وسنمر مر الكرام على تغيّر فقه الشافعي وهو يغيّر مكان الإقامة من بغداد إلى القاهرة، ولن نعيد التذكير بفتاوى القاضي الحنفي ابن عابدين في ظل الدولة العثمانية وفي إطار المجلة.
وإذا ابتعد الفقيه المفتي عن اعتبار الحكمة جزءا أساسيا في عملية اختمار الفتوى وتنزلها، فإنه يقع في مطب التعسف على الواقع وليّ عنقه وإسقاط رأيه عليه دون الإلمام الكامل بمعطياته.
وهنا تقع المأساة، فمنها ما كبر فيعصف بكيان أمة ويشوه صورتها وينهي دورها المتميز في هذا الكون، "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، ومنها ما صغر فيحبط الفرد أو يتطرف فيهلك الحرث والنسل في مستوى أسرة أو مجتمع.
__________________
كاتب تونسي
صلاح الفتوى والدور الحضاري للفقيه المصلح
خالد الطراولي
إن عالم الفتوى أصبح اليوم عالما يعتريه الكثير من الغموض والضوضاء والشطط، ولعل الثورة التكنولوجية ساهمت في تعريته وفي زيادة تشتته، وهي غابة الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود.
"
كلما خطا الفقيه خطوة داخل خيمة السلطان وأدرك أماكنها المرتفعة والمقربة، نضج لدى الجماهير فكر التوجس منه والريبة في فتاواه، ففقدت الفتوى من مصداقيتها حتى وإن كان حاملها يشار إليه بالبنان في ديار العلم
"
وإني أزعم أن إحدى كبريات القضايا المصيرية اليوم في تحديد هويتنا ونجاح مشروعنا وتنمية مجتمعاتنا ونجاعة علاقتنا بمن حولنا، وحتى في تحديد وجودنا من عدمه أمة تدعو إلى الخير ورفاهية الناس روحا ومادة، تكمن أساسا في ماهية الفتوى وماهية الفقيه والعلاقة المرجوة مع هذا الواقع المتجدد المليء بالتحديات.
ذلك لأننا أحببنا أم كرهنا نحمل خاصية لم تجتمع في أقوام غيرنا وهي هذه العلاقة المتميزة مع المقدس هذه العلاقة التي تمثل مرجعية حراكنا، والتي تعتبر عنصرا إيجابيا إذا عرفنا توظيفها كما وظفها الأجداد، علما ودراية وحكمة فبنوا حضارتهم، ثم لما تقاعسوا وركنوا إلى الغوغاء والشطط وسكون المقابر، خرجوا من التاريخ، وتبعناهم وتركوا مفاتيح المنازل لأقوام آخرين استوطنوا المكان بعلم وحكمة إلى حين.
ولهذا تطلع علينا بين الحين والآخر فتاوى كالفقاقيع لا تعرف كيف خرجت ومتى خرجت وعن أي واقع تتحدث، يرفعها في بعضها فقيه علَم، أو فقيه نكرة مختف وراء شاشات وأسترة.
فترى العجب، هل هو زمن الأمويين أو العباسيين أم زمن بني عثمان؟ هل هي ديار مضر وفقه البادية ورحلة الشتاء والصيف؟ هل هي ديار حرب وسلم وجروح دموع ودماء؟ حتى تسمع من يسأل عن جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، ويتلقفها بعضهم من وراء شاشته ويصر على حرمتها وكأننا لا نعيش مع الجار المسيحي والمواطن اليهودي ولا نعمل في قرية كونية متشابكة.
ويصبح من مات غريقا وهو يريد الهجرة للاسترزاق، غير شهيد لأنه غادر موطنه ورمى بنفسه انتحارا، ونسي فقيه الديار الإلمام بكل المعطيات وطرح التساؤلات وإبعاد الغشاوة عن كل الأبعاد.
ويتلفظ علينا آخر سامحه الله بنكتة العصر وهو يلوّح لنا بكل جدية بوجوب إرضاع زميلة العمل إذا خيف الاختلاط، وقد نسي صاحبنا الإلمام بكل أبعاد القضية الذي تتجاوز شخصه وحيّه، وترتبط بفلسفة حياة وعلاقة جنس بآخر، لم يتأخر الإسلام في نحت أطرافها بكل دقة، شعارها مسؤولية وحياء وتناسب أدوار.
الصلاح والإصلاح مصطلحات تنطلق من نفس الجذع اللغوي، وهذا الارتباط العضوي يجعل من الصلاح هدفا أساسيا للإصلاح، وبدون صلاح يفقد الإصلاح مبررات وجوده ويصبح تخريبا وتدميرا ومنبت سوء وضلال.
والإصلاح عملية ومسار متشابك ومعقد رغم بعض التنظيرات المثالية التي تقتصر على الشعار الفضفاض والكلمات الجوفاء.
وأطراف الإصلاح متعددة، تبدأ بالفرد لتلامس الجماعة، تعني الحاكم والمحكوم وكل هيئة أو مجموعة أو جمعية داخل المجتمع المدني.
من هذا الباب الموسع نجد طرفا هاما في معادلة الإصلاح والتوعية والبناء وهو الفقيه والمفتي، فدور الفقيه محدد في هذا العملية عبر علمه وحكمته، علم بالأصول وفقه بالواقع. وفي تلازم هذه الثنائية ونجاحها أو فشلها تنتج إصابة الفتوى أو خطؤها ومن ورائها نجاح الإصلاح المرجو منها أو فشله.
ومن هذه الزاوية يمكن الحديث عن فتاوى صالحة وأخرى غير ذلك... فالفتوى مسار علمي واجتماعي، تحدد كل محطاته نجاح الفتوى أو ضمورها.
وهذه العلاقة بين العالم وعالَمه التي تحدد صلاح فتواه وحكمتها أو مجانبتها للصواب متشابكة ومعقدة، وتجمعها ثلاثة أطراف: علاقة مع السلطان وعلاقة مع الجماهير وعلاقة مع المحيط المادي الذي يعيش فيه.
فأما العلاقة مع السلطان فهي بين طرفي نقيض وليس من السهل أن يعيشها الفقيه بكل تجرد، فهو إما مساند أو مخالف، إما داخل الخيمة وتابع للحاشية، فتطاله أصابع الاتهام بصواب أو خطأ.
وكلما خطا خطوة داخل خيمة السلطان وأدرك أماكنها المرتفعة والمقربة، نضج لدى الجماهير فكر التوجس والريبة، وفقدت الفتوى من مصداقيتها حتى وإن كان حاملها يشار إليه بالبنان في ديار العلم، واقتربت الفتوى من الطلاح لأنها عجزت عن كسب رضا الناس.
وفي هذا يقول نجم الدين الغزي أحد العلماء المستقلين في عهد العثمانيين:
احذر من الملوك والسلطان *** بحسب القدرة والإمكان
لا يجتني مصاحب السلطان *** من قربه سوى العصيان
وإما مجاف للسلطان ومتجنب دياره ومعبر عن استقلاليته، وفي هذا الصنف من يتطرف فيظهر سخطه وعداوته ولا يبني إلا على مواجهة وعلى نقيض، ولا يرى في التقرب من مقاربة السلطان ولو كانت سليمة إلا ممرا نحو فقدان المصداقية ومغازلة الشيطان والوقوع في حباله، ومنهم من يظهر استقلاليته دون الخوض المباشر في السياسة والسياسيين، ويسعى لتجنب المواجهة ولو بكثير من العنت.
"
اللحظات المعبرة في علاقة الفقيه بالسلطان كثيرة وتوحي بوجود تلازم بين حضور الفقيه الجريء وتقدم الأمة وصلاحها، وبين غياب الفقيه والتزامه القرب السلبي من السلطان والتواري عن الفعل والنظر والسقوط الحضاري
"
غير أن كلا الصنفين لا يعيش حالة هدوء مع القصر، فتخطي الحدود الحُمْر أو التعاطي مع الفتوى بشكل لا يضمن مصالح أصحاب الشأن، لا يعطي لصاحبها الأمان. وإذا كان الصنف الأول قد حدد بداية مربعه الذي يقف عليه في الصدام والمواجهة، فإن الصنف الثاني رغم محاولته الاعتدال فكثيرا ما يلمسه حنق السلطان لمجرد تجاوز أو عدم اعتبار لخصوصية القصر أو التباعد والتجنب أكثر من اللزوم، مما يظهر للعامة جفاء أو عداء.
وهذا ما نراه في علاقة الكثير من الأئمة في التاريخ الإسلامي، فرغم هذه الاستقلالية غير العدوانية تجاه السلطان، فإن بعضهم لمجرد انفلاتة لم تعجب الأمير، ذاق الأمرين فكان نصيب مالك خلع كتفه بعد اجتهاد في طلاق المكره لم يستسغه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وسيق الشافعي مكبلا إلى هارون الرشيد من اليمن إلى بغداد بعدما وشى به الواشون ولم يرض الخليفة، وقاسى ابن حنبل الأمرين لرفضه موافقة الخليفة في قضية كلامية خالصة رأى المعتصم أن لها ما بعدها.
وهكذا فمن صلاحية الفتوى مصداقية صاحبها، وهذه المصداقية طريق إلى الشرعية في قلوب الجماهير مما يجعلها أقرب إلى التبني والقبول، وأن تتشكل في مسار إصلاحي فردي أو جماعي.
إن هذه العلاقة الحساسة مع السلطان ارتبطت غالبا بحالة الأمة في تاريخها بين مد وجزر في مستوى تحضرها وتقدمها، ومن هذا الباب وجب النظر إلى الدور الإنمائي والإصلاحي والحضاري للفقيه وهو داخل خيمة السلطان أو خارجها.
واللحظات المعبرة في هذا الشأن كثيرة وتوحي بهذا التلازم بين حضور جريء ومستقل للفقيه وبين تقدم الأمة وصلاحها، وبين غياب الفقيه والتزامه القرب السلبي من السلطان والتواري عن الفعل والنظر وبين السقوط الحضاري.
فقد روى ابن حيان في ذكره لحال الفقهاء في البلاط الأموي الأندلسي "والفقهاء أئمتهم صموت عنهم صُدُف عما أكده الله عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم، وخابط في أهوائهم وبين مستشعر مخافتهم آخذ بالتقية في صدقهم".
ولكن هل هذه الاستقلالية ومحاباة الجماهير لكل فتوى لا تخرج من أقبية السلطان كافية وحدها لضمان صلاح الفتوى؟ هذا ينعكس على صنف العلاقة بين المفتي والجماهير!
ليس المفتي نجما طارقا يعيش بين جدران مدرسته أو مركزه أو مسجده، ليس المفتي لغزا منغلقا على ذاته، يركن إلى صومعته ولا يتحدث إلا من منطلق العارف المطلق وما سواه العدم، ليس الفقيه درة مصونة تخاف الأيدي ومخالطة الناس حتى لا يقل بريقها ويخفت إشعاعها، ولكنه مواطن قبل ذلك يعيش بين أضلع مجتمع، يأكل خبزهم ويشرب ماءهم، ويمشي في أسواقهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.
وإذا كانت الجماهير مقتصرة في الأيام الخوالي على أبناء الحي والبلدة والبلاد، فإن الثورة التكنولوجية وتقارب البلدان وانتشار المعلومة تجعل من العالم قرية كونية ومن الجماهير سكان العالم إذا عرف الفقيه عن قرب ولمس بدقة هموم هذا الطرف أو ذاك وفقه واقعه بكل ملابساته.
هذا الاختلاط بهموم الناس ومعايشة محنهم ونعمهم، يولدان هذه الاستجابة العينية والمباشرة لكل سؤال أو قضية يتعرض لها هذا الوطن وتعطي للفتوى التصاقا كاملا بمشاغل الناس، فتنطلق منهم لتعود إليهم، ولا تكون مسقطة على حالهم تنطلق من الكتب الصفراء لتعود إليها، وكأنها تستجيب للتاريخ ولا تستجيب للجغرافيا.
والفقيه مواقف وممارسة، يمشي بين الناس، يدخل أسواقهم، ويطرق بيوتهم، وهذا النموذج الحي الذي يمشي على رجليه يحمل مسؤولية العلم ولكن أيضا مسؤولية الحب والقرب والتفهم والمعايشة.
"
ليس على المفتي أن يكون جوابا آليا "لما يحبه المستمعون"، ولكنه مرشد ومرب ودافع إلى الصلاح، وهذا لا يتأتى إلا بالكلمة الطيبة والمنهج القويم والصبر والمصابرة والتمسك بالحق أينما كان
"
والفقيه الناجح والصالح هو الفقيه الذي يعتبر النموذج في الفعل والنظر، تتعلق بتلابيبه الجموع، وتتمسح على أطرافه الجماهير، التي ترى فيه قائدا لها ومرشدا، فيصبح ممثلا للأمة في مجموعها، فهي إطاره وهو زعيمها، وهي المدافعة عنه، والحامية لمبادئه وأفكاره.
يُروى أن البهلول بن راشد كان من علماء القيروان الأجلاّء، فأراد أمير البلاد أن يحبسه، فخرجت القيروان في عشرة آلاف مقاتل مدافعة عن ابن راشد قائلين للأمير: إياك والبهلول بن راشد فإنه منا بمثابة الرأس من الجسد!
كما يصبح دوره الإفتائي إصلاحيا خالصا وحضاريا حاسما وبارزا، يجعل السلطة التنفيذية نفسها، مجبرة على أخذه في الاعتبار.
وقد شهد العالم الإسلامي عزل السلطان العثماني سليم الثالث سنة 1807، استنادا إلى فتوى من مفتي البلاد الذي اتهمه بأنه غير صالح للملك، "لأنه فرض على المسلمين أنظمة الكفار وأدخل نظم الإفرنج وعوائدهم، وأجبر الرعية عليها".
لكن في المقابل ليس على المفتي أن يكون جوابا آليا "لما يحبه المستمعون" ولكنه مرشد ومرب ودافع إلى الصلاح، وهذا لا يتأتى إلا بالكلمة الطيبة والمنهج القويم والصبر والمصابرة والتمسك بالحق أينما كان، ومنهجية التدرج والمرونة دون مجاملة أو محاباة.
فعلاقة الفقيه بالجماهير هي علاقة إرشاد وتربية وليست علاقة فوقية وأستاذية، هي علاقة مرافقة بناءة وليست علاقة تابع ذليل وقاصر بمتّبَع.
ومن أغرب ما قرأت في هذا الباب طلب أحدهم فتوى من فقيه وهو يريد الذهاب لزيارة أحد البلاد حول جواز الابتسامة أو عدمها لأهل تلك الديار، وكأن هذا الدين جاء يحمل شعار الحزن والعداوة والتكشير والعدوان.
الجماهير جزء من هذا الواقع المتحرك والمتجدد، وما يعنينا هو هذه البيئة المادية التي تتحرك فيها الفتوى، من علاقات ومعطيات وسلوكيات وثقافة وعقليات وتواريخ ومستويات تنمية، فلا تتساوى فتاوى تتنزل في إطار يعيش الوفرة والسلام والأمن والاستقرار، مع إطار يعيش الندرة والضيق والخوف والرعب، ولا تتساوى فتوى الحي والقرية مع فتوى المدينة والبلاد، ولا تتماثل فتوى يطلبها فرد، مع فتوى تخص جماعة أو تلمس المجموعة.
وهذه العلاقة مع الواقع تتطلب ولا شك فقها وعلما وحكمة، فلا يكفي علم الفقيه لاعتبار الفتوى صالحة، ولكن معرفته بإطارها المادي الذي تتنزل فيه، يعتبر مؤشر نجاحها وصلاحها، أو فشلها وطلاحها.
ولن نعيد حديثا قتل بحثا وتذكيرا بتغيّر الفتوى بتغيير الديار وتغيّر الزمان، وسنمر مر الكرام على تغيّر فقه الشافعي وهو يغيّر مكان الإقامة من بغداد إلى القاهرة، ولن نعيد التذكير بفتاوى القاضي الحنفي ابن عابدين في ظل الدولة العثمانية وفي إطار المجلة.
وإذا ابتعد الفقيه المفتي عن اعتبار الحكمة جزءا أساسيا في عملية اختمار الفتوى وتنزلها، فإنه يقع في مطب التعسف على الواقع وليّ عنقه وإسقاط رأيه عليه دون الإلمام الكامل بمعطياته.
وهنا تقع المأساة، فمنها ما كبر فيعصف بكيان أمة ويشوه صورتها وينهي دورها المتميز في هذا الكون، "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، ومنها ما صغر فيحبط الفرد أو يتطرف فيهلك الحرث والنسل في مستوى أسرة أو مجتمع.
__________________
كاتب تونسي