[align=justify]الآخر من زاوية أخرى
__________________________________________________ _
لا يبدو العقل البشري منفرداً مؤهلاً بحال لأن يترقى لأبعد مراتب الكمال، والبديهة تقول أن للكون واقع مشاهد ومحسوس، ووجود متخيل غير ملموس، وإذا كان للعقل ما يبرره أن يبحر في قفار الأولى نحو الوصول، فإن له ما يلزمه أن يتجمد في مكانه عند الثانية، إذ ليس للعقل إلا أن يتأمل ويفكر ومن ثم يحكم في دائرة مشاهده ومحسوسه، أما متخيله وبالتالي غيبه فهو خارج إطار العقل، ومن الممكن أن يتعامل معه فقط من خلال استلهامات النقل المؤكدة والقطعية الراسخة.
وبوفاة النبي-عليه السلام- وهو آخر المعصومين حسب فهمنا السني، تظل البنية التحتية للعقل منحصرة في البديهيات والنقل الصحيح عن النبي عليه السلام، ولما كان النقل الصحيح في معظمه نقلاً ظنياً في ثبوته أوفي دلالته، فإن هذا يغرينا لأن نصدح بالقول أن الاختلاف الذي زخرت به أدبياتنا الإسلامية القديمة والمعاصرة كان اختلافاً محتماً وطبيعياً، وما من سبب يبرر وجود المذاهب الفقهية المتنوعة والمتعددة سوى اختلافات الأفهام المتعلقة بالنصوص الصحيحة.
وكل مدرسة من هذه المدارس كان لها فهمها الخاص، وتصورها الخاص الذي كانت تظن ولا تقطع باقترابه من جادة الصواب، الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد-رضوان الله عليهم أجمعين-كمثال بسيط، يبدو من المحال أن يدعي أحد بتفرد واحد منهم بالصواب المطلق دون غيره، فلكل واحد منهم أخطاؤه ولكل واحد منهم صوابه، وكلهم مجتهدون قاربوا الحقيقة ولم ينالوا مطلقها بحال.
وهذا يقودنا لنقطة غاية في الأهمية، أن الحق المطلق من المحال أن يتفرد به أحد عن سواه، وهنا من الممكن أن يقول قائل أن هذا الكلام بديهي، أقول هذا كلام بديهي في الواقع التنظيري أما في الواقع العملي فلا يبدو الأمر كذلك، إذ أن الواقع العملي دائماً ما برهن وأفرز نماذج متعصبة تَكفر بالآخر وتوقن تمام اليقين أنها صواب وغيرها خطأ حتى وإن لهج لسانها بسوى ذلك.
عموماً لننطلق من مقدمة مفادها أننا لا نمثل الحق المطلق بحال، إذ أننا نعتقد أننا صواب يحتمل الخطأ وغيرنا خطأ لديه من الإمكانية لأن يكون صواباً، وبالتالي نحن لا نشكل الحقيقة المطلقة بتاتاً.
ولكن يبدو الأمر أكثر توثيقاً، فلنطرق باب بيتنا الداخلي كأهل سنة وجماعة-بالمعنى السلفي-هل نحن متفقون في الفقه والعقيدة والأصول، طبعاً الإجابة المتعلقة بالفقه بسيطة ورحابة الصدر فيها أوسع، إذ أن تراثنا الفقهي القديم والحديث يتحدث عن أننا لم نتفق حتى في الوضوء أو الصلاة، فهناك من اعتقد أن الاستنشاق والمضمضة واجب شرعي وركن من أركان الوضوء، وهناك من اعتبر أن ركعات الوتر واجبة آثم تاركها، وبين موجب ومتساهل في قراءة الفاتحة إلى مئات القضايا الفقهية المختلف حولها.
وهذه نقطة انطلاق تستلزم منا أن نقبل إمكانية اختلافنا في أمور أخرى، إذ كيف لنا أن نتساهل في إمكانية اختلافنا في أبسط الأمور، ومن ثم لا نقبل اختلافاتنا في أمور أعظم وأشد تعقيداً، كيف لنا أن نقبل اختلافنا في أمور تعبدية محضة، النقل قائدها وملهمها الوحيد، وليس للعقل فيها إلا التأمل والتفكر عن بعد بعيد!ولا نقبل الاختلاف في أمور النقل مرتعها والعقل موجهها.
إذن بيتنا الداخلي احتمل الخلاف في أبسط الأمور، هذا يقودنا لأن نفكر هل اختلف في أعقد الأمور، لنترك الجواب لبعد قليل، ولننطلق إلى فناء المنزل حيث الأشاعرة مثلاً، وطبعاً خلاف الأشاعرة والسلف خلاف مرير وأزلي، شابه كل شيء إلا الحوار الهادئ المتعقل، والسؤال المهم في المسألة هو، هل خلاف الأشاعرة مع السلف خلاف ممكن احتواؤه، وبالتالي هو خلاف فروع، فكل الطائفتين صواب نسبي على الأقل، الإجابة على هذا السؤال لها احتمالان متضادان، أولاهما يقول أن هذا الخلاف خلاف من الممكن احتواؤه، وهو خلاف فروع وليس أصول، وكلا الطائفتين صواب، وعلى النقيض المضاد، من يرى أن اجتماع الأشاعرة مع السلف في نفس السلة هو جمع بين النقيضين، إذ كيف يتم الجمع بين من يثبت ويفوض وينفي، كيف يتم الجمع بين من يثبت اليد مثلاً وبين من ينفيها، وبين من يتنكر لوجود العين ومن يناضل لإثباتها، الغريب أن هؤلاء الذين يرون أن الجمع بين من يثبت اليد وينفيها هو اجتماع نقيضين، لا يفسرون كيف لا يكون الجمع بين أبي حنيفة والشافعي-رضي الله عنهم-هو اجتماع بين نقيضين حين يقول أحدهما أن صلاة الوتر واجبة، ويقول الآخر أنها سنة، وعندما يفرض الإمام أحمد الترتيب في الوضوء ولا يفرضه سواه!والأشد غرابة هو أن هؤلاء الذين يضخمون الخلاف لأبعد من مداه، لا يقبلون اختلافات الأشاعرة معهم مثلاً، ويقبلون اختلافات لها نفس الأهمية في أروقة البناء الداخلي لأهل السنة والجماعة، لننظر لتعريف الإيمان نفسه، جمهور أهل السنة يرون أن الإيمان هو تصديق وقول وعمل، بينما يرى أبو حنيفة أنه تصديق وإقرار! وهذا ما وافقه عليه صاحب العقيدة الطحاوية، تخيل تعريف الإيمان نفسه مختلف فيه، وهذا يقودنا لأن نحسب أن إمكانية الخلاف في العقيدة ممكنة بين أهل السنة والجماعة أنفسهم، وهذه ما يؤكده الواقع الاستقرائي في أمور عدة، منها على سبيل الإجمال لا الحصر، مسألة النزول وهل يخلو العرش من الله-عزوجل- أو لا يخلو، تخيل أن أهل السنة لديهم ثلاثة أقوال في المسألة، بين قائل بأنه يخلو، وبين قائل أنه لا يخلو، وبين متوقف!بل حتى الأسماء والصفات لا يوجد اتفاق مطلق وكامل فيها، مثلاً ابن حزم الأندلسي-رحمه الله- يعتبر الدهر اسماً من أسماء الله الحسنى، في اللحظة التي لا يعتبره الجمهور كذلك!.
إذن الواقع يثبت أن علماء أهل السنة والجماعة اختلفوا فيما بينهم في أمور من العقيدة، ولم يعتبر هذا الخلاف جمعاً بين متناقضات، فلماذا لا يتم القبول باختلافات الآخرين معهم، الاختلافات التي تحتملها جادة الصواب دون إسراف أو تجاوز أو شطط، وما هو المعيار البعيد عن الهوى الذي يطرد فلان أو يدخل فلان البيت الداخلي لنا كأهل سنة وجماعة.
وبعد أن انتقلنا من بيتنا الداخلي حيث خلافات الفقه، إلى فناء المنزل حيث خلافات الأشاعرة والسلف، وأثبتنا إمكانية الاختلاف بيننا فيهما، أليس من الممكن أن نثبت أن الحق المطلق أيضاً لا نجزم به هنا في دائرة العقيدة، وهنا أقصد بالعقيدة فروع العقيدة وليس العقيدة بمعناها الأصلي القطعي الذي لا يقبل الخلاف، بمعنى خارج دائرة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كالأسماء والصفات والنزول والاستواء.... إلخ.
وهنا يجب أن نستلهم نقطة انطلاقتنا الأولى، نحن لسنا الحق المطلق الذي لا يقبل الخطأ، من الممكن أن يكون لغيرنا من الحق الذي لا نعلم، وهذه زاوية مهمة للتأمل حين الخروج من فناء المنزل إلى الشارع حيث يقبع الشيعة!
طبعاً الشيعة باعتقادي أنها فرقة ضلت الطريق-وهذه لازمة كمقدمة بالنسبة لي-لكن هذه اللازمة لا تجبرني أن أنظر إلى أن كل ما لدى الشيعة هو رجس من عمل الشيطان، لا، فالمنهج العلمي يحتم ذلك، ويحتم أن أتأمل ما يقوله الشيعة في مراجعهم الأصلية، ولا أكتفي بما قاله أهل السنة والجماعة عنهم، فالاعتماد على النصوص من مصادرها الأصلية لازمة أساسية للمنهج العلمي الصواب، وهنا أحبذ أن ألفت نظر القارئ الكريم للفتة مهمة وقفت أمامها كثيراً، لو سأل سائل منا نفسه عن الإمام ابن تيمية كمصدر ناقل وناظر وناقد للعقيدة الشيعية، هل يوجد أوثق من هذا الإمام رحمه الله، شخصياً لا أتورع عن تسليمي التام والمسبق لعدالة الإمام ابن تيمية وورعه وصدقه وفحولته العلمية، لكن هذا لا يمنعني أيضاً لأن أستغرب تمام الاستغراب حين أرى بعض نقوله للشيعة في كتابه منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية، الإمام ابن تيمية مثلاً قال بأن الشيعة أسقطوا الجهاد لحين انبلاج الإمام المهدي المنتظر، وباعتقادي أن هذا غير صحيح، ربما يكون هناك من الشيعة من قال ذلك، لكن لا يجوز بحال أن نجزم أن كل الشيعة قالوا بذلك، خاصة أننا نعيش في القرن العشرين ونرى ما يفعله حزب الله! بل ونرى ما حدثنا عنه التاريخ من الثورات التي قام بها الشيعة على حكام المسلمين العباسيين والأمويين عبر التاريخ، يكفي أن نقول أن أبا الحسن الأشعري نقل في كتابه مقالات الإسلاميين عن ثمان وعشرين ثورة!
كذلك ابن تيمية-رحمه الله- يقول أن الشيعة مثل اليهود يقولون السام عليكم بدلاً من السلام عليكم حين يخاطبونا، كما أنهم يألهون الأئمة ويعبدونهم من دون الله إلى آخر هذه الادعاءات التي بحاجة لنظر وتدقيق وتبصر وروية ورحابة صدر في الطرح والتعامل.
مثل هكذا طروحات من الثقات امثال ابن تيمية-رحمه الله-، تجبرنا أن نتعامل مع الشيعة بأحكام مسبقة، بل وربما تقودنا إلى أن نعتقد كما يعتقد كثير من المعاصرين أن الشيعة أخطر من اليهود والنصارى علينا كمسلمين، وهذه طريقة ليست صائبة، بل الأصل أن نبحث عن أساس وجوهر الخلاف الحقيقي بيننا كأهل سنة وجماعة مع الشيعة، وكل الأدبيات تجمع أن الخلاف بدأ كخلاف سياسي تم تغليفه عبر العصور بالخلافات الاعتقادية المتراكمة، بل وتم تنميق بعض الخلافات الفقهية مثل زواج المتعة لتغدو خلافات عقائدية جوهرية وأساسية.
ركن البناء الأول لنا كمسلمين هو القرآن، وركنه الثاني هو السنة، هذا الذي قادنا إلى أن نتعامل بريبة شديدة مع الشيعة، حيث اعتدنا في أدبياتنا أن نتعامل مع الشيعة على أنهم قوم حرفوا القرآن، وأنهم أناس طعنوا في صحابة الرسول عليه السلام للنيل من المصدر الثاني للتشريع، ألا وهو السنة النبوية.
وتواترت كتاباتنا عن الشيعة بهذه النقول التي تثبت أنهم حرفوا وأنهم سبوا وشككوا في الصحابة، عموماً من قال من الشيعة بأن كتبهم ليس فيها ما يثبت أنهم حرفوا القرآن فهو كذاب، لأن الذين قالوا بالتحريف في الشيعة موجودة أقوالهم، بل وزاخرة الكتب بمثل هذا الادعاء، شخصياً عند استقرائي لأقوالهم في المسألة، وجدت أن أقوى ردودهم تكمن في اتهامهم لأهل السنة أنفسهم بالتحريف!وكان عمدة أدلتهم في المسألة هي مسألة نسخ التلاوة، مثل آية الرجم الثابتة عن عمر-رضي الله عنه-والشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة، ومثل الآية التي روتها عائشة-رضي الله عنها-لو كان لابن آدم وادياً من ذهب لابتغى ثالثاً، هذه الآيات يقول عمر وعائشة رضي الله عنهم أنها كانت في القرآن، وتعبد المسلمون بها في صلواتهم، أي أنها كانتا من القرآن، ثم نسختا، ويستشهد أهل السنة هنا بالآية"ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها"..الآية.بمعنى أن هذه الآية تثبت نسخ التلاوة في القرآن، ومن ضمنها هذه الآيات.
الشيعة لا يسلمون بذلك، ويقولون أن الآية "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها" لا تدل على وقوع نسخ التلاوة، بل منطوقها يعني أن الله إذا أراد أن ينسخ آية استبدلها بخير منها، وهذا لا يعني أن الله قد نسخ الآية، كأن تقول إذا جاء زيد فأكرمه، فإن هذا لا يعني قدوم زيد إليك ومن ثم إكرامك له.
وليس الهدف من هذا الكلام أن أبرهن للشيعة أمر أخطأوا يقيناً فيه، بل أحببت أن أبين شبهة الدليل في المسألة، لكي يغدو التعامل مع الشيعة على الأقل وفقاً لرؤية أكثر تصوراً من ذي قبل، واستبدال صورتهم المختومة في عقولنا على أنهم مجموعة من المخابيل، إلى أنهم فرقة لها اجتهادها واستدلالها ومنهجيتها وتصورها في الحياة.
ومسألة الصحابة والنظرة لهم وبالتالي للسنة، لا تخرج عن هذا الإطار، بل هي بحاجة بدورها إلى التعمق في مبررات الفهم الشيعي لها، وتقصي شبه الدليل التي يملكون، ومن ثم موازنتها، لنعلم هل هؤلاء القوم مبتدعة يكفرون ببدعتهم، أم أنهم مبتدعة يشفع لهم التأويل.
النظرة النوارانية لأنفسنا بحاجة إلى تبديل، وإحسان الظن بالآخر ومن ثم الاستماع له هو السبيل.
الثلاثاء/04/03/2008/الواحدة والنصف صباحاً.
[/align]
__________________________________________________ _
لا يبدو العقل البشري منفرداً مؤهلاً بحال لأن يترقى لأبعد مراتب الكمال، والبديهة تقول أن للكون واقع مشاهد ومحسوس، ووجود متخيل غير ملموس، وإذا كان للعقل ما يبرره أن يبحر في قفار الأولى نحو الوصول، فإن له ما يلزمه أن يتجمد في مكانه عند الثانية، إذ ليس للعقل إلا أن يتأمل ويفكر ومن ثم يحكم في دائرة مشاهده ومحسوسه، أما متخيله وبالتالي غيبه فهو خارج إطار العقل، ومن الممكن أن يتعامل معه فقط من خلال استلهامات النقل المؤكدة والقطعية الراسخة.
وبوفاة النبي-عليه السلام- وهو آخر المعصومين حسب فهمنا السني، تظل البنية التحتية للعقل منحصرة في البديهيات والنقل الصحيح عن النبي عليه السلام، ولما كان النقل الصحيح في معظمه نقلاً ظنياً في ثبوته أوفي دلالته، فإن هذا يغرينا لأن نصدح بالقول أن الاختلاف الذي زخرت به أدبياتنا الإسلامية القديمة والمعاصرة كان اختلافاً محتماً وطبيعياً، وما من سبب يبرر وجود المذاهب الفقهية المتنوعة والمتعددة سوى اختلافات الأفهام المتعلقة بالنصوص الصحيحة.
وكل مدرسة من هذه المدارس كان لها فهمها الخاص، وتصورها الخاص الذي كانت تظن ولا تقطع باقترابه من جادة الصواب، الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد-رضوان الله عليهم أجمعين-كمثال بسيط، يبدو من المحال أن يدعي أحد بتفرد واحد منهم بالصواب المطلق دون غيره، فلكل واحد منهم أخطاؤه ولكل واحد منهم صوابه، وكلهم مجتهدون قاربوا الحقيقة ولم ينالوا مطلقها بحال.
وهذا يقودنا لنقطة غاية في الأهمية، أن الحق المطلق من المحال أن يتفرد به أحد عن سواه، وهنا من الممكن أن يقول قائل أن هذا الكلام بديهي، أقول هذا كلام بديهي في الواقع التنظيري أما في الواقع العملي فلا يبدو الأمر كذلك، إذ أن الواقع العملي دائماً ما برهن وأفرز نماذج متعصبة تَكفر بالآخر وتوقن تمام اليقين أنها صواب وغيرها خطأ حتى وإن لهج لسانها بسوى ذلك.
عموماً لننطلق من مقدمة مفادها أننا لا نمثل الحق المطلق بحال، إذ أننا نعتقد أننا صواب يحتمل الخطأ وغيرنا خطأ لديه من الإمكانية لأن يكون صواباً، وبالتالي نحن لا نشكل الحقيقة المطلقة بتاتاً.
ولكن يبدو الأمر أكثر توثيقاً، فلنطرق باب بيتنا الداخلي كأهل سنة وجماعة-بالمعنى السلفي-هل نحن متفقون في الفقه والعقيدة والأصول، طبعاً الإجابة المتعلقة بالفقه بسيطة ورحابة الصدر فيها أوسع، إذ أن تراثنا الفقهي القديم والحديث يتحدث عن أننا لم نتفق حتى في الوضوء أو الصلاة، فهناك من اعتقد أن الاستنشاق والمضمضة واجب شرعي وركن من أركان الوضوء، وهناك من اعتبر أن ركعات الوتر واجبة آثم تاركها، وبين موجب ومتساهل في قراءة الفاتحة إلى مئات القضايا الفقهية المختلف حولها.
وهذه نقطة انطلاق تستلزم منا أن نقبل إمكانية اختلافنا في أمور أخرى، إذ كيف لنا أن نتساهل في إمكانية اختلافنا في أبسط الأمور، ومن ثم لا نقبل اختلافاتنا في أمور أعظم وأشد تعقيداً، كيف لنا أن نقبل اختلافنا في أمور تعبدية محضة، النقل قائدها وملهمها الوحيد، وليس للعقل فيها إلا التأمل والتفكر عن بعد بعيد!ولا نقبل الاختلاف في أمور النقل مرتعها والعقل موجهها.
إذن بيتنا الداخلي احتمل الخلاف في أبسط الأمور، هذا يقودنا لأن نفكر هل اختلف في أعقد الأمور، لنترك الجواب لبعد قليل، ولننطلق إلى فناء المنزل حيث الأشاعرة مثلاً، وطبعاً خلاف الأشاعرة والسلف خلاف مرير وأزلي، شابه كل شيء إلا الحوار الهادئ المتعقل، والسؤال المهم في المسألة هو، هل خلاف الأشاعرة مع السلف خلاف ممكن احتواؤه، وبالتالي هو خلاف فروع، فكل الطائفتين صواب نسبي على الأقل، الإجابة على هذا السؤال لها احتمالان متضادان، أولاهما يقول أن هذا الخلاف خلاف من الممكن احتواؤه، وهو خلاف فروع وليس أصول، وكلا الطائفتين صواب، وعلى النقيض المضاد، من يرى أن اجتماع الأشاعرة مع السلف في نفس السلة هو جمع بين النقيضين، إذ كيف يتم الجمع بين من يثبت ويفوض وينفي، كيف يتم الجمع بين من يثبت اليد مثلاً وبين من ينفيها، وبين من يتنكر لوجود العين ومن يناضل لإثباتها، الغريب أن هؤلاء الذين يرون أن الجمع بين من يثبت اليد وينفيها هو اجتماع نقيضين، لا يفسرون كيف لا يكون الجمع بين أبي حنيفة والشافعي-رضي الله عنهم-هو اجتماع بين نقيضين حين يقول أحدهما أن صلاة الوتر واجبة، ويقول الآخر أنها سنة، وعندما يفرض الإمام أحمد الترتيب في الوضوء ولا يفرضه سواه!والأشد غرابة هو أن هؤلاء الذين يضخمون الخلاف لأبعد من مداه، لا يقبلون اختلافات الأشاعرة معهم مثلاً، ويقبلون اختلافات لها نفس الأهمية في أروقة البناء الداخلي لأهل السنة والجماعة، لننظر لتعريف الإيمان نفسه، جمهور أهل السنة يرون أن الإيمان هو تصديق وقول وعمل، بينما يرى أبو حنيفة أنه تصديق وإقرار! وهذا ما وافقه عليه صاحب العقيدة الطحاوية، تخيل تعريف الإيمان نفسه مختلف فيه، وهذا يقودنا لأن نحسب أن إمكانية الخلاف في العقيدة ممكنة بين أهل السنة والجماعة أنفسهم، وهذه ما يؤكده الواقع الاستقرائي في أمور عدة، منها على سبيل الإجمال لا الحصر، مسألة النزول وهل يخلو العرش من الله-عزوجل- أو لا يخلو، تخيل أن أهل السنة لديهم ثلاثة أقوال في المسألة، بين قائل بأنه يخلو، وبين قائل أنه لا يخلو، وبين متوقف!بل حتى الأسماء والصفات لا يوجد اتفاق مطلق وكامل فيها، مثلاً ابن حزم الأندلسي-رحمه الله- يعتبر الدهر اسماً من أسماء الله الحسنى، في اللحظة التي لا يعتبره الجمهور كذلك!.
إذن الواقع يثبت أن علماء أهل السنة والجماعة اختلفوا فيما بينهم في أمور من العقيدة، ولم يعتبر هذا الخلاف جمعاً بين متناقضات، فلماذا لا يتم القبول باختلافات الآخرين معهم، الاختلافات التي تحتملها جادة الصواب دون إسراف أو تجاوز أو شطط، وما هو المعيار البعيد عن الهوى الذي يطرد فلان أو يدخل فلان البيت الداخلي لنا كأهل سنة وجماعة.
وبعد أن انتقلنا من بيتنا الداخلي حيث خلافات الفقه، إلى فناء المنزل حيث خلافات الأشاعرة والسلف، وأثبتنا إمكانية الاختلاف بيننا فيهما، أليس من الممكن أن نثبت أن الحق المطلق أيضاً لا نجزم به هنا في دائرة العقيدة، وهنا أقصد بالعقيدة فروع العقيدة وليس العقيدة بمعناها الأصلي القطعي الذي لا يقبل الخلاف، بمعنى خارج دائرة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كالأسماء والصفات والنزول والاستواء.... إلخ.
وهنا يجب أن نستلهم نقطة انطلاقتنا الأولى، نحن لسنا الحق المطلق الذي لا يقبل الخطأ، من الممكن أن يكون لغيرنا من الحق الذي لا نعلم، وهذه زاوية مهمة للتأمل حين الخروج من فناء المنزل إلى الشارع حيث يقبع الشيعة!
طبعاً الشيعة باعتقادي أنها فرقة ضلت الطريق-وهذه لازمة كمقدمة بالنسبة لي-لكن هذه اللازمة لا تجبرني أن أنظر إلى أن كل ما لدى الشيعة هو رجس من عمل الشيطان، لا، فالمنهج العلمي يحتم ذلك، ويحتم أن أتأمل ما يقوله الشيعة في مراجعهم الأصلية، ولا أكتفي بما قاله أهل السنة والجماعة عنهم، فالاعتماد على النصوص من مصادرها الأصلية لازمة أساسية للمنهج العلمي الصواب، وهنا أحبذ أن ألفت نظر القارئ الكريم للفتة مهمة وقفت أمامها كثيراً، لو سأل سائل منا نفسه عن الإمام ابن تيمية كمصدر ناقل وناظر وناقد للعقيدة الشيعية، هل يوجد أوثق من هذا الإمام رحمه الله، شخصياً لا أتورع عن تسليمي التام والمسبق لعدالة الإمام ابن تيمية وورعه وصدقه وفحولته العلمية، لكن هذا لا يمنعني أيضاً لأن أستغرب تمام الاستغراب حين أرى بعض نقوله للشيعة في كتابه منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية، الإمام ابن تيمية مثلاً قال بأن الشيعة أسقطوا الجهاد لحين انبلاج الإمام المهدي المنتظر، وباعتقادي أن هذا غير صحيح، ربما يكون هناك من الشيعة من قال ذلك، لكن لا يجوز بحال أن نجزم أن كل الشيعة قالوا بذلك، خاصة أننا نعيش في القرن العشرين ونرى ما يفعله حزب الله! بل ونرى ما حدثنا عنه التاريخ من الثورات التي قام بها الشيعة على حكام المسلمين العباسيين والأمويين عبر التاريخ، يكفي أن نقول أن أبا الحسن الأشعري نقل في كتابه مقالات الإسلاميين عن ثمان وعشرين ثورة!
كذلك ابن تيمية-رحمه الله- يقول أن الشيعة مثل اليهود يقولون السام عليكم بدلاً من السلام عليكم حين يخاطبونا، كما أنهم يألهون الأئمة ويعبدونهم من دون الله إلى آخر هذه الادعاءات التي بحاجة لنظر وتدقيق وتبصر وروية ورحابة صدر في الطرح والتعامل.
مثل هكذا طروحات من الثقات امثال ابن تيمية-رحمه الله-، تجبرنا أن نتعامل مع الشيعة بأحكام مسبقة، بل وربما تقودنا إلى أن نعتقد كما يعتقد كثير من المعاصرين أن الشيعة أخطر من اليهود والنصارى علينا كمسلمين، وهذه طريقة ليست صائبة، بل الأصل أن نبحث عن أساس وجوهر الخلاف الحقيقي بيننا كأهل سنة وجماعة مع الشيعة، وكل الأدبيات تجمع أن الخلاف بدأ كخلاف سياسي تم تغليفه عبر العصور بالخلافات الاعتقادية المتراكمة، بل وتم تنميق بعض الخلافات الفقهية مثل زواج المتعة لتغدو خلافات عقائدية جوهرية وأساسية.
ركن البناء الأول لنا كمسلمين هو القرآن، وركنه الثاني هو السنة، هذا الذي قادنا إلى أن نتعامل بريبة شديدة مع الشيعة، حيث اعتدنا في أدبياتنا أن نتعامل مع الشيعة على أنهم قوم حرفوا القرآن، وأنهم أناس طعنوا في صحابة الرسول عليه السلام للنيل من المصدر الثاني للتشريع، ألا وهو السنة النبوية.
وتواترت كتاباتنا عن الشيعة بهذه النقول التي تثبت أنهم حرفوا وأنهم سبوا وشككوا في الصحابة، عموماً من قال من الشيعة بأن كتبهم ليس فيها ما يثبت أنهم حرفوا القرآن فهو كذاب، لأن الذين قالوا بالتحريف في الشيعة موجودة أقوالهم، بل وزاخرة الكتب بمثل هذا الادعاء، شخصياً عند استقرائي لأقوالهم في المسألة، وجدت أن أقوى ردودهم تكمن في اتهامهم لأهل السنة أنفسهم بالتحريف!وكان عمدة أدلتهم في المسألة هي مسألة نسخ التلاوة، مثل آية الرجم الثابتة عن عمر-رضي الله عنه-والشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة، ومثل الآية التي روتها عائشة-رضي الله عنها-لو كان لابن آدم وادياً من ذهب لابتغى ثالثاً، هذه الآيات يقول عمر وعائشة رضي الله عنهم أنها كانت في القرآن، وتعبد المسلمون بها في صلواتهم، أي أنها كانتا من القرآن، ثم نسختا، ويستشهد أهل السنة هنا بالآية"ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها"..الآية.بمعنى أن هذه الآية تثبت نسخ التلاوة في القرآن، ومن ضمنها هذه الآيات.
الشيعة لا يسلمون بذلك، ويقولون أن الآية "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها" لا تدل على وقوع نسخ التلاوة، بل منطوقها يعني أن الله إذا أراد أن ينسخ آية استبدلها بخير منها، وهذا لا يعني أن الله قد نسخ الآية، كأن تقول إذا جاء زيد فأكرمه، فإن هذا لا يعني قدوم زيد إليك ومن ثم إكرامك له.
وليس الهدف من هذا الكلام أن أبرهن للشيعة أمر أخطأوا يقيناً فيه، بل أحببت أن أبين شبهة الدليل في المسألة، لكي يغدو التعامل مع الشيعة على الأقل وفقاً لرؤية أكثر تصوراً من ذي قبل، واستبدال صورتهم المختومة في عقولنا على أنهم مجموعة من المخابيل، إلى أنهم فرقة لها اجتهادها واستدلالها ومنهجيتها وتصورها في الحياة.
ومسألة الصحابة والنظرة لهم وبالتالي للسنة، لا تخرج عن هذا الإطار، بل هي بحاجة بدورها إلى التعمق في مبررات الفهم الشيعي لها، وتقصي شبه الدليل التي يملكون، ومن ثم موازنتها، لنعلم هل هؤلاء القوم مبتدعة يكفرون ببدعتهم، أم أنهم مبتدعة يشفع لهم التأويل.
النظرة النوارانية لأنفسنا بحاجة إلى تبديل، وإحسان الظن بالآخر ومن ثم الاستماع له هو السبيل.
الثلاثاء/04/03/2008/الواحدة والنصف صباحاً.
[/align]