المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، معلم الناس الخير، والهادي إلى سواء السبيل، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين...
إن ارتقاء المستوى المعرفي للداعية والذي هو ثمرة التقوى والإيمان وصدق التوجه لله عز وجل ، والتحصيل الكسبي لأسباب العلم والثقافة ، يعد من الأسلحة الهامة والضرورية لنجاح الداعية ، وانتشار دعوته ، وهو ما تحقق للإمام الشهيد أحمد ياسين .
أهمية الموضوع وسبب اختياره :
لقد ميز الله بين الداعية العالم الذي يعرف ما يدعو إليه وبين من وصف بالجهل وعدم المعرفة لأبجديات دعوته وآفاقها وأصولها ، قال تعالى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (1) ، والمتأمل لسيرة الإمام الشهيد أحمد ياسين يقف على العديد من جوانب العلم والمعرفة ، الأمر الذي يوضح أحد الجوانب الهامة في شخصيته وسبب تأثيرها على الآخرين ، على اختلاف أجناسهم وأفكارهم ، وهو ما يدفع أقلام الباحثين إلى تناول هذه الظاهرة المعجزة ، التي حققت رغم الإعاقة الجسدية – والتي أصيب بها الشيخ في شبابه – ما عجز عن بلوغه أكثر الأصحاء .
ومما يبين أهمية الموضوع أن هذا الرجل أحيا أمة بأسرها، ويتطلع كثير من الناس إلى التعرف على مستواه المعرفي والثقافي للاقتداء به.
ويرجع اختيار البحث إلى الأسباب الآتية :
1- إن الشيخ أحمد ياسين يعد أهم شخصية إسلامية فلسطينية عرفها الواقع الفلسطيني ، خلال القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين ، من حيث ما خلفه من آثار إسلامية غيرت الواقع الفلسطيني بشكل رئيس، وأثرت على الواقع العربي والعالمي.
2- إن ثقافة الشيخ أحمد ياسين وما تميزت به من سعة وشمول، كان لها عظيم الأثر في نجاح دعوته وثقة الآخرين به ، وهو ما يفيد الدعاة والدارسين لهذه الظاهرة بزاد ثقافي وافر .
3- إن تناول الجانب الثقافي في حياة الشيخ أحمد ياسين يعد من الدراسات الجديدة ، التي لم تتناولها أقلام الباحثين بدراسات علمية مستقلة .
منهج البحث :
وسيتبع الباحثان في هذه الدراسة المنهج الوصفي التحليلي، وذلك عبر الوقوف على بعض المواقف والمشاهد التي تعكس مدى ثقافة الشيخ وتحليلها في ضوء أصول المنهج العلمي، كما وستعتمد هذه الدراسة الأسلوب العلمي من حيث عزو المعلومات إلى مظانها، وذلك على النحو الآتي:
- تخريج الآيات القرآنية وذلك ببيان اسم السورة ورقم الآية في الحاشية .
- تخريج الأحاديث النبوية من مظانها المعتمدة ، ثم نقل حكم العلماء عليها باستثناء ما أخرجه البخاري ومسلم ، وذلك لأن الأمة تلقتها بالقبول ، فأحاديثه صحيحة .
- ترجمة الأعلام غير المشهورين .
- إن جميع المقابلات التي أجراها الباحثان في هذه الدراسة تمت باللقاء المباشر مع مختلف الشخصيات .
- إذا ذكر لفظ الشيخ مفرداً خلال هذه الدراسة فإن ما يراد به الشيخ أحمد ياسين رحمه الله .
الدراسات السابقة :
لم يقف الباحثان على أيٍّ من الدراسات التي تناولت هذا الجانب في حياة الإمام أحمد ياسين، باستثناء بعض الكتب الصغيرة التي تحدثت عن حياة الإمام ولم تولِ هذا الجانب اهتماماً كبيراً .
خطة البحث :
ويمكن تقسيم البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة موزعة على النحو الآتي :
المقدمة : وتتضمن أهمية البحث وسبب اختياره ومنهج البحث والدراسات السابقة وخطة البحث.
المبحث التمهيدي : حياة الشيخ أحمد ياسين :
- المطلب الأول : مولده ونسبه .
- المطلب الثاني : نشأته العلمية .
- المطلب الثالث : استشهاده .
المبحث الأول : العوامل التي ساهمت في ارتقاء ثقافة الشيخ أحمد ياسين :
- المطلب الأول : التقوى وصدق التوجه لله عز وجل .
- المطلب الثاني : الإمكانات الذهنية .
- المطلب الثالث : إرادة التحصيل العلمي .
- المطلب الرابع : تنوع مصادر المعرفة .
المبحث الأول : جوانب من ثقافة الشيخ أحمد ياسين وعلومه :
- المطلب الأول : الثقافة الإسلامية .
- المطلب الثاني : الثقافة اللغوية .
- المطلب الثالث : الثقافة الإنسانية .
- المطلب الرابع : الثقافة الواقعية .
- المطلب الخامس : الثقافة العامة .
الخاتمة : وتتضمن أهم النتائج التي خلص إليها الباحثان ، والتوصيات التي تخدم غرض البحث.
المبحث التمهيدي
حياة الشيخ أحمد ياسين
زخرت حياة الإمام أحمد ياسين بالكثير من الابتلاءات التي يمكنها أن تمثل عائقاً جسيماً، أمام التقدم العلمي والرقي الثقافي للمرء، لولا ما تمتع به الشيخ – رحمه الله – من توفيق إلهي، وسمات شخصية مميزة جعلت منه مدرسة للجميع - ممن ظهر عليهم البلاء ومن غيرهم - ، بأن ينتهجوا منهجه وينهلوا من منابع العلم المتعددة كي يرقوا بأنفسهم وبغيرهم في مجال العلم والمعرفة .
ولبيان ذلك لابد من تقديم نبذة عن حياته من حيث مولده ونشأته حتى استشهاده ، ونجاحه في تجاوز كافة العوائق التي اعترضت سبيل تحصيله للعلم والمعرفة ، وهو ما يمكن توضيحه في ضوء المطالب الثلاثة الآتية :
المطلب الأول : مولده ونسبه :
ولد الشيخ أحمد ياسين في شهر يونيو من عام 1936م في قرية الجورة الفلسطينية ، توفي والده إسماعيل ياسين وهو ابن خمس سنوات(2) ، وكانت أمه امرأة مؤمنة عُرفت بتدينها تدعى سعدة عبد الله الهبيل(3) ، وكان له من الأشقاء أخوان وأخت ، وله أخوان لأب وأخت لأب أيضاً(4) ، وكانت تعد هـذه الأسـرة من أغنيـاء تلك القرية وذلك حتى هجرة عام 1948(5) ، إذ عقب ذلك تحولوا من الثراء إلى لاجئين يبحثون عن المأوى والمأكل والمشرب كسائر العائلات الأخرى من أبناء شعب فلسطين الذين سقطت ديارهم تحت الاحتلال وطُردوا منها(6) .
المطلب الثاني : نشأته العلمية :
نشأ الإمام أحمد ياسين في بيت كسائر البيوت الفلسطينية ، يغلب عليه طابع الطيبة والتديـن الفطري ، دون أن يتميز أحد الوالدين أو من يكبره سناً من إخوته بالعلم الشرعي أو غيره ، خاصة في قريته التي ولد فيها وعاش مرحلة صباه ، اللهم ما عرف عنهم من حب العلم وعدم ممانعتهم من تعلم الراغب من أبنائهم ، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال التحاق الشيخ بالمدارس المختلفة .
درس الشيخ في مدرسة الجورة الابتدائية وكان في السابعة من عمره ، حيث لم تكن المدارس تقبل أيٍّ من الطلاب دون هذه السن ، وبقي مواظباً في دراسته حتى أول شهر من الصف الخامس حيث كانت حرب عام 1948م ، وكانت هجرة الشعب الفلسطيني الأولى ومنها سكان قرية الجورة ، وعائلة الشيخ التي خرجت إلى منطقة غزة ، ليلتحق عقب ذلك في مدارسها حتى أنهى دراسته الثانوية ، ليعمل مدرساً للتربية الدينية واللغة العربية في مدرسة الكرمل - بغزة – والتي كانت تسمى بمدرسة الرمال ، ثم التحق بجامعة عين شمس ليدرس سنة كاملة في قسم اللغة الإنجليزية ، لكنه لم يكمل مشواره التعليمي الجامعي لعدة ظروف طرأت عليه سواء الصحية منها والسياسية كذلك(7) ، فقد ساءت حالته الصحية والتي بلغت إلى حد الشلل التام فضلاً عن ظروف الاعتقال لأبناء الحركة الإسلامية ، والمنع من السفر والذي تعرض له الشيخ في تلك المرحلة .
لم تكن الإصابة التي تعرض لها الشيخ رحمه الله – وهو يؤدي بعض التمارين الرياضية على شاطئ بحر غزة والتي أدت إلى الشلل وعدم القدرة على الحركة إلا بصعوبة بالغة في بادئ أمره انتهت إلى التنقل على كرسي متحرك(8)- ، لتفت من عزمه في مواصلة مسيرته الدعوية والعلمية .
فقد التحق في صفوف حركة الإخوان المسلمين وأعطى البيعة للأخ شعبان البغدادي عام 1954(9) ، الأمر الذي ساهم في رقيه الروحي والإيماني وتواصله بأسباب العلم والمعرفة وذلك من خلال نظام الأسر لدى الجماعة والعمل الدعوي المتواصل من دروس ومواعظ وخطابة فضلاً عن المطالعة وغيرها مما مكن للشيخ فقهاً واسعاً وعلماً ومعرفة في كثير من جوانب المعرفة والثقافة ، وهو ما سيتم الحديث عنه في المبحثين التاليين .
المطلب الثالث : استشهاده :
استشهد الشيخ أحمـد ياسين صباح يوم الاثنين الأول من صفر عام 1425هـ الموافق 22 مارس لعام 2004م ، بعد أن أقام ليله بين يدي الله عز وجل يقرأ القرآن ويدرس إخوانه ويعظهم ويجيب على تساؤلاتهم ، وليتناول طعام السحور ناوياً صيام يوم الاثنين إحياءً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وليصلي الفجر في جماعة وليجالس إخوانه عقب ذلك ثم ليخرج من مسجد المجمع الإسلامي الذي أسسه على التقوى ليكون منارة للعلم والدعوة إلى الله ، حتى إذا كان في طريقه إلى بيته والذي كان على مقربة من المسجد أطلقت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية ثلاثة صواريخ في اتجاه جسده الطاهر لتحوله إلى أشلاء ، وليرقى رحمه الله إلى العلياء بعد حياة حافة بالعلم والإيمان والدعوة إلى الله تعالى(10) ، فكان استشهاده رسالة للعلماء والعابدين والدعاة إلى الله تعالى بأن من أراد أن يجمع بين ذلك كله فما عليه إلا أن يتجرد لله عز وجل ويتزود بالصلة به ، ويأخذ بأسباب المعرفة المادية الممكنة كي ينعم الله تعالى عليه بالعلم والوعي اللازم لنجاح دعوته ، ويؤيده بالقوة والإرادة التي تمكنه من تجاوز الابتلاءات والأحداث الجسام ، فلا تعيق تقدمه وحركته نحو الغايات السامية والقمم الشامخة .
وكان المشهد العظيم في خروج الناس جميعاً في فلسطين لتودع هذا العالم الرباني المجاهد ، وكأن هذه الجموع تزفـه في ليلـة عرسه ، شاهدةٌ على مكانته في قلوبهم ، وشاهدةٌ على مكانته العلمية والجهاديـة ، ولم يحصل ذلك في فلسطين فحسب وإنما في كثير من دول العالم .. وإنما يؤكد هذا على صدق توجه هذا الإمام الجليل ومحبة الناس له ممن يعرفه أو لا يعرفه .. وإن دلَّ ذلك على شيء فإنما يدل على محبة الله تعالى له .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبريل ، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض "(11) .
المبحث الأول
العوامل التي ساهمت في ارتقاء ثقافة الشيخ أحمد ياسين
إن الله عز وجل تكفل بحفظ دينه ودعوته من أن تمتد إليها أيادي العبث والتحريف ، ومن أن يأفل نورها أو أن تنطفئ جذوتها ، قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) ، ولقد كان من بين مظاهر الحفظ أن يهيء الله عز وجل لهذه الأمة ، على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها ، وهو ما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم .
عن أبي هريـرة – رضي الله عنـه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)(13) .
إن الشيخ أحمد ياسين هو الداعية والعالم الأبرز الذي أحيا الأمة ، وأعاد الصدارة للدعوة الإسلامية في فلسطين خلال القرن العشرين وحتى استشهاده ، ولما كان العلماء ورثة الأنبياء فإن هذا يعني أن من سيتصدر شأن تجديد الدين في قلوب الناس بإحيائها وإعادتها إلى المحجة البيضاء ، أن يتميز بمختلف جوانب المعرفة وأن يعده الله عز وجل لدعوته ، ويكلؤه بحفظه ورعايته ، وهو ما تحقق للشيخ الرباني والعالم الجليل أحمد ياسين ، والذي توفر له من أسباب العلم والمعرفة ما يجعله أستاذاً ومعلماً للعلماء ومرشداً لهم .
ويمكن إجمال أهم العوامل التي ساهمت في ارتقاء الجانب العلمي والمعرفي لدى الشيخ أحمد ياسين في المسائل الآتية :
المطلب الأول : التقوى وصدق التوجه لله عز وجل :
لقد شرف الله عز وجل العلم حينما جعل له مأوى في قلوب عباده الأخيار ، وجعله ثمرة للتقوى ، حيث أكدت آيات القرآن الكريم في غير موطن أن العبد كلما ارتقى في مدارج التقوى كلما نوّر الله تعالى بصيرته بالعلم النافع ، قال تعالى : ... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (14) .
يقول الإمام القرطبي : " وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه ، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقى إليه ؛ وقد يجعل الله في قلبه ابتداءً فرقاناً ، أي فيصلاً يفرق به بين الحق والباطـل ؛ ومنه قولـه تعالـى : يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً(15) "(16)، وهذا يعني أن من خاف الله عز وجل وأقبل عليه ففعل أوامره واجتنب نواهيه وفق لمعرفة الحق من الباطل(17) . وهذا النوع من العلم أطلق عليه بعض العلماء العلم الخفي(18) الذي يقوم على الإلهام والفهم الذي يؤيد الله عز وجل به عباده العارفين الصادقين .
يقول ابن القيم – رحمه الله - : " إن هذا العلم الخفي هو الإلهام والفهم الخاص الذي هو ثمرة العبودية ، والمتابعة ، والصدق مع الله ، وبذل الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله ، وكمال الانقياد له ، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – وقد سئل : هل خصّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ - فقال : لا والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه "(19) .
ومع أن التقوى وصدق التوجه لله عز وجل محله القلب ، إلا أنه يمكن الوقوف على مظاهر هذه المقامات الإيمانية العالية للشيخ أحمد ياسين ، من خلال المشاهد والمواقف التي تعكس للمطَّلع عليها مدى إقباله على العبادة ، وتقربه لله عز وجل ، وعزوفه عن الدنيا وثقته بما عند الله عز وجل ، وهو ما يمكن توضيحه في النماذج الآتية :
أولاً : الثقة بالله عز وجل والتوكل عليه :
كان الشيخ أحمد ياسين مثالاً يحتذى به للواثق بربه المعتمد عليه والآخذ مع ذلك بالأسباب الممكنة والمشروعة لتحقيق مقاصده .
فقد تخرج الشيخ في مدرسة فلسطين الثانوية عام 1958م وتطلعت نفسه إلى العمل أسوة بأقرانه ، ومع اعتلال صحته فإنه لم يكن هناك ميداناً للعمل سوى مدارس الحكومة فتقدم بطلبه لمدير التربية والتعليم ، ليمثل عقب ذلك لمقابلة شخصية أمام لجنة أعدت لهذا الغرض ، وبالنظر إلى تفوق الشيخ في المقابلة وشدة ذكائه فقد أدرجت اللجنة اسمه في الكشف المرفوع إلى الحاكم الإداري العام ليبدي الرأي فيها ، وكتب أمام اسمه رغم قدراته الممتازة وتفوقه لكنه أعرج ، وصباح يوم المقابلة قابله أحد أصحابه وهو ذاهب إلى لجنة المقابلة قبل الموعد بساعتين وهو يغوص في الرمل فيسقط حيناً على الأرض ويساعده أحد المارة حيناً في الطريق الصلبة ، حيث تتناثر ذرات الرمل من تحت قدميه خلال مشيه ، فقال له : إلى أين يا أخي أحمد ؟ فأجاب بكل ثقة : لمقابلة اللجنة ، فقد دعتني لمقابلتها ، فقال له صاحبه رفقاً به وشفقة عليه : وهل تتصور أن اللجنة ستوافق عليك ؟! مذكراً إياه بأنها تشترط للقبول ثمناً أي رشوة – حسب ما عرفه الناس عنها آنذاك – ثم أردف قائلاً : يا أخي الكريم أرى أن توفر على نفسك شقاء المسير وتعود من حيث أتيت ، فابتسم الشيخ وهو واقف يترنح يميناً وشمالاً على أصابع قدميه ، وقال : (يا أخي وهل تتصور أنني ذاهب للجنة لكي أستعطفها ؟! لا والله ، فأنا مسلم واثق أن الله إذا أراد لي التعيين ، فلن يتمكن بشر من قطع رزقي ، ألم تقرأ قوله تعالى : وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (20) ، وهل فاتك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس – رضي الله عنهما - : (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف)(21) ، والله إنني واثق من أن الله تعالى لن يخيبني ، فأنا متوكل على الله عز وجل وماضٍ في سبيله ! وقد تحقق بالفعل للشيخ ما يريد وكانت ثقته بالله في محلها ولم يخيب الله تعالى ظنه به ، إذ هيأ له أسباب القبول حيث كان للحاكم الإداري العام – الفريق أحمد سالم – ولد صغير يحبه وقد ولد أعرجاً فلما قرأ تقرير اللجنة في حق أحمد ياسين، قال بلهجته المصرية : (وإيه يعني أعرج، يعني ما يشتغلش ، يعني يموت من الجوع ، وأشّر بقلمه الأحمر أمام اسم أحمد ياسين عبارة (يعيّن) ثم أمر بتعيين الباقيين الذين رشحتهم اللجنة(22) .
ثانياً : محافظته على الفرائض وحرصه على النوافل :
إن العبـد بقـدر صلته وعبادته لربه فإنه يرقى إلى أعلى درجات التقوى وهو ما أمر الله عز وجل به، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(23).
إن المحافظة علـى ما افترضـه الله عز وجل والتقرب إليه بالنوافل يجعل العبد في معية الله عز وجل، ومن كان كذلك فإنه سيوفقه إلى معرفة الحق وينير له السبيل الذي يفرق به بين الحق والباطل .
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)(24) .
وقد عرف الشيخ أحمد ياسين بتعبده لله عز وجل وحرصه على صلاة الجماعة في المسجد والصيام وتلاوة القرآن والذكر وغير ذلك من صور العبادة المختلفة التي تعكس ربانيته وصلته بالله عز وجل ، وهو ما توضحه المواقف الآتية :
1) محافظته على صلاة الجماعة :
حرص الشيخ على صلاة الجماعة على الرغم من اعتلال صحته ، حيث كان يشهد صلاة العتمتين في جماعة حتى إنه كان يستعين بالفانوس (المصباح) خلال خروجه لصلاة الفجر لكشف الطريق الوعر آنذاك وذلك منذ بداية حياته في صفوف الدعوة(25) ، وحول هذا الحرص على صلاة الفجر في المسجد في معسكر الشاطئ ، خرج ذات يوم مع كونه مريضاً ولا مرافق له يساعده للوصول ، تعثر الشيخ ووقع وبقي ملقى على الأرض حتى طلوع الشمس(26) ، وقد تكرر ذلك معه أكثر من مرة(27) .
2) أخذه بالعزيمة في العبادة :
الحالة الصحية التي عاشها الشيخ أحمد ياسين بعد إصابته بحيث كانت قدماه تضعف على حمله إلا بمشقة وجهد ولمدة محدودة إلا أن ذلك لم يكن لينال من عزيمته وإرادته في أن يصلي قائماً أو يطوف في الحج على قدميه مع أنه كان بوسعه أن يأخذ بالرخصة فيصلي جالساً ويطوف محمولاً على الأعناق خاصة وهو الرجل الرباني الذي كسب قلوب أصحابه بحيث كانوا يتنافسون في توفير أسباب الراحة والسلامة له ، ومن المشاهد التي تؤكد على همة الشيخ في مجال العبادة ما يأتي :
- حدثتنا بثينة الدجني(28) : " كنا في منزل الشيخ لحل مشكلة عائلية ، فجاء موعد صلاة العصر فقام للصلاة ، وكان آنذاك بوسعه القيام مع شيء من الجهد والمشقة ، وبعد أن اعتدل من الركوع وأراد أن يسجد وقع على الأرض بشدة ومع شدة الضربة التي تعرض لها الشيخ، وقوة الصوت الذي نجم عن ارتطام جسمه بالأرض ، لم يصرخ ولم يتأوه بل أتم صلاته وكأنه لم يحصل شيء ، فلما فرغ من صلاته ، سألته : لمَ لمْ تصل وأنت جالس ؟ قال الشيخ: ما دمت قادراً على القيام سأصلي وأنا قائم " .
- حدثنا عبد الرحمن تمراز : " ذهبت في رفقة الشيخ أحمد ياسين للحج إلى بيت الله الحرام وكان ذلك في أوائل السبعينات وكانت أول حجة يحجها الشيخ حيث رفض الشيخ أن يطوف حول الكعبة إلا مشياً على القدمين وذلك بمساعدة اثنين إلى جانبي الشيخ فطاف رحمه الله الأشواط السبعة مشياً وكان أمامه شخص ومن خلفه آخر ، وقد كنت أمامهم لفتح الطريق ، وحين السعي بين الصفا والمروة سعى الشيخ ماشياً الأشواط السبعة وذلك أيضاً بنفس المساعدة السابقة "(29) .
3) حرصه على النوافل :
لقد عرف الشيخ بتمسكه بأسباب التقوى والصلة بالله عز وجل والذي كان من بينها المحافظة على صلاة التطوع وقيام الليل وصيام النوافل ومنها صيام يومي الاثنين والخميس هذا فضلاً عن تلاوة القرآن الكريم والانشغال بحفظه حتى أتمه في اعتقاله الثاني ، هذا بالإضافة للذكر والتسبيح ، وقد كان هذا منهجاً للشيخ خلال حياته خارج السجن أو داخله .
وقد ذكر الشيخ أنه كان يقرأ في معتقله أربعة أجزاء من القرآن الكريم في صلاة السنة سوى ما يقرأه في صلاة الفرض(30) ، وفي بعض الأحيان كان يقرأ جزأين من القرآن أو أكثر داخل الصلاة وخارجها يزيد في ذلك أو ينقص بحسب حالته الصحية(31) .
كما كان الشيخ يستيقظ من نومه قبل الفجر بساعة على الأقل فيتوضأ ويبدأ بصلاة القيام حتى الأذان فيصلي الفجر في المسجد أو جماعة في مكتبه مع مرافقيه وذلك حسب وضعه الصحي والأمني وبعد الفجر مباشرة يبدأ بقراءة القرآن حتى الساعة السابعة صباحاً(32) .
وقد حدثنا الأستاذ الدكتور نزار ريان عن حرص الشيخ على قيام الليل ، فقال: " لقد بت معه الليالي ذوات العدد فما ترك قيام الليل قط"(33) .
كما كان اعتقال الشيخ بمثابة معراجاً إلى الله عز وجل ، وخلوة اغتنمها في العبادة وهو ما أكده حين وصف سجنه - في سياق إجابة على سؤال وجه إليه حول كيفية سجنه بالنسبة له – بقوله : " إن الإنسان المؤمن يجد في السجن متعة ، المتعة هي في كونه يتفرغ لعلاقته مع الله ، علاقة العبادة وعلاقة القرآن ، أنا أكملت حفظ القرآن في السجن "(34) ، وهو ما أكده مرافقوه في معتقله(35) ، ولعل الساعات القليلة التي سبقت استشهاد الشيخ خير دليل على منهج الشيخ التعبدي إذ قضى ليلته الأخيرة في مسجد المجمع الإسلامي بغزة قائماً لله عز وجل ذاكـراً لـه داعياً إليه ، متناولاً طعام السحور لأنه كان ينوي الصوم تطوعاً لله عز وجل وكان يوم اثنيـن، مؤديـاً صلاة الفجر في جماعة ، ليكون بعد ذلك في ذمة الله عز وجل ولتتحقق له عقب ذلك أمنيته في لقاء الله تعالى شهيداً(36) .
ولقد تحدث الشيخ مرة بعد خروجه الأول من السجن متمنياً أن كل شباب الحركة الإسلامية يدخلون السجن لمدة ستة أشهر فقط .. قلتُ له : ما هذه الأمنية العجيبة ؟! قال : حتى يختلي الشباب مع نفسه ويعود إلى ربه فيقرأ القرآن والكتب الإسلامية من جهة ، ويُزال حاجز الخوف من العدو من جهة أخرى(37) .
إن الناظر والمتأمل لسيرة الشيخ أحمد ياسين وعبادته ليقف دون أدنى شك على المنهج الرباني الذي سلكه الشيخ في أحواله كلهـا ، الأمر الذي يجعله جديراً بنعمة الله عز وجل عليه ألا وهي سعة العلم وبعد الأفق ، وفراسة تحقق له علماً ، لا يمكن أن يتحصله العبد إلا عبر رياضة لنفس ومجاهدة لها وتربيته إياها على مخافة الله عز وجل وإلزامها بطاعته وعبادته .
حدثنا مصباح الكحلوت وعبد الرحمن تمراز أن الشيخ كان معروفاً بفراسته حتى إنه كان يعرف ما يريده محدثه قبل أن يحدثه(38) ، وأضاف عبد الرحمن تمراز أن الأمر يتعدى ذلك إلى أن الشيخ كان يستشعر مدى صدق محدِّثه ، وكان يبني رأيه على ما يستشفه من نظرته الثابتة فإذا سئل لِمَ صنعت ذلك ؟ يقول هكذا رأيت . وكنا نستدرك بعد فترة موقفه وحكمته(39) ، ومن ذلك – على سبيل المثال لا الحصـر - : " أنه حضر لأحد المذيعين في التلفاز الأردني عام 1997م عدة مقابلات مع بعض الشخصيات البارزة ، عقَّب عليها بقوله : " وهذا المذيع سيتسلم في يوم من الأيام وزارة الإعلام وما أسرع ما صدَّقت الأيام فراسته ! وإذا بمذيع الأمس يصير وزير إعلام "(40) ، ومنه أيضاً أنه ذكر أن خليفة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بعد وفاته سيكون محمود عباس وليس غيره من رؤساء أجهزة الأمن(41) ، وقد تحقق ذلك بعد وفاة أبي عمار وتولى الأخير منصب رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ، وذلك مصداقاً لقوله تعالى : وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ (42) .
المطلب الثاني : الإمكانات الذهنية :
تميز الشيخ أحمد ياسين بشدة الذكاء وقوة الذاكرة وسرعة البديهة والفطنة والفراسة والتي هي ثمرة للتقوى ، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال النقاط الآتية :
أولاً : شدة الذكاء وقوة الذاكرة :
عرف الشيخ بذكائه وقوة ذاكرته منذ سني حياته الأولى ، حيث كان متفوقاً بين أقرانه حيث لم يتجاوز ترتيبه في سنوات دراسته عن الخمسة الأوائل ، حتى إنه كان مرجعية لزملائه ، فكان يقرأ الكتاب فيأتي أصحابه فكان يعلمهم ويشرح لهم(43) ، وقد شهد له من اقترب منه ولازمه بأنه عالي الفطنة ، موصوف بالذكاء الخارق وقوة الذاكرة والتي بلغت تذكر الأمر منذ أربعين أو خمسين سنة ، حتى إنه كان يراجع الأخ فيما مضى من تلك السنوات(44) .
وقد أتاه ذات يوم شاب اسمه عبد العزيز(45) متعارفاً مع الشيخ وكان لقاؤه هذا الأول من نوعه، وقد تكرر مرة ثانية بعد ثلاثة أشهر، فإذ بالشيخ يرحب به قائلاً: أهلاً أخ عبد العزيز(46).
كما كان الشيخ يمتلك من القدرة الذهنية ما يمكنه أن يكرر المعلومات الكثيرة بعد أن تعرض عليه من الوهلة الأولى بدقة متناهية ، مما يعكس ما تمتع به الشيخ وما تميز به من المواهب الخاصة والقريحة المتقدة .
حدثنا الدكتور محمد بخيت(47) " أنه اجتمع عدد كبير من الشباب في مسجد المجمع الإسلامي وكان ذلك تقريباً عام 1980م وذلك لصلاة الليل ، وبعد القيام جلسنا وتعارفنا فذكر كل واحد اسمه ثلاثياً وعمله والحالة الاجتماعية ، وكان العدد يقارب مائة وعشرون شخصاً، فقال الشيخ : من يعيد ما سمعنا ، الاسم والعمل والحالة الاجتماعية ، فلم يستطع أحد ، فأعادها الشيخ دون أي خطأ وكان الحضور من مناطق شتى " .
ثانياً : دقة الملاحظة ودقة التعبير :
إن ما يعكس ما تميز به الشيخ من الإمكانات الذهنية هو ما عرف به من النباهة ودقة الملاحظة ، وهو من لوازم الشخصية القيادية التي تمتع بها الشيخ أحمد ياسين إذ يحسب عليه من الكلمات والتعبيرات والمواقف ما لا يحسب على غيره .
ويمكن الوقوف على دقة الملاحظة والتعبير لدى الشيخ من خلال المواقف الآتية :
1- خلال فترة اعتقال الشيخ الأولى في انتفاضة المساجد عام 1987م ، أجرت الصحافة عدة لقاءات معه وكان من أهداف إحدى المقابلات إحراج الشيخ أمام الرأي العام العالمي ، وذلك إذا نجحوا في استدراجه لما يريدون من التعبيرات والتصريحات .
ومن ذلك أدت إحدى العمليات الاستشهادية داخل باص يهودي داخل الخط الأخضر إلى مقتل واحدٍ وعشرين جندياً يهودياً في بيت ليد ، فسئل الشيخ أمام التلفاز عن رأيه في هذا الانفجار ، فإذا ما أيد العملية أظهروه أمام العالم كطاغية يحب القتل فيفقد التعاطف العالمي معه ، وإذا استنكرها أظهروه للفلسطينيين كمتخاذل ورافض للجهاد وهو ما يحدث فتنة بين مؤيديه ومن يتربص به من الخصوم ، إلا أن الشيخ انتبه لمكر اليهود فكان دقيقاً حريصاً في تصريحه حيث قال لهم : " أنا حزين لأن سفك الدماء لم ينته بعد"، ففهمها المحايدون أنه لا يحب القتل ، أما أنصاره ومؤيدوه فقد فهموها أنه حزين لأن فلسطين لم تتحرر بعد وبالتالي هم مجبورون على قتل المحتلين(48) ، وقد يفهمها المؤيدون بأنه حزين لاستمرار سفك دماء الفلسطينيين من قبل المحتلين .
2- في جلسة انتخابات لعمل ما كان مقرراً انتخاب لجنة مكونة من ثماني أفراد ، فقال الشيخ: عليكم انتخاب ثمانية من الحضور فقال أحد الجالسين : وأنت أحدهم فكان هذا السؤال يوهم أن الشيخ أحد الثمانية ، فقال الشيخ مباشرة : وأنا أحد الحضور – أي حقي كأي واحد منكم -(49) .
المطلب الثالث : إرادة التحصيل العلمي :
إن التحصيل العلمي يحتاج لتحققه إرادة قوية ، لدى طالب العلم ، إذ بدونها يبقى المرء في عداد الجهلاء ، أو ممن اضمحلت علومهم ممن قنع بالقليل منه ، فهو غير مستحق لأن يكون في مصاف العلماء ، ولعل موقف موسى عليه السلام حينما علم أن هناك من هو أعلم منه – وهو الخضر عليه السلام – عزم أن يسير إليه ولو أدى ذلك أن يسير أحقاباً ، غير مكترث أو آبه بما يعترضه من جهد ونصب ، ما دامت النتيجة علماً نافعاً يقربه لله عز وجل ، فيه خير دليـل علـى أهميـة إرادة التحصيل العلمي لطالب العلم ، قال تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (50) ، ولما التقى بالخضر عليه السلام سأله العلم ، قال تعالى : قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (51) .
لقد كان الشيخ أحمد ياسين من أولئك الذين عرفوا بقوة الإرادة ، التي لا تنال منها الحوادث والخطوب ، إذ تميز بحرصه وشغفه بالتحصيل العلمي منذ صغره ، ولم تثنه الظروف السياسية والتي تعرضت لها فلسطين زمن النكبة الأولى عام 1948م – حيث سقطت أكثر البلاد ومنها بلدته ، الأمر الذي دفعه وأسرته للهجرة إلى غزة – من أن يعمل على تحصيل العلم ، فداهمته حادثة الشلل التي لازمته حتى استشهاده ، ولم يتغير موقفه نحو العلم .
وفي ضوء ما تقدم ، يمكن توضيح مدى إرادة التحصيل العلمي لدى الشيخ من خلال بعض المواقف البارزة في حياته :
أولاً : عاش الشيخ أحمد ياسين حتى عام 1952م معافى سليماً قادراً على الحركة والتنقل ، شأنه كأي شاب آخر من الأصحاء ، وقد عكست السنوات الأولى من المراحل الدراسية التي مر بها الشيخ خلال هذه الفترة صورة الطالب المثابر ، الحريص على دروس العلم ، فدرس في مدرسة الجورة الابتدائية حتى الصف الخامس ، حيث درس شهراً فيها ، حتى بدأت النكبة عام 1948م ، فأجبروا على الرحيل من الجورة إلى غزة ، ومع شدة هذه الظروف إلا أنها لم تذهب بحب الشيخ إلى المدرسة مرة أخرى ، فالتحق بمدرسة في النصيرات إذ كانت الأقرب إليه فدرس عدة أشهر ، لكن وبالنظر إلى قساوة الظروف الاقتصادية التي تعيشها أسرته ، اضطرت الأسرة إلى الرحيل إلى غزة مرة أخرى ؛ لكي يعمل في مطعم فول عند ميناء غزة نحواً من سنة ، وكان ذلك أواخر عام 1949 و1950م ، ثم التحق بالمدرسة مرة أخرى حيث قبل في الصف الرابع رغم أنه أنهاه ، إلا أنه عاد إليه بعد سنتين من مغادرته إليه بنجاح ، دون أن يفت ذلك من عزيمته ، ثم تعرض إلى حادثة الشلل وكان ذلك في صيف عام 1952م، وبعد أن مكث خمسة وأربعين يوماً في المستشفى عقب انزلاق في عموده الفقري خلال لعبة الرياضة على شاطئ بحر غزة ، خرج ليعود إلى المدرسة في نفس العام 1952م إلى الصف السادس ، مع أنه خرج ضعيفاً لا يستطيع أن يمسك القلم ، وغير قادر على المشي إلا بصعوبة فإذا ما تعثر بأي شيء يسقط أرضاً ، ومع ذلك كله نجح في الدراسة الابتدائية والإعدادية ثم انتقل إلى المرحلة الثانوية ، وذلك في مدرسة الإمام الشافعي ثم مدرسة الكرمل (وكانت تسمى آنذاك الرمال) ثم مدرسة فلسطين الثانوية ، حيث أتم المرحلة الثانوية فيها بتفوق ، وعلى الرغم من أنه حصل على قبول من جامعة القاهرة إلا أن الظروف المادية حالت مرة أخرى أمام ذلك فقدم الوظيفة إذ لا قدرة له لتحمل نفقات الدراسة في مصر ، وفي عام 1964م قرر – على الرغم من اعتلال صحته - أن يحقق حلمه في إكمال دراسته أسوة بزملائه الذين سبقوه إلى ذلك ، فتقدم لامتحان الثانوية مرة أخرى ثم إلى جامعة عين شمس بمصر بقسم اللغة الإنجليزية ، وقد تقدم للامتحان في الجامعة أواخر العام 1965م إلا أن الاعتقالات التي وقعت للإخوان المسلمين في مصر آنذاك وما أعقبه من إعدام سيد قطب حال دون عودته إلى مصر مرة أخرى ، ثم فكر مرة أخرى في الذهاب لمصر لإتمام دراسته ، وذلك عام 1967م قبل العدوان في الخامس من يونيو وقد أخذ إجازة من التعليم كي يسافر إلا أن طلبه قد رفض ومنع من السفر(52) .
ثانياً : أكد كل من صاحب الشيخ واقترب منه على حرصه الشديد ، وتفانيه لتحصيل العلم والمعرفة ، إذ عجز مرضه من أن ينال من هذا الحرص ، وزاده سجنه واعتقاله لدى الاحتلال حرصاً وإرادة على تحصيل العلم النافع .
حدثنا الأستاذ محسن أبو عيطة والذي كان مرافقاً للشيخ في اعتقاله الثاني : " قمت بعمل ما يشبه الحامل لوضع الكتاب عليه وذلك بواسطة يد الكرسي إضافة للوسائل التي لدينا في الغرفة الصغيرة بسجن كفار يونا الأمر الذي سمح للشيخ أن يقرأ الصفحتين المتقابلتين فكان إذا فرغ منها أومأ إليَّ بعينيه أن اقلب الصفحة ، وذات مرة أخذتني غفوة فكره إيقاظي فاستيقظت فرأيته وقد مد رأسه على الكتاب وأخذ يقلب الصفحة بلسانه ، فقلت : يا أبا محمد لمَ لمْ توقظني؟! هل تحسب أنني سأزعل إذا أيقظتني ؟! نحن هنا في خدمتك !! فقال بشيء من الغضب : الذي أستطيع عمله يجب أن أفعله ، ثم قال : أنتم المشايخ اللي خربتوا الشيخ ، كنت أمشي لكن الكل يريد أن يحمل الشيخ "(53) .
ومع قوة الذاكرة التي تمتع بها الشيخ إلا أنه كان يعمد إلى تلخيص بعض الفقرات العلمية ، كما حدث – مثلاً - من تلخيصه لبعض الفقرات التي تعجبه بيده ، من كتاب المجموع في الفقه الشافعي للإمام النووي ، مع ما يرافق ذلك من صعوبة لوضعه الصحي حيث الشلل الذي أصاب جسده فمنعه من الحركة إلا بصعوبة بالغة(54) .
المطلب الرابع : تنوع مصادر المعرفة :
تعددت مصادر التحصيل العلمي والمعرفي عند الشيخ ، الأمر الذي يفسر المستوى الثقافي الرفيع الذي بلغه ، إذ على الرغم من أنه ولد لأسرة عادية كانت تتقن الفلاحة والزراعة والصيد في البحر ، شأنها في ذلك كأبناء الشعب الفلسطيني خاصة في قرية الجورة(55) ، ومع أنَّ الشيخ قد توفي والده منذ طفولته ، إلا أن الله تعالى قد عوضه إرادة قوية دفعته لتحقيق مزيد من التحصيل العلمي .
ويمكن إجمال أهم المصادر التي تلقى الشيخ من خلالها علومه وثقافته في النقاط الآتية :
1) المدرسة والجامعة :
إن المدارس والجامعات من أهم المؤسسات التي تهدف إلى تزويد الإنسان بالعلوم والمعارف المختلفة ، وقد التحق الشيخ بهذه المؤسسة التعليمية في مختلف مراحلها حتى أتم المرحلة الثانوية ثم درس عاماً واحداً فقط بجامعة عين شمس في قسم اللغة الإنجليزية ، حيث حالـت بينـه وبين إكمال دراسته الظروف ، ليستقر عقب ذلك في عمله كمدرس في سلك التعليم(56) ، وهو ما يحقق بالضرورة تغذية راجعة للمدرس نفسه إذ إن تعليم الآخرين يضيف للإنسان تجربة ومعرفة جديدة للمعلم تزداد مع مرور الأيام ، فضلاً عما يستلزمه ذلك من تحضير وتهيئة ذهنية وترسيخ ومراجعة للمعلومات وطرائق التدريس ، كي يحقق المعلم أعلى درجات النجاح في عمله .
2) أثر البيت على المعرفة عند الشيخ:
يعد البيـت في الإسـلام من المؤسسات التعليمية التي اهتم بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يجتمع بأصحابه في بيت الأرقم بن أبي الأرقم ليعلم الناس أحكام دينهم(57) ، وهو ما نهجه أصحابه من بعده(58) .
لقد كان بيت الشيخ أحمد ياسين كتلك البيوت من حيث كونها مناراً للعلم وملتقى العلماء، إذ كان بيته في معسكر الشاطئ متواضعاً –من القرميد – يؤمه الشباب بوصفه رجل الدعوة الإسلامية، وبيته من ثم مقراً لهم، وكان يجتمع بالنقباء من رجال الدعوة – وهم نقباء الأسر – وينصت لكل واحد منهم، ثم يبدي رأيه فيما يدور من الحوار، ويناقشهم فيما أبدوه من وجهات نظر إن لزم ذلك(59)، وكانوا إذا لم يقفوا على إجابة سؤال في مسألة ما، يكلف الشيخ أحدهم أن يراجع هذه المسألة من مظانها ؛ كي يقدم في اللقاء التالي الإجابة الشافية عن تلك المسألة، وكان كثيراً ما يتصل بأهل الاختصاص للإجابة عن بعض التساؤلات الغامضة التي تشكل عليهم(60) .
ولم يتغير هذا الحال بعد انتقال مكان سكناه قرب المجمع الإسلامي ، إذ بقي بيته مأوى لكل الشباب والقادمين ، فكان كالخلية التي لا تفتر(61) ، وهذا يوضح أن بيت الشيخ كان مؤسسة علمية ، يتشاور فيها الشيخ ويستمع لمن حوله ويتبادل معهم الآراء والحلول لما يجّد من إشكالات، وهو ما يساهم إلى حد كبير في ارتقاء المستوى العلمي والمعرفي للشيخ، خاصة إذا ما سلّمنا بقوة ذاكرته ، وشدة ذكائه كما أسلفنا .
ويعد إنشاء الشيخ مكتبة في بيته تضم كثيراً من أبواب المعرفة تأكيد على أثر البيت وأهميته في الارتقاء بالمستوى المعرفي عنده.
حدثنا الدكتور إبراهيم بخيـت : " تتجـاوز مكتبة الشيخ الإمام أحمد ياسين أكثر من (950) تسعمائة وخمسين عنواناً في شتى العلوم الدينية والإنسانية :
- علوم الدين الإسلامي : الفكر الإسلامي، الدعوة الإسلامية ، الحركات الإسلامية .
- العلوم الإنسانية : تاريخ ، سياسة، الصراع الفلسطينية الإسرائيلي ، فلسطينيات ، لغة عربية ، إعلام .
وهذه الكتب تتراوح بين الكتب الموسوعية كالموسوعة الفقهية 37 مجلداً ، وكتيبات صغيرة إضافة إلى القصص والروايات الدينية ، وبعض الكتب في العلوم البحتة "(62) .
3) المسجد :
يعد المسجد من أقدس الأماكن وأهمها في التاريخ الإسلامي، فقد ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم به حينما وطئت قدمه أرض المدينة المنورة(63)، ليمثل عبر التاريخ مؤسسة أكاديمية تنشر العلم والمعرفـة بيـن أبنـاء المسلمين، وتجعله ملتقى ثقافياً يلتقي خلاله العلماء بطلاب العلم ومريديه.
وقد برز اهتمام الشيخ أحمد ياسين بارتياد المساجد والمواظبة عليها عقب حادثة الشلل التي تعرض لها في شبابه(64) ، وكان – رحمه الله – يتردد على مسجد أبو خضرة – في وسط غزة – حرصاً منه على حضور المحاضرات التي كان يلقيها وفود الإخوان المسلمين الذين كانوا يأتون إلى غزة في هذه المرحلة ، حيث كان من بينهم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ، وقد كان ذلك قبل انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين ، ليتزود من العلم والمعرفة، وليصعد من نشاطه الدعوي عقب ذلك سواء في بناء المساجد كمسجد الشمالي والمجمع الإسلامي ، أو في الخطابة والوعظ في مسجد العباس بمدينة غزة وغيره ، إذ كان الشيخ من أشهر خطباء غزة وكان ممن لا يخشى في الله لومة لائم(65) .
4) نظام الأسر :
اهتمت جماعة الإخوان المسلمين بتقسيم أعضائها إلى أسر ، أي مجموعات صغيرة أسوة بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة(66) ، حيث تحدد الجماعة مناهج خاصة تتناسب ومستوى المجموعة الثقافي والذهني للارتقاء بهم تربوياً وثقافياً(67) .
وعقب انتماء الشيخ لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين عام 1954م ، بدأ تشكيل الأسر الإخوانية ، والتي كانت تتسم بالسرية الشديدة خاصة وأنه واكبها حملة اعتقالات في صفوف جماعة الإخوان في مصر ، فضلاً عن الإعدامات والمطاردات لرجال الحركة الإسلامية، وممن كان مع الشيخ في أسرة واحدة آنذاك عبد الرؤوف أبو دية ، والذي كان يدرس معه في نفس الفصل من المرحلة الإعدادية ، وبالنظر إلى التضييقات الحكومية كانت الأسر تعقد جلساتها في الغابة ، والتي يطلق عليها اليوم اسم المشتل – على مقربة من شاطئ بحر غزة – فكانوا يدرسون فقه السنة لسيد سابق ، والحديث ورسائل البنا ويبدأوا بحفظ جزء عم من القرآن الكريم ، وكانت الأسرة عبارة عن لقاء أسبوعي ، يتطور منهجهم فيه باستمرار وتتدرج الدراسة فيه بحسب المستوى الثقافي للأفراد(68) ، وكان عبد الرحمن بارود –أحد أصدقاء الشيخ- والذي حصل على درجة الدكتوراه في اللغة العربية من مصر فيما بعد وأصبح يقرض الشعر ، أحد أفراد الأسرة التي انضم إليها الشيخ أيضاً(69) .
حدثنا فؤاد الشيخ سلامة : " لقد اعتمدت الأسر تفسير الظلال للإمام سيد قطب ، وكان الشيخ – رحمه الله – يكثر القراءة فيه ، فضلاً عن حفظه للعديد من سور وأجزاء القرآن الكريم كسورة النساء والنور والتوبة والأنفال وبعض سور الحواميم حيث كان يلتزم مع النقباء بهذا البرنامج ، وهو ما عكس فقهاً واضحاً وثقافة واسعة لدى الشيخ ، فكان يكثر من الاستشهاد من آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا ما تحدث في قضية معينة ، حتى إن السامع لا يشبع من علمه لسعته ، وكان مرجعاً علمياً في مختلف القضايا والمعضلات "(70) .
5) مطالعة الكتب والصحف والمجلات :
إن المطالعة تكسب القارئ عمراً جديداً إلى عمره ، إذ تضيف إليه تجارب الآخرين وأفكارهم ومعارفهم ، وهو ما يجعل من القارئ المثابر موسوعة علمية خاصة إذا ما قرأ في الكتب المفيدة والمراجع الأصيلة ، وعرف مع ذلك بذكائه وقوة ذاكرته ، وحرصه على الامتثال لأمر الله عز وجل بالقراءة ، في سورة العلق : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (71).
لقد كان الشيخ يحب المطالعة والقراءة في الكتب الدينية والسياسية وله بعض القراءات الأدبية ، حيث أخبر الشيخ بأنه قد قرأ تفسير ظلال القرآن الكريم وأكثر كتاب تفسير الطبري إضافة لقراءته تفسير ابن كثير كما قرأ معظم صحيح مسلم بشرح النووي وكان يقرأ في فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني ، كما قُرئ عليه من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ كتاب شرح أصول العقيدة الإسلامية للدكتور نسيم ياسين وأثنى عليه خيراً ، وأوصى أن يعتمد في تربية أبناء الحركة ، كما قرأ سلسلة كتب محمد أحمد الراشد في فقه الدعوة إضافة إلى غيرها من كتب الفكر والدعوة الإسلامية(72) ، خاصة كتابات الشيخ فتحي يكن ومحمد الغزالي(73) ، كما وكان الشيخ يهتم بمطالعة كتب التاريخ ككتاب البداية والنهاية الذي كان مولعاً بقراءته وهو سلسلة من عشرين مجلداً(74) .
6) أثر السجن على المعرفة عند الشيخ:
يعد السجن من الأماكن التي وفرت للشيخ متسعاً من الوقت، لتحصيل العديد من المعارف، حيث وجه الشيخ سني اعتقاله نحو الكسب المعرفي ، حتى حفظ كتاب الله تعالى طالع عدداً من الكتب المختلفة ، يقول الشيخ أحمد ياسين : " أنا أكملت حفظ القرآن في السجن ، لم أكن قد حفظته بعد ، نعم كنت أحفظ أجزاء كبيرة منه ، لكن لم يكن لدي الوقت للحفظ ، وفي هذه السنة (1995م) أنهيت حفظ القرآن الكريم ، واطلعت على التفاسير ، واطلعت على التاريخ الإسلامي ، وعلى أصول الفقه ، وكتب اللغة العربية ، والفقه الإسلامي في مجلدات ، ثلاثة وعشرين مجلداً للأستاذ محمد بخيت المطيعي الذي كان يكمل كتاب الإمام النووي رحمه الله ... المجموع للنووي ، يعني كان الإنسان في سجنه هي فترة دراسة وعلم ، فترة عبادة ومعنوية روحية عالية جداً "(75) .
وقد بلغ حرصه واهتمامه بكتاب المجموع في الفقه الشافعي للإمام النووي أن يأخذه معه حينما تم الإفراج عنه في اعتقاله الأخير ليضيفه إلى مكتبته في بيته(76) .
وكان الشيخ حريصاً على قراءة الصحف والمجلات وخاصة في السجن حيث كانت وسيلة ضرورية تصله بالواقع الفلسطيني خارج حدود السجن ، حتى كان الشيخ يقرأ الإعلانات التي تتعلق ببيع الملابس ونحوها فلما سئل عن ذلك قال : " لأعرف إلى أي حد وصل أهل الفساد بفسادهم " ولما سئل عن اهتمامه بقراءة أخبار الرياضة ، قال مبيناً اهتمامه وحبه لها : "وهل أصابني ما أصابني إلا بسبب الرياضة ؟"(77)– ويريد بذلك حادثة الشلل-.
ومما يعكس مدى اهتمام الشيخ بالصحف أنه كان يعد حرمانه منها من المنغصات التي يقوم بها اليهود ضد المعتقلين لحرمانهم من معرفة أخبار أهلهم ووطنهم(78) .
7) وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وأشرطة الكاسيت :
حرص الشيخ على مشاهدة البرامج الإخبارية والتحاليل السياسية عبر وسائل الإعلام المسموعة كالراديو ، والمرئية كالتلفاز(79) ، وقد كان يستخدم سماعات الأذن في أواخر حياته وذلك لما كان يعانيه آنذاك من ضعف في السمع(80) ، وهو ما يمثل رافداً معرفياً لا يمكن تجاوزه في زمن التقدم التكنولوجي المعاصر، إذ يزود المتابع بكم وافر من العلوم والمعارف.
وكان يحرص الشيخ على اقتناء الراديو داخل سجنه وكذلك التلفزيون ، إذ كان ذلك مسموحاً ، وهو ما يوفر لهم التواصل مع مصاب شعبهم وهموم أمتهم ، وما يكابدونه من معاناة ويعايشونه من أحداث وتطورات(81) .
وكان يعجبه من البرامج التلفزيونية برامج المناظرات وبعض المسلسلات التاريخية والأدبية ، كما كان الشيخ يستمع إلى أشرطة كاسيت للنشيد الإسلامي(82) ، وكان لا يمتنع عن سماع الأشرطة التي تتضمن الأغاني الوطنية حتى لو رافقها بعض الموسيقى ، وذلك من أجل المعرفة لتوعية الناس وتحذيرهم من المحرمات .
يقول د. يحيى الدجني(83) : " صليت يوماً في مسجد المجمع الإسلامي ، وكان الشيخ متواجداً فيه ، فأقبل شاب وأخبر الشيخ بأنه يباع في السوق شريط يتضمن بعض الأغاني التي تهاجم الإسلام ، فطلب منه أن يأتي بالشريط ليستمع إليه فقال الشاب : إن فيه موسيقى ! فقال الشيخ سأستمع إليه ليس من أجل الموسيقى وإنما لأعرف ما يقال عن الإسلام فيه " .
8) الإنترنت :
لم يهمل الشيخ وسيلة الإنترنت ، بل استخدمها بشكل مكنه من زيادة معارفه وتواصله مع الوسائل الحديثة بما يخدم الدعوة الإسلامية ، فقد كان الشيخ يطلب من مرافقيه أن يستخرجوا بعض المقالات التي توضح – مثلاً – ما يمكر بالحركة الإسلامية أو تتحدث سلباً عن بعض الشخصيات الإسلامية ، وذلك كي يتمكن من وضع الردود المناسبة وتحديد الموقف اللازم(84) ، وقد كانت توضع هذه المقالات على مكتبه ، حتى إذا دخله أخذ يقرأ هذه المقالات والتحليلات ما أسعفه وقته لذلك(85) .
المبحث الثاني
جوانب من ثقافة الشيخ أحمد ياسين وعلومه
برزت ثقافة الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله – في العديد من المجالات العلمية المتنوعة، إذ لم تقتصر على الثقافة الإسلامية والتي أصبح له باع طويل فيها – إذ هي الأكثر بروزاً – بل امتدت لتشمل الثقافة اللغوية ، والثقافة الإنسانية ، والثقافة الواقعية والثقافة العامة . وهو ما يمكن بيانه في ضوء المطالب الخمسة الآتية :
المطلب الأول : الثقافة الإسلامية :
إن الداعية إلى الله لا بد أن يعي الفكرة التي يدعو إليها وعياً كاملاً ، وإلا انحسر نجاحه لقصور فهمه لدعوته ، لذا حرص الشيخ أن يغتنم ما أمكنه من الوقت للتزود من مصادر الثقافة الإسلامية ، والتفقه بالعلوم الشرعية كالقرآن الكريم وتفسيره والسنة النبوية والفقه وغيره ، كي يرقى بالعمل الإسلامي إلى أعلى درجات النجاح ، إذ فاقد الشيء لا يعطيه . ويمكن توضيح مدى سعة الثقافة الإسلامية لدى الشيخ من خلال النقاط الآتية :
أولاً : القرآن الكريم وتفسيره :
يمثل القرآن الكريم أهم مصدر للثقافة الإسلامية ، إذ هو أصل الأصول جميعاً ، وهذا يستلزم من الدعاة أن ينهلوا منه قدر جهدهم حفظاً وفهماً وعملاً ، ولا بد للداعية أن يتزود بحفظ الكثير من سور وآيات القرآن الكريم ، ليستشهد بها في عرض فكرته ، وتدعيم وجهة نظره ، وهو ما يضفي عليها حالة من القداسة والهيبة والاحترام .
ويمكن إجمال مدى ثقافة الشيخ في هذا الجانب في ثلاث نقاط ، وهي :
1) حفظ القرآن الكريم :
ابتدأ الشيخ بحفظ آيات القرآن الكريم وأجزائه ، خاصة مع انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين والتي كانت قد أقرت برنامجاً في نظام الأسر يتضمن حفظ جزء عم وبعض السور القرآنية الأخرى(86) ، كما اغتنم الشيخ فترات الاعتقال لحفظ المزيد من آي القرآن الكريم ، حيث أتم حفظ سورة البقرة وآل عمران في اعتقاله الأول عام 1984م(87) ، وأتم حفظ القرآن الكريم في اعتقاله الأخير عام 1995م(88) .
2) تفسير القرآن الكريم وفهم معانيه :
لقد حبا الله تعالى الشيخ قدرة فائقة على الحفظ والفهم ، والإرادة القوية ، وهو ما دفعه لأن ينهل من كتب التفاسير فقرأ تفسير الظلال وتفسير ابن كثير ومعظم تفسير الطبري(89) ، ومن دلائل ذلك :
أ- الاستشهاد بالآيات القرآنية في مواطنها :
لقد كان الشيخ يدعم أقواله وأفكاره بالآيات القرآنية التي تناسب المقام ، مما يعكس فقهاً عظيماً لآيات القرآن الكريم ، ومن ذلك – مثلاً - أنه سئل : بماذا تنصح أبناء حماس ؟ فقال الشيخ: (أنصحهم بتقوى الله ، ومن التقوى أن تقبلوا على العبادة وحفظ القرآن ، ومن التقوى أن تستفيدوا من الوقت فتقبلوا على العلم والتعلم وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (90) ومن التقوى أن نشغل أنفسنا بذكر الله بأوقات فراغنا ولا نشتغل بغيبة إخواننا ، ومن التقوى أن يحب بعضنا بعضاً ، وأن يؤثر بعضنا بعضاً ، ومن التقوى أن يغفر المرء لإخوانه زلاتهم ويلتمس لهم العذر ، ومن التقوى أن يسهر الأخ على خدمـة إخوانـه ومعاونتهـم ، كما وصف القرآن المؤمنين بقوله : أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ (91))(92) .
ويلاحظ من الآيتين السابقتين في نصيحة الشيخ لأبناء حركة حماس جماع توجيهاته لهم، فمن أقبل على العلم وسأل الله عز وجل أن يزيده منه فقد استفاد من وقته وربى نفسه بملء الفراغ ، فأقبل على عبادة الله وحفظ القرآن وذكر الله تعالى وهو ما يورث التقوى ، وأن التراحم بين المؤمنين يعني أن يحب الأخ أخاه المسلم ويسهر على خدمته ويحافظ على سائر حقوقه .
وقد اكتفى الشيخ بآيات من كتاب الله عز وجل كوصية له لمن بعده ، حيث سئل عن وصيته فأجاب : وصيتي أكتبها ، وأكتبها عملياً إن وصيتي قول الله تعالى : وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) ، وفي دلالة الآيات على ما أراده الشيخ من وصية لأتباعه والمعاني ما لا يخفى، فهي توضح أن منهج الأنبياء ومن معهم ، ممن حمل منهجهم ، أنهم أوذوا في سبيل الله وأن ذلك لم يثنهم أو يضعفهم عن مواصلة المسير ، بل صبروا واحتسبوا وتوجهوا إلى الله بالدعاء والأخذ بأسباب النصر فجاهدوا حتى تحقق لهم النصر ولمن استشهد منهم الجنة .
وقـد عرف الشيخ باستشهاده بالآيات القرآنية في خطبه(94) ولقاءاته عبر وسائل الإعلام(95) وغيرها(96) .
ب- التفسير الدقيق للآيات القرآنية :
ساهمت القدرات الذاتية التي وهبها الله إلى الشيخ في حفظه لما يقرأ وفهمه له دون أن تخونه ذاكرته أو تنال منه الأيام وصروف الدهر .
فقد قرأ أحد أتباعه تفسير الآية القرآنية من سورة يوسف : مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ (97) من تفسير الظلال للإمام سيد قطب ، فلما أقبل على درس الشيخ أحب أن تعم الفائدة على الحاضرين فسأل الشيخ عن معنى الآية ، ففسرها الشيخ كما هي في الظلال ، وهو ما يؤكد حفظه لما يقرأ(98).
كما كان يعقد الشيخ الدروس في المساجد يتناول من خلالها بعض الآيات ويقوم بشرحها وتفسيرها مع ربطها بالواقع الذي يعيشه الناس ، وكان من بين ذلك درس الثلاثاء الذي واظب على أدائه في المسجد الشمالي ، في معسكر الشاطئ بمدينة غزة ، بعد العشاء وأحياناً بعد المغرب، حيث تحدث عن أصحاب الكهف في ضوء ما ورد في القرآن الكريم في سورة الكهف، وكذلك أصحاب السبت الذين ورد ذكرهم في سورة الأعراف(99) ، ليدلل من خلالها على طبيعة اليهود التي ألفت العناد والمعصية ومخالفة أوامر الله عز وجل ، في مقابل أهمية الدعوة إلى الله والاستقامة على أمر الله والتي كانت سبباً بيناً في نجاة فريق من بني إسرائيل(100) .
ج- استنباط معاني جديدة من النصوص القرآنية :
لم يقتصر فهم الشيخ – رحمه الله – على ما يقرأه من كتب التفسير ، بل كان يتأمل معاني الآيات الكريمة ليقف على عظيم معانيها ، ملتزماً في ذلك بالضوابط الشرعية ، ومن ذلك تأريخه لزوال دولة إسرائيل معلقاً ذلك بعد شرح فهمه وتفسيره على مشيئة الله - بما يعني عدم جزمه في هذه المسألة- ومستدلاً على ذلك بآيات القرآن الكريم ، حيث قال تعالى : فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (101) ، يقول الشيخ : " أنا أقول إن إسرائيل بائدة إن شاء الله في القرن القادم في الربع الأول منه ، وبالتحديد أنا بقول(102) في 2027م تكون إسرائيل غير موجودة ... لأنني أؤمن بالقرآن الكريم ، القرآن حدثنا أن الأجيال تتغير كل 40 سنة ، في الأربعين الأولى كانت عندنا نكبة ، في الأربعين الثانية بدأت عندنا انتفاضة ومواجهة وتحدٍّ وقتال وقنابل ، في الأربعين الثالثة تكون النهاية ، إن شاء الله تعالى ، هذا استشفاف قرآني ... لأن ربنا حينما فرض على بني إسرائيل أن تتيه في سيناء 40 عاماً لماذا؟ ليغير الجيل المريض التعبان هذا بجيل مقاتل ، وجيلنا الأول هو جيل النكبة ذهب وطلع جيل الأحجار والقنابل ، والجيل القادم هو جيل التحرير إن شاء الله تعالى "(103) .
ثانياً : السنة النبوية :
تعد السنة النبوية المصدر الثاني للثقافة الإسلامية ، وهو ما دفع الشيخ للاستزادة من هذا المعين الذي لا ينضب ، لكي يعيد الأمة إلى أصالتها وأصولها ، وقد ظهرت ثقافته في هذا الجانب من خلال :
1) الاستشهاد بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
كان الشيخ يستدل بالأحاديث النبوية على ما يريد قوله وبيانه للناس في دروسه ومواعظه وحواراته(104) وكان يتناول العديد من مواضيع السيرة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لينطلق منها إلى الواقع الذي يعيشه الناس ، ويعرض من خلالها أفكاره وتعاليمه ، ومن ذلك حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً من بني إسرائيل ، وكيف تاب وقبل الله توبته ليشجع عقب ذلك المذنبين واليائسين من رحمة الله تعالى ، كي يقبلوا عليه ، ومنه أيضاً الحديث الذي أخرجـه البخاري في صحيحه بسنده عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)(105)، حيث شرح الشيخ واستنبط منه حكم وجوب الدعوة إلى الله إلى غير ذلك من العبر والعظات(106).
2) حفظه للكثير من الأحاديث النبوية وقراءته في كتب السنة :
حرص الشيخ على مطالعة كتب السنة وعلى حفظ الحديث الشريف وفهمها وتدبرها ، فقد حفظ الأربعين النووية عن ظهر قلب ، وكان يفرد بعضاً من الوقت حال زيارته لشقيقه الأكبر شحدة إسماعيل ياسين ، لكي يقرأ عليه الدكتور نسيم شحدة ياسين – ابن شقيقه – من كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري وغيره ، خاصة في بعض المسائل التي يريد الوقوف على الأحكام المتعلقة بها، هذا بالإضافة إلى حرص الشيخ على قراءة شرح صحيح مسلم للإمام النووي، وكان يقرأ كذلك في رياض الصالحين(107) ، والذي كان يقتنيه في مكتبته داخل السجن في اعتقاله الأخير(108)، وهو ما جعله ذو معرفة كبيرة بالأحاديث النبوية .
حدثنا الأستاذ الدكتور نزار ريان: " لقد كان الشيخ يقرأ كثيراً في الصحيحين وفي فتح الباري وقد ساومته على نسخته لكتاب فتح الباري عشرات المرات فأبى، فإن قلت إن الشيخ يعرف جميع الأحاديث المتعلقة بالعبادات والمعاملات لا أكون مبالغاً، ومع أنه لا يعرف دقائق علوم الحديث وتفصيلاته إلا أنه كان يميز بين الحديث الصحيح والضعيف والموضوع، ولقد راجعته مئات المرات في مسائل عديدة في مختلف العلوم كالحديث وأصول الفقه وغيرهما فكان له رأياً سديداً راجحاً، وقد ذهبت لزيارته وهو مريض في دار الشفاء، أناقشه في عشرة مسائل، فكان رحمه الله يحاجني في كل ذلك، وأشهد: لقد كان الحق معه في كل ما قال"(109) كما كان يحترم أهل الاختصاص حيث كان كثيراً ما يحيل إلينا بعض الأحاديث لتخريجها وبيان حكمها(110).
3) استنباط الأحكام من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
عرف الشيخ بفهمه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدرته على استنباط الأحكام الشرعية منها.
حدثنا الدكتور سالم سلامة : " لقد ثبت أن الشيخ له اطلاعات واسعة على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ودليلنا على ذلك أنه لما أدلى برأيه بأنه لا مانع من إعطاء هدنة مؤقتة مع اليهود بشرط تجنيب المدنيين من الطرفين من أي اعتداء ، كان مبنياً على فهم واسع وفقه معتبر لما كانت عليه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في المعاملة مع الأعداء، كما في عرضه على غطفان في معركة الأحزاب في أن يعطيهم جزءاً من ثمار المدينة على أن يرجعوا ، ولما في صلح الحديبية ، ولقد أثبت الإمام الشهيد أحمد ياسين أنه على فقه كبير بقبول هدنة مؤقتة وليست دائمة ، كما يسعى الأعداء إذ لا سلام بين الإسلام والكفر"(111) ، وحينما قررت مديرية التربية والتعليم التابعة لوكالة غوث اللاجئين إدخال الاختلاط في بعض الفصول والمراحل في المدارس الابتدائية ساءه ذلك ، ذهبت إلى الشيخ في بيته وأنا ألوم الحركة الإسلامية لتقصيرها أمام هذه الظاهرة الخطيرة ، وعدم منعها بالقوة ، فما كان من الشيخ إلا أن استدل بغزوة الأحزاب حينما عرض ثلث ثمار المدينة على غطفان ليحيّدهم ، وقال هل كان النبي صلى الله عليه وسلم مقصراً أو مخطئاً ؟؟(112) وما وصيته لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين بأن يلتزموا بتطبيق مبادئ الإسلام في الحرب مع أعدائهم قدر جهدهم فلا يقتلوا النساء أو الشيوخ أو الأطفال ، إلا إذا حملوا السلاح وقاتلوهم وذلك من باب الاعتداء بالمثل(113) إلا تأكيد آخر لفهمه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته لأصحابه رضي الله عنهم بمثل تلك التعليمات(114) .
ثالثاً : علم العقيدة :
امتلك الشيخ قدراً وافراً من مصادر العقيدة الإسلامية الرئيسة ، والمتمثلة بالقرآن الكريم الذي يحفظه عن ظهر قلب ، ويفهم معانيه لما قرأه من تفاسير متعددة كي يكون على بينة من أحكامه وتعاليمه ، وما تضمنه من عقيدة صحيحة ، وكذلك السنة النبوية التي توضح له علم العقيدة ، وتبين له مواضيعه كأركان الإيمان والأحكام المتعلقة بذلك .
كما قـام الشيخ بقـراءة بعض كتـب العقيدة السلفية ، حيث قرأ في كتاب شرح العقيدة الطحاوية (115) ، وكتاب شرح أصول العقيدة الإسلامية للدكتور نسيم شحدة ياسين ، وأثنى عليه خيراً(116) ، وقد تناول فيه المؤلف تعريف العقيدة وخصائصها ومعنى الإيمان والإسلام والفرق بينهما والأدلة على وجود الله عز وجل ، ثم أركان الإيمان الستة(117) .
ومما ساهم في زيادة فهم العقيدة الإسلامية لدى الشيخ رجوعه إلى كتب جماعة الإخوان المسلمين ، واقتناعه بمنهجهم ، حيث انتمى للجماعة في مقتبل عمره ، وقد عرفت هذه الجماعة بعقيدتها السلفية الصحيحة(118) ، وما وضحه الإمام الشهيد حسن البنا في رسائله ، وقرأه كذلك الشيخ أحمد ياسين(119) .
يقول الشيخ : " نحن امتداد للإخوان المسلمين في كل العالم ، نحن موجودون هنا بفكر الإخوان وبالعقيدة الإسلامية كاملة ، وليس هناك أي خلاف بيننا وبينهم "(120) .
كما أن الشيخ كان كثيراً ما يناقش الدكتور نسيم ياسين بحكم تخصصه في مجال العقيدة وكان كثيراً ما يسأل عن الخلاف الذي بين السلفية والأشعرية ، فيميل مع المذهب السلفي في نهاية المطاف .
وكانت الجماعة السلفية قد وزَّعت كتاباً في غزة تتهم فيه حركة الإخوان المسلمين بأنها حركة غير سلفية وعندها من البدع الكثير ، فأخذ الشيخ هذا الكتاب وقرأه وأخذ يناقش المختصين في العقيدة في بعض القضايا بما يؤكد دقة فهم الشيخ وامتلاكه للنصوص القرآنية والنبوية التي يمكن الاستشهاد بها في مواطنها الصحيحة .
كما كان الشيخ قد استمع لقول بعض المتخصصين الذين يأخذون على الحركة بعض الملاحظات في الجانب العقائدي، فكان الشيخ يبادرهم بطلبه منهم إجراء دراسة في هذا الموضوع وإظهار الموقف الصحيح الذي تدعمه الآيات والأحاديث وعليه سلفنا الصالح.. وكان كثيراً ما يغيِّر رأيه إذا كان هناك مخالفات في أحد الجوانب.. مثل ما حصل في موضوع تعليق صور الشهداء في المساجد من قبل شباب الحركة، فقد أنزل الشيخ تعميماً على قواعد الحركة بمنع تعليق الصور في المساجد، وكذلك رسم صور الشهداء على لوحات أو ميادين الشوارع العامة والمفترقات، وعندما علم الشيخ بأن ذلك محرمٌ وبأنه باب من أبواب الشرك منعه وأمر بمنعه وهكذا ... (121) .
رابعاً : علم الدعوة :
إن النجاح الدعوي الذي حققه الشيخ أحمد ياسين والمتمثل بانتشار جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين والتي تقلد الشيخ مسئولية الحركة في قطاع غزة عام 1967م(122) ، وما أعقب ذلك من إنشائه لحركة المقاومة الإسلامية حماس عام 1987م(123) ، وهو ما كان له الدور البارز في ظهور الصحوة الإسلامية في فلسطين ، متمثلاً ذلك في كثرة مؤسسات العمل الإسلامي وتنوعها إلى جانب الروافد البشرية التي تدين بالولاء للحركة الإسلامية من كافة أطياف المجتمع الفلسطيني وشرائحه الاجتماعية والثقافية ، يعكس فقهاً دعوياً واسعاً لدى الشيخ – رحمه الله - ، تمثل في إيمانه العميق بنصر هذه الدعوة وانتشارها وعالميتها ، وأن السبيل إلى ذلك لا يتحقق إلا عبر سيل من المخاطر والابتلاءات وهو ما يستلزم من الدعاة النصر والثبات ، وأنهم مطالبون أيضاً بالزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة ، وأن يوحدوا صفوفهم على أسس من الحب والتعاون متخلقين بالصفات اللازمة للداعية الناجح من رحمة ورفق وموعظة حسنة وغيرها .
يقول الشيخ : " إن الرسالة التي نحملها هي رسالة الإسلام العظيمة ، التي جاءت لتنقذ البشرية من الضلال إلى الهدى ، ومن الظلمات إلى النور ، قال تعالى : : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (124) ، لذلك لابد أن يكون حملة الرسالة العظيمة علماء ، تجردوا من الدنيا وشهواتها ، وتعلقوا بالآخرة ونعيمها ، ووحدة القلوب تجمعهم ، ووحدة الأخوة تؤلف بينهم ، الحب والتعاون شعارهم ، همهم إنقاذ الناس من النار بالكلمة الطيبة ، والموعظة الحسنة ، والمعاملة العالية من الرفق والحنان والعطف ، ومد يد المساعدة لإنقاذ من في النار إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، طريقهم طريق الأنبياء ، والرسل الكرام ، طريقهم محفوف بالمخاطر ، ولكنه في النهاية منتصر ، طريقهم البذل والعطاء والصدق والأمانة والوفاء ، والعاقبة للمتقين ، قال تعالى : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(125) "(126).
إن استخدام الشيخ للعديد من أساليب الدعوة ووسائلها المتنوعة، يعكس أفقه لعلم الدعوة، وخبرته الواسعة بها ، وأن أساليبها ووسائلها تمتاز بالمرونة والتجدد وعدم الجمود ، وهو ما ظهر من خلال استخدامه للنشاط الاجتماعي المتمثل بالخدمـات الاجتماعية حيث كان يقوم بجمع التبرعـات وتوزيعها على ذوي الأسـرى والمبعديـن والمحتاجين منذ انتهاء حرب عام 1967م(127)، واستخدام الشيخ التدريس والخطابة والندوات والمواعظ في المساجد لنشر الدعوة الإسلامية بين الناس ، كما وأنشأ الجمعية الإسلامية في مخيم الشاطئ عام 1976م ، والتي كانت تقوم بالأنشطة الرياضية والدينية - ندوات ، محاضرات ، رحلات ، وغيرها ... والإنسانية ، وفي نفس الفترة أنشأ المجمع الإسلامي بغزة والذي لم يأخذ التصديق من السلطات الإسرائيلية إلا في عام 1979م رغم قيامه بالأعمال الكثيرة التي تخدم الدعوة الإسلامية ، فقد اهتم المجمع بأنشطة الدعوة المختلفة من تحفيظ القرآن وتربية الشباب المسلم ، وبناء المساجد والمدارس ورياض الأطفال ، والعيادات الصحية ، كما قام الشيخ برعاية الجامعة الإسلامية بغزة والتي أنشئت عام 1978م ، وحافظ على فلسفتها ومنهجها الإسلامي(128) .
كما أسس الشيخ المكتبات الثقافية في المساجد وكان أولها تلك التي تأسست في مسجد العباس وذلك من أجل جلب الشباب إلى المساجد ورعايتهم ، كما أسس الشيخ فرق النشيد الإسلامي لتكون بديلاً عن الأفراح الماجنة والغناء الفاحش فأصبحت الأنشودة الإسلامية تستعمل للدعوة إلى الله وتوعية الناس ولتحل محلّ الفساد ، إلى غير ذلك من الوسائل التي استخدمها الشيخ للدعوة كالهدية والقصيدة وغيرها(129) .
ولم يكتف الشيخ بالدعوة في قطاع غزة، حيث نظر إلى واقع المسلمين داخل الخط الأخضر، من حيث بعد كثير منهم عن الدين، فبدأ منذ السبعينات يرسل الحافلات من غزة محملة بالدعاة، ليقوموا بدورهم الدعوي تجاههم، فكانوا يتوزعوا على المساجد، ثم يتجمعوا آخر النهار للعودة إلى غزة، وكانوا أحياناً يبيتون هناك في قرى المثلث وبئر السبع، وكان له دور كبير في تأسيس الحركة الإسلامية في تلك المناطق (130) .
خامساً : الفقه الإسلامي :
إن من يجالس الشيخ – رحمه الله – سرعان ما يخرج بنتيجة مفادها أنه يمتلك قدرات واسعة وأفقاً كبيراً، وإمكانات علمية في شتى العلوم، ومن بينها الفقه الإسلامي، وهو ما جعل دعوته وتأثيره يكتسب حيوية في مخيمات ومدن قطاع غزة(131) ، وقد اهتم الشيخ بمختلف جوانب الفقه الإسلامي فلم يقتصر على أحكام العبادات بل تعداه لما سواه من فقه الأطعمة والأشربة وفقه العقوبات وفقه الجهاد وغير ذلك ، مما مكنه أن يكون مرجعاً للناس في شتى الجوانب المعرفية ومن بينها الفقه، وأن ينجح في القضاء وفض النزاعات بين الخصماء في مختلف المسائل، حيث كان "يفصل في القضايا كالزواج والميراث والطلاق والأرض والمشاكل التي تقع بين الجيران وفي كل ما يتنازع الناس فيه ... فيفصل بينهم بما يرضي الله تعالى"(132) ، كما كان الشيخ مرجعاً للناس في حريته ، كان كذلك مرجعاً فقهياً لمن حوله في الأسر(133) .
حدثنا عبد الرحمن تمراز : " كان الشيخ رجل دعوة لا يسأل في شيء إلا وأجاب ، ونادراً ما كان يتوقف اللهم إلا إذا لا يعرف . وعندها يرجع إلى المراجع ، وكان بعد الدرس يفسح المجال للأسئلة الفقهية والسياسية وغيرها فكان يمتاز بالفقه والحنكة وتوصيل الإجابة بالأسلوب المناسب "(134) . كما أن قراءته في كتاب فقه السنة لسيد سابق والذي كان منهجاً في أسر الإخوان المسلمين(135) وكتاب المجموع في الفقه الشافعي للنووي واللذين يشملان مختلف أبواب الفقه ، حتى إنه كان يلخص بعض الفقرات من كتاب المجموع بيده رغم ما بها من ضعف ورغم تذبذب خطه في الكتابة كل ذلك على سعة فقهه وشموله(136) .
ومن النماذج التي تعكس مدى فقه الشيخ ما يأتي :
1) فقه العبادات :
ومن أمثلة فقهه في هذا الجانب :
أ- حدثنا فؤاد الشيخ سلامة : " قمت بتوضئته ذات يوم فمسحت الماء على لحيته فطلب مني الإعادة ، قائلاً : خلل الماء في اللحية ، وهذا يؤكد حرصه على الإتيان بهذه السنة وتعليمه لي ، حيث إنني لم أكن أعرف هذه المعلومة من قبل "(137) .
ب- حدثنا عبد الرحمن تمراز : " عندما أقوم بتوضيئه كان يقول لي : احرص على وصول الماء حول الأنف وكذلك فوق المرفق ، كي يصل الماء للعضو كاملاً ، مع الدلك إضافة إلى غسل الكفين مع اليد إلى المرفق ، لأن ذلك ركن لا ينبغي أن يؤتى به دون الكف ، وكان يحرص على تخليل الأصابع واللحية "(138) .
ج- حدثنا هاني حلس(139) : " صليت ذات يوم الفجر إماماً ، فلم أقنت فلما فرغت من الصلاة قال الشيخ : يا بني لمَ لم تقنت ؟ فقلت إنما أقنت في النوازل فقال : يا بني تريد نوازل أكثر مما نحن فيه ، ثم قال : لقد قنت في كل ركعتين من صلاة القيام ، وبعد ثلاثة أيام وكان يوم جمعة صليت الفجر إماماً ، فقال الشيخ – عقب الصلاة – يا بني هات الكرسي واجلس بجواري ثم قال لي : أنت على أي مذهب فقلت : الشافعي ، فقال : لمَ لم تقرأ سورتي السجدة والإنسان واليوم الجمعة وهذا مذهب الإمام الشافعي " .
د- حدثنا الدكتور أحمد شويدح(140) : " لقد كان الشيخ أحمد ياسين رحمه الله يثق بي في المجال الفقهي ، لذا كان يعود إلي بكثير من الأسئلة الفقهية ومن ذلك فقه العبادات ، وأذكر أنه سألني عقب اختلاف بين الإخوة في مسجد المجمع الإسلامي حول صحة الصلاة على السجاد الموشوم بالنقوش والصلبان(141) ، وبعد الاطلاع على الجواب جاء إلى الجامعة الإسلامية ، وابتسم طويلاً مبدياً إعجابه من الجواب لأنه يرضي جميع الأطراف تحت غطاء شرعي ، وحسبت حينها أن الجواب وافق رأيه " .
2) فقه الأسرة والقضاء والبيوع :
اتسعت ثقافة الشيخ لأبواب الفقه المتعلقة بفقه الأسرة والقضاء والبيوع بشكل يؤكد عظيم فقهه الذي أهله لخدمة دعوته .
حدثنا الدكتور أحمد شويدح: "إن أسئلة الشيخ لم تقتصر على فقه العبادات بل امتدت لتشمل أبواب الفقه الإسلامي الأخرى ، حيث كان يسأل في الأحوال الشخصية فيما يتعلق بالزواج والطلاق والميراث والوصية، وكان يسأل في القضاء وطرق الإثبات فيما يتعلق بمشاكل الناس من معاملات ، وسألني في فقه البيوع فيما يتعلق بالبيع والشراء وأحكامها ، ومن خلال أسئلته ومناقشته لي كنت أشعر أنه عالم متخصص في الفقه الإسلامي من حيث صورة المسألة فإن كانت خلافية أجده يعرف سبب الخلاف وآراء الفقهاء وأدلتهم ، وترجيحه لرأي فقهي عن سبب، سواء كان لقوة الدليل أو لمصلحة عامة الناس ، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي، لماذا سؤالي إذن ؟! وكنت أرى أنه للتأكد ، أو ربما يريد بسؤاله أن يقف على الجديد "(142) .
ولقد جاءته مشكلة ذات مرة ويترتب على حلها مسألة فقهية ، فطرح المسألة للنقاش وفي نهاية الحديث ذكر الشيخ أنه يميل إلى إجابة ما ، وكلفني بأن أذهب للشيخ محمد قوصة لسؤاله ، وبعد سؤال الشيخ محمد قوصة عُدت إليه وكانت الإجابة نفس ما مال إليه الشيخ(143) .
3) فقه الأطعمة والأشربة :
اهتم الشيخ بمعرفة الأحكام المتعلقة بالأطعمة والأشربة وهو ما برز في تأليفه لكتابه الوحيد والذي حمل عنوان : البيرة في الميزان ، وكذلك قراءته في كتب الفقه حول هذه المسائل، وهو ما يمكن توضيحه في نقطتين ، هما :
أ- كتاب البيرة في الميزان : ويقع هذا الكتاب في واحد وثلاثين صفحة ، تناول فيها الشيخ حكم البيرة والخمور وبين أن تغير أسمائها لا يسقط حكم الحرمة ، وأن تناول القليل كالكثير منه في الحرمة ، وأنه لا يجوز استعمال الخمور كدواء وهو ما أكدت النصوص الشرعية التي أكدت حرمة التداوي بما حرم الله عز وجل، مستثنياً بذلك ما يخضع لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، والتي تجيز التداوي بالحرام شريطة ألا يقوم دواء مقامه وأن يعلم يقيناً أن به شفاء ، وأنه بالظن لا يجوز استعماله. وكذلك ناقش الشيخ في كتابه حكم استخدام الكحول في الأدوية ، وحرمة صناعة الخمور في البلاد الإسلامية والاتجار فيها مع الكفار ، أو إهدائها أو قبولها هدية من الكفار ، كذلك فصل الحديث حول الأضرار المترتبة على تعاطي الخمور ، وذلك في ضوء نظرة طبية فاحصة ، ليختتم كتابه بنصيحة لأولي الأمر من الآباء والأمهات والتجار والمسلمين والناس عموماً مذكراً إياهم بالوقفة والحساب بين يدي الله يوم القيامة ، كما ويلاحظ في الكتاب أن الشيخ أكثر من الاستدلالات من الكتاب والسنة والتي لها عظيم الدلالة على فقه الشيخ إذ وضع كل دليلٍ في موضعه المناسب ليدعم ما أشار إليه من أحكام فقهية(144) . وقد بلغ التزام الشيخ وفقهه بتحريم المخدرات من أفيون وحشيش وغيرها أن يرفض أن يستخدمها في الحصول على السلاح ، وذلك مقابل تقديمها للمدمنين اليهود(145) .
ب- لقد عرف الشيخ بمطالعته في كتب الفقه وكان من بين ذلك حبه قراءة المسائل الفقهية فيما يتعلق بالأطعمة ، وكان إذا أعجبته فقرة فإنه يقرؤها على من حوله ويقوم بشرحها وتوضيح معانيها .
يقول رائد بلبول : " وما زلت أذكر مما قرأ عليّ مسألة أكل الميتة وطعام الغير ونصها في المجموع (9/36) في كتاب الأطعمة ، وإن وجد الميتة وطعام الغير وصاحبه غائب ففيه وجهان :
أحدهما : أنه يأكل الطعام لأنه طاهر فكان أولى .
والثاني : يأكل الميتة لأن أكل الميتة ثبت بالنص، وطعام الغير ثبت بالاجتهاد، فقدِّم أكل الميتة عليه، ولأن المنع من أكل الميتة لحق الله سبحانه وتعالى، والمنع من طعام الغير لحق الآدمي، وحقوق الله تعالى مبنية على التسهيل، وحقوق الآدمي مبنية على التشديد"(146).
4) الفقه بقانون العقوبات :
إن من أسمى أماني الشيخ أن يطهر الأرض الإسلامية من الاحتلال، وأن يقيم نظام الإسلام وحكم الله عليه، وقد كانت هذه الأمنية مبنية على أسس من المعرفة والوعي الكامل لطبيعة هذا النظام الإسلامي وما يتضمنه من قانون العقوبات والتشريعات التي ينبغي أن تسود فيه.
وقد بين الشيخ في مقال له نشر على موقع رابطة علماء فلسطين على شبكة الإنترنت نظرته إلى قانون العقوبات ، حيث بين فيه الغرض من العقوبة ، وهو الحد من الجريمة ، وحفظ أمن المجتمع ، وهو ما تتفق عليه الشريعة مع القوانين الوضعية ، ثم ذكر الشيخ خمس نقاط – على سبيل المثال لا الحصر – حول اختلاف هذا القانون بين الشريعة والقوانين الوضعية ، كتحديد الجريمة وشمول قانون العقوبات في الشريعة لكل ما يمس الدين والقيم الأخلاقية ثم فلسفة العقوبة ، وما بنيت عليه من أسس إضافة لاتصافها بالتوازن والعدالة والمساواة فالكل أمام القانون سواء ، ثم بين الشيخ مخالفة القانون الفلسطيني للشريعة الإسلامية ، حيث تقسم الشريعة الجرائم إلى قسمين :
الأول : جرائم الحدود والقصاص وكلاهما مقدرة من قبل الشرع ، وأن جرائم الحدود لا حق لأحد في إسقاط عقوبتها بحال من الأحوال ، وأما جرائم القصاص فلصاحب الحق إسقاط العقوبة أو استبدالها ، وهذا القسم مخالف للشريعة مخالفة جوهرية ، فما عدته الشريعة جريمة لم يعده القانون جريمة ، أو نظر إليه نظرة مخالفة للشريعة ورتب على ذلك أحكاماً تخالف الشرع ، ومن ذلك أن القانون جعل الزنا من البالغين فوق الثامنة عشر عاماً برضاهم جريمة يسيرة ، وقدر لها عقوبة مخففة ، إضافة إلى أن العقوبة المقدرة لجريمة الزنا في كل أحوالها مخالفة للشرع ، كما أنه لا يحق لصاحب الحق إسقاط حقه في كل الجرائم المنبثقة عن هذا القسم .
الثاني : جرائم التعازير وهي الجرائم التي لم يقدر المشرع عقوبة محددة ، بل مرجعها للحاكم وهنا لا يوجد اختلاف عميق بين الشريعة والقانون الفلسطيني وإن كان الخلاف في الفلسفة التي ينطلق منها القانون بعيداً عن فلسفة الشريعة ، ثم ختم الشيخ كلمته بقيام الشريعة الإسلامية على تحقيق حقوق الفرد على الدولة من رعاية وحماية من الفقر والجوع وتربية على الفضيلة والقيم ، وهو ما لا وجود له في القانون الفلسطيني(147) .
والمتأمل في هذا المقال يرى أنه قد شمل معظم جوانب فقه العقوبات بطريقة مختصة، وهو ما يدل على ثقافة الشيخ العميقة ، وإطلاعه الواسع في معرفة فقه العقوبات في الشريعة الإسلامية والقانون الفلسطيني الوضعي ، لكن هناك بعض النقاط التفصيلية التي لم يذكرها الشيخ، ولعل ذلك من باب الاختصار وهو ما يقتضيه سياق المقال ، ومن تلك النقاط التفصيلية ما قرره المشرع من تغليظ العقوبة على العود إلى الجريمة والاعتياد عليها ، وكالفرق بين الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الجنائي الوضعي في حل مشكلة العود ولو بعبارات بسيطة قليلة ، ومع ذلك فإن هذا الاختصار لا يقلل من القيمة العلمية الكبيرة التي تضمنها المقال في فقه العقوبات(148) .
المطلب الثاني : الثقافة اللغوية :
إن اللغة العربية تكتسب أهميتها من كونها لغة القرآن ثم لأهميتها في التخاطب مع الآخرين إذ هي وعاء الفكر ، فالداعية يستطيع من خلالها أن يعبر عما يريد من مبادئ وأفكار بطريقة سليمة وصحيحة خاصة إذا ما تصدر العمل الإسلامي وكان من القادة ، فضلاً عن أن يكون إمامهم كما كان شأن الشيخ أحمد ياسين ، فلا بد من الفهم اللغوي اللازم لتقويم اللسان حتى تصل الفكرة التي يريدها للآخرين بطريقة صحيحة .
وقد ساهمت قدرات الشيخ الذاتية في أن يكون مدرساً ناجحاً للغة العربية إضافة للتربية الدينية(149)، وقد كان الشيخ يعطي دروس تقوية في هذا الجانب بعد انتهاء دوام عمله في المدرسة تطوعاً(150)، وكان رحمه الله لا يبخل على أتباعه في إعطائهم دروساً في قواعد اللغة العربية إذا ما شعر أن لديهم ضعفاً، خاصة في مرحلة اعتقاله حيث يملك الوقت الكافي لذلك(151).
ولم تقتصر ثقافة الشيخ وفهمه للغة العربية على جانب النحو والصرف فحسب ، بل كان بليغاً في تعبيراته بحيث وصفه بعض أتباعه بأن كلماته رغم قلتها إلا أنها تتضمن معاني عظيمة وهامة .
يقول الأستاذ داود أبو خاطر(152) : " إن الشيخ معروف بأنه قليل الكلام ، كثير الاستماع يتكلم بجوامع الكلم " .
وقد كان الشيخ يستشهد في بعض الأحيان ببعض أبيات من الشعر ، كما كان يقرضه كذلك في بعض الأحيان .
ولما كان الشيخ معتقلاً ، وجاء موعد زيارته من قبل زوجه (أم محمد)، فخرج معه مرافقه وعرض عليه أن يرفعه أعلى الحاجز الذي يحول بينه وبينها ليراها ، فوافق الشيخ ، ولما تم له ذلك وانتهت الزيارة ، وعادوا إلى غرفتهم في السجن ، طلب من مرافقه أن يكتب ما سيمليه عليه من الشعر ، فكانت هذه الأبيات :
من الشُبّاك ألقيت شباكي
وطاردت الغزال بلا افتراق
وعانيت الهوى نظراً إليه
فما شافيت نفسي بالعناق
ألا يا لائمي عذراً فإني
ألاقي في الهوى ما لا تلاقي
هي الأوطان نحميها بسيف
ولا عزٌّ لها دون اتفاق
نوحد صفنا أبداً بعزمٍ
ولا صف يوحد بالشقاق
فلا تهنوا بني قومي فإنا
ليوم النصر نرنو باشتياق
فلسطين الغزالة إن قلبي
لها يهفو وترقبها المآقي(153)
وتعكس الأبيات السابقة الحس المرهف ، والعاطفة الشعورية الصادقة التي عاشها الشيخ خلال تلك الأبيات، والقدرة الفائقة والبليغة في التعبير عما جاش في صدره ، فكانت تلك الأبيات.
حدثنا الدكتور عبد الخالق العف(154) : " تتكثف المشاعر الإنسانية المرهفة في هذا السياق الوجداني الأثير ، في لغة عذبة سلسة رقراقة يتبدى فيها ألقُ صدق الأداء وبساطة التعبير ووضوح الصورة ، وقد جمع الشيخ الإمام فيها بين دِلِّ المتعشقين ، ورزانة الرساليين ، لذلك تحققت الاستجابة الانفعالية ، بالتجربة الشعرية لدى المبدع والمتلقي ، كما يلاحظ سلامة الوزن العروضي فهذا المقطع نظم على بحر الوافر الغنائي متموج النغم ، وعلى روى القاف المطلق بالكسر والمردوف بحرف المد بالألف وقد تساوق ذلك مع انتشار صوت المد بالألف في هذا المقطع مما يلائم طبيعة التجربة الاعتقالية خاصة لحظة تأجج المشاعر وقت الزيارة .
واللافت أيضاً سلامة اللغة نحواً وصرفاً ودلالة وهذا يدل على امتلاك الشيخ لناصية اللغة العربية " .
ولما كتب له أحد إخوانه وهو ناجي سنقرط قصيدة يناجيه فيها، رد عليه الشيخ بقصيدة ضمنها أجمل معاني الوفاء وألطفها ، معبراً عن أصدق معاني الأخوة ، بقصيدة من ثماني أبيات كان مطلعها(155) :
يا خير من عرف الفؤاد وكلما
وأبر خلٍّ للصديق وأرحما
ناجي رعاك الله يا إرث السنا
فأبوك في الآفاق أضحى معلما
هذي يدي ممدودة لوداعكم
والقلب مني ذاهل قد أُسقما
يا طيرُ حلق في ربا أوطاننا
لا تنسنا بالله وأنعم واسلما
فالله أسأل أن يفك إساركم
ويلم شمل الأهل يا أسد الحمى
والله يجمعنا بساحة عدله
وتضيءُ شمسُ الحقّ ليلاً أظلما
فنقيم للإسلام دولة عزةٍ
ويسود نور الله أرضي والسما
حدثنا الدكتور عبد الخالق العف(156) – معلقاً على القصيدة السابقة - : " ما أجمل أن تتعانق الأرواح والأقلام التي سقيت بمداد المعاناة والأسر ، وتقدم لنا هذه الروائع الشعرية المؤثرة الصادقة، التي تهز وجدان المتلقي على بساطتها ووضوحها وهذه رسالة الشعر الحقيقية.
لم يجنح الشاعر الشهيد الإمام إلى الغموض والخيال والرمزية ، كعادة الشعراء ؛ لأن الموقف لا يقتضي ذلك وهو يودع أخاً في الله توشك عيناه أن ترى شمس الحرية ، بالإضافة إلى أن الشيخ لم يصنف نفسه شاعراً يوما ما .
فالقصيدة جاءت على البحر الكامل وبروي الميم وألف الإطلاق ، وما أروع أن تنتهي القصيدة بألف الإطلاق في تجربة إطلاق أسير ، كما يلاحظ استخدام أساليب الإنشاء بين النداء والاستفهام والقسم والأمر والنهي ، وهذه الأساليب ضرورية في شد انتباه المتلقي " .
أما من حيث معرفة الشيخ باللغات الأخرى ، فقد عرف الشيخ بميله لتعلم اللغة الإنجليزية حيث تعرف عليها منذ صباه(157) ، ثم خلال الدراسة في مراحل التعليم ، وازداد ظهوراً حينما التحق بجامعة عين شمس بقسم اللغة الإنجليزية ليدرس عاماً كاملاً بنجاح ولولا الظروف التي حالت دون إكمال دراسته لكان من أهل الاختصاص في هذا الجانب(158) ، ومع ذلك فإنه يمكن القول بأنه يستطيع التحدث والتعبير عن فكرته بهذه اللغة ، بالإضافة إلى معرفته ببعض الكلمات الفرنسية التي عرفها منذ صباه أيضاً(159) .
المطلب الثالث : الثقافة الإنسانية :
ويقصد بها الإلمام بأصول ما يعرف الآن باسم العلوم الإنسانية كالتاريخ والاقتصاد والأخلاق وغيرها(160) ، وسيتم الحديث عن ثقافة الشيخ التاريخية والاقتصادية كأمثلة فقط للثقافة الإنسانية.
أولاً : الثقافة التاريخية :
لقد تضمنت آيات القرآن الكريم كثيراً من الأحداث التاريخية التي مرت بالأقوام السابقة، والتي ذكرها الله عز وجل من أجل أن تستفيد الأمة الإسلامية من تجاربهم ويأخذوا منهم العبرة والعظة كي يحققـوا النفـع لأنفسهم في الدنيا والآخرة . ومن ذلك قوله تعالى بعد قصة ثمود : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (161) .
وقد بين الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله – أهمية دراسة التاريخ الماضي للاستفادة من تجارب السابقين ، وتدوين التاريخ الحاضر بتجرد وأمانة كي لا تحرم الأجيال القادمة من الاستفادة من تجارب هذا الجيل .
يقول الشيخ : " والأمم الحية تسجل تاريخها ، بكل ما فيه من إيجابيات ومن سلبيات، وكيف عالجت تلك السلبيات ، وذلك لتستفيد أجيالها فتعمل على تعزيز الإيجابيات ، وتتحاشى الوقوع في السلبيات ما أمكن . وحياة الإنسان كلها تجارب ، وحياة الإنسان محدودة بالسنين، فعمر الفرد الفاني محدود ، وأيامه على الأرض معدودة ، فإن أهمل تجارب الذين سبقوه وذهب ليجرب كل شيء بنفسه ، تنتهي أيامه ، ولم يحقق تقدماً أو تطوراً أو نجاحاً ، وإن استفاد من تجارب الآخرين ممن يعايشهم ، وممن عاشوا قبله ، وفّر على نفسه الكثير الكثير من الجهد والمعاناة ، والتخبط الذي قد يقوده إلى الانحراف والانزلاق ، ومن هنا كان قدر الله أن يرسل للناس رسلاً ، يعيدونهم إلى منهج الله ليصوغوا حياتهم على أساسه ، إلى أن جاءهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة .
ومن هنا لا بد من أن ندرك أهمية دراسة التاريخ الماضي من مصادره الموثوقة ، وأن ندوِّن التاريخ الحاضر بأمانة وتجرد وموضوعية ، لكي تستفيد منه الأجيال القادمة ، كما استفدنا من تاريخ الأجيال السابقة"(162) .
ويلاحظ مما سبق عمق النظرة للشيخ نحو أهمية قراءة التاريخ وتدوينه ، إذ الأمم والشعوب لا يمكن أن ترقى دون استفادة وقراءة جادة هادفة لتجارب المعاصرين والسابقين ، ولعل ما دفع الشيخ ليسجل شهادته على عصره ، عبر قناة الجزيرة الفضائية في ثماني حلقات بثت خلال شهري أبريل ومايو عام 1999(163) وكذلك المقابلة الخاصة التي أجراها معه قسم التاريخ الشفوي بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية وهو من عدة حلقات تأكيد على فقهه بأهمية الثقافة التاريخية ودورها في حياة الأفراد والشعوب .
وقد عرف الشيخ بشغفه لقراءة المصادر التاريخية مثل كتاب البداية والنهاية لابن كثير وهو سلسلة من عشرين مجلداً ، وقد كان الشيخ يطلب ممن حوله أن يمتحنه فيه ، فيسألونه عن مقولة أو قصيدة أو فكرة من الكتاب ، فكان يخبرهم بمكان وجودها ، وأنها في مجلد كذا وصفحة كذا ، مما يعكس عظيم فقهه ، واستيعابه لما يقرأ(164) .
ثانياً : الثقافة الاقتصادية :
لم تقتصر ثقافة الشيخ على معرفة الاقتصاد الإسلامي فحسب ، بل امتلك معرفة واعية للاقتصاد الرأسمالي والشيوعي .
حدثنا الأستاذ إبراهيم بحر(165) : " لقد ألقى الشيخ أحمد ياسين محاضرة في الجامعة الإسلامية عام 1982م أو 1983م، أمام جمع غفير من الطلاب والمحاضرين، وكانت بعنوان "الاقتصاد ورفاهية الإنسان في الإسلام" وقد استمرت المحاضرة نحواً من ساعتين ، حيث تكلم الشيخ فيها عن الاقتصاد الإسلامي، وقارنه مع الاقتصاد الرأسمالي والشيوعي، وأكثر من الاستدلالات بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وناقش أقوال أقطاب الفكر الماركسي كماركس وإنجلز والرأسمالي كآدم سميث، وأبطلها بالدليل المقنع، وهو ما دفع بعض الحاضرين من أنصار الأفكار الرأسمالية والماركسية أن يقبلوه بعد انتهاء المحاضرة، ويكثروا له من التصفيق " .
المطلب الرابع : الثقافة الواقعية :
إن العمل الإسلامي كي يحقق أعلى درجات النجاح فإنه يستلزم ممن تصدر له من الدعاة المخلصين العاملين أن يكونوا على وعي ، ومعرفة كبيرة بمجموع الأفكار والاتجاهات المعاصرة ، والقوى الدولية خاصة تلك التي تمثل عقبة كأداء أمام المد الإسلامي المتنامي ، وذلك كي يكونوا على بصيرة مما يحاك ضدهم ، كي يرسموا السياسات الداخلية مع كافة شرائح المجتمع على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم ، وكذلك السياسات الخارجية بما يتفق وشريعة الإسلام ، وبما يحقق مصلحة الدعوة الإسلامية ، ويؤمن لها وجودها ومستقبلها .
ويمكن إبراز هذه الثقافة الواقعية في ضوء مواقف الشيخ المختلفة محلياً وإقليمياً وعالمياً.
أولاً : موقفه من التيارات الفكرية المناوئة للإسلام :
1) موقفه من التيار الشيوعي والقومي :
نجح الشيخ أحمد ياسين بوصفه رائد العمل الإسلامي في فلسطين ، في امتلاك قسط وافر من الثقافة الواقعية ، فعرف طبيعة الأفكار السائدة في عصره لكي يحصن أتباعه ومريديه ، من الانخراط في تلك التيارات المخالفة للإسلام ، وهو بذلك يحقق تعاليم القرآن الكريم في دعوته لذلك ، قال تعالى : وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(166)، خاصة وأن عصر تولي الشيخ لقيادة جماعة الإخوان المسلمين كان يشهد انتشاراً واسعاً للفكر الشيوعي والقومي ، وبروز الحركات الوطنية العلمانية الأخرى(167) ، مما حدا بالشيخ أن يفهم طبيعة تلك الأفكار ومناهجها ومخالفتها وأخطارها على الدعوة الإسلامية .
لقد أيقن الشيخ بأن الفكر الذي لا يستمد من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن مصيره الاندثار والزوال ، قال تعالى : فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ(168)، لذلك أكد أن الفكر الشيوعي القائم على الإلحاد وإنكار وجود الله عز وجل، أنه سيندثر وسيزول ، وهو ما تحقق بالفعل ، وما شهد الواقع العربي والفلسطيني له.
يقول الشيخ : " إن الشيوعيين هم نبات ميت في أرض ميتة لا تنبت "(169) ، وقد ناظر الشيخ – رحمه الله – بعض الشيوعيين ، وقد وفقه الله عز وجل بسرعة بديهته وسعة علمه فأثبت عجز فكرتهم ، وضعف منهجهم وبين في مقابل ذلك إثبات وجود الله عز وجل وعظيم صفاته .
يقول الدكتور نسيم ياسين(170) : " ذكر لي الشيخ مرة في أثناء حديثي معه موقفاً في السبعينات ناظر فيه أحد الشيوعيين، وكان قد ظهر أمرهم في غزة في ذلك الوقت ، فقال لي: بينما نحن في جلسة علمية في لقاء عام إذ قام أحد الشيوعيين وقال : يا شيخ هل يقدر ربك أن يخرجني خارج ملكه ؟! ففطن الشيخ بسرعة بديهته ، أن هذا الملحد يريد أن يحرجه، فإن قال : يقدر فقد وقع في محظور وهو إثبات أن هناك ملكاً غير ملك الله ، وإن قال : لا يقدر فقد أثبت عجز الله تعالى ، فقال له الشيخ : للإجابة على سؤالك أريدك أن تستجيب لي ، قال وماذا أفعل ؟ قال الشيخ : اخلع ملابسك ؟! قال الرجل : يا شيخ !! قال : هل تقدر أم لا؟! فبهت الرجل أمام جميع الحاضرين .. ثم تكلم الشيخ في إثبات وجود الله عز وجل وعظيم خلقه وكمال صفاته " .
وعلى الرغم من استناد القوميين إلى دعم النظام الناصري في مصر – نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر – وتأييده لهم ، وانتشار الشيوعيين آنذاك ، إلا أن الشيخ أحمد ياسين وجماعة الإخوان المسلمين كانوا مع قلتهم وملاحقة النظام المصري لهم يتصدون لتلك التيارات بالدعاية وكشف زيف أفكارهم ، مستخدمين مع ذلك الحكمة في التعامل وتجنب الصدام قدر جهدهم(171) .
2) موقفه من العلمانية والسلطة الفلسطينية :
تباين موقف الشيخ مع القوى العلمانية ممثلة في حركة فتح ، حيث ابتدأ رفضه لنهج الحركة من الناحية السياسية ، إذ رفض عرضاً قدمته الحركة له للانضمام إليها ، وذلك مستنداً إلى رؤيته الواقعية لحالة الضعف التي يعيشها العالم العربي ، حيث قال الشيخ مجيباً عن سبب رفضه الانضمام لحركة فتح ذات الخط العلماني : " رفضت لسبب واحد فقط ، فأنا أعلم أن الوطن العربي آنذاك ليس في حالة قوة لمواجهة إسرائيل ، وأن يتم العمل من داخل البلاد العربية ضد إسرائيل ، يعني هذا الأمر في ذلك الوقت أنه سوف يفتح الباب لإسرائيل لتحتل أجزاءً جديدة من الوطن العربي ، وسوف لا يحل مشكلتنا ، ولا يمكن أن نستطيع أن نحرر الأرض المحتلة بالوضع الذي كان قائماً آنذاك ، بل سنخسر أرضاً جديدة لصالح إسرائيل وهذا ما منعني من أن أشارك في ذلك العمل في ذلك الوقت "(172) .
ويلاحظ من كلام الشيخ أن السبب في رفضه آنذاك كان مرتهناً بالفترة الزمنية التي اقترنت بانطلاقة حركة فتح، وهذا يعني أن هناك أسباب أخرى تستوجب الرفض وهو اختيار حركة فتح للنهج العلماني، ولعل عدم إفصاح الشيخ عن ذلك يرجع إلى أن حركة فتح لم تعلن النهج العلماني مع انطلاقتها وإنما كانت حركة تحرر وطني تشحذ همم الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه ، وجل قادتها كانوا في جماعة الإخوان المسلمين(173) .
ولما تبين للشيخ منهجها العلماني اللاديني ، شجب هذا النهج الذي تسلكه المنظمة ، وبين أن آمال الفلسطينيين لا يمكن أن تتحقق إلا بمنهج الإسلام، وبإقامة الدولة الإسلامية(174).
إن المرحلة التي واكبت نشأة الجامعة الإسلامية بغزة ، وما واكبها من محاولات العلمنة ونشر الاختلاط ، والعمل على إدخال بعض العناصر اليسارية والمسيحية لعلمنتها ، وحرفها عن مسارها الإسلامي عكست موقف الشيخ الواضح والرافض للنهج العلماني ، والذي بلغ مداه وهو الصراع بين التيار الإسلامي والعلماني(175) ، إلا أن ذلك كان استثناءً وليس أصلاً ، إذ إن الشعب الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال وهذا يستلزم الوحدة والاتفاق وليس الفرقة والتناحر والاختلاف ، وهو ما أكد عليه الشيخ مما يدلل سعة أفقه وعظيم وعيه.
يقول الشيخ : " إن علاقتنا دائماً بكل الفصائل الفلسطينية علاقة طيبة وجيدة ، وعلى رأسها فتح "(176) .
وحينما تقلدت حركة فتح زمام السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو عام 1993م ، رغم ما يعيه الشيخ من سلبيات جسيمة تترتب على هذا الاتفاق ومنها تفتيت وحدة الشعب الفلسطيني ، لذا أكد الشيخ أنه والسلطة في خندق واحد ، وأن الحوار والتفاهم هو الناظم في العلاقات بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية ، وأن لغة العنف في التعامل ليس من ضمن قاموس الحركة أو مبادئها ، وأن توحد كافة شرائح المجتمع الفلسطيني في خندق واحد ضد العدو الإسرائيلي هو منهج لا يصح التخلي عنه(177) ، وأن أي خلاف أو اختلاف لا بد أن يعالج بحكمة بالغة .
حدثنا الأستاذ وائل الزرد(178) : " سألت الشيخ في الأيام الأخيرة – قبل استشهاده – عن موقفه من السلطة الفلسطينية ، وهل سيؤدي هذا الخلاف الذي بين حماس والسلطة إلى صدام؟ فأجاب الشيخ : سنناقشهم ونقاومهم ولكن سنلبس قفازات من حرير " .
3) موقفه من الشيعة :
إن هناك خلافاً واضحاً بين ما يعتقده الشيعة وخاصة الاثنى عشرية ذوو التواجد الكبير في لبنان وإيران والعراق ، وبين العقيدة التي يعتقدها الشيخ ، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة ، ومع ذلك كان للشيخ من الشيعة موقف ديني وآخر سياسي ، وهو كما يأتي :
أ- الموقف الديني :
كان الشيخ على وعي كامل بالانحرافات الشيعية من الناحية الدينية والعقدية ، فقد سئل الشيخ حول قوله تعالى : أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(179) عما إذا كانت تنطبق هذه الآية على حزب الله الشيعي اللبناني ؟ أجاب الشيخ : " لا أعتقد .. إن حزب الله في لبنان هو حزب شيعي لا يلتزم بأحكام كتاب الله وسنة رسوله .. والمسلمون سنة وليسوا شيعة .. وأنا أعتقد بأن حزب الله الصحيح هو الذي يلتزم بأحكام كتاب الله وسنة رسوله ، هذا إضافة إلى الاختلاف الكبير بين السنة والشيعة .. إن حزب الله في لبنان لا يمثلنا ولا يمثل المسلمين في لبنان ، هو بالتالي لا يمثل إلا نفسه "(180) .
وبعد انتصار ثورة الإمام الخميني في إيران ، وظهور العديد من الممارسات التي لا يرضاها الإسلام الحنيف ، عبر الشيخ عن موقفه بقوله : " إن ما يفعله الإيرانيون ليس كدولة إسلامية "(181) .
كما حصل خلاف بين أبناء حركته وبين أتباع حركة الجهاد الإسلامي في غزة وكانت تسمى آنذاك " الجماعة الإسلامية " في عام 1982م وكان سبب الخلاف هو أن الجماعة الإسلامية تكثر من الثناء على الخميني والثورة الإسلامية في إيران ، وتريد أن تأخذها نمطاً وقدوة للعمل الفلسطيني ، فأصبح دعاتها يتحدثون بذلك في المساجد ، فرفض أتباع الحركة الإسلامية الحديث بهذا الأسلوب لا سيما وأننا في فلسطين أهل سنة ، وقد حصل لقاء بين قادة الجماعة الإسلامية وبين الشيخ في أحد المنازل في مدينة غزة وكان الدكتور نسيم قد حضره ، وقد ذكر أن اللقاء انتهى على ما طرحـه الشيخ من عـدم الحديث من قبل الطرفين على الشيعة لا مدحاً ولا ذماً، وذلك لما تمر به قضيتنا وحتى لا يستفيد أعداؤنا من هذا التفرق(182) .
ب- الموقف السياسي :
لقد كان الشيخ رجلاً سياسياً يمكن وصفه بأنه محنك سياسي ، إذ فرق بين خلافه المذهبي والديني مع الآخرين وبين موقفه السياسي منهم ، خاصة وأنه قد كثر أعداء الإسلام في عصره وتنوعت ألسنتهم ومشاربهم ، إذ إعلان الحرب على الجميع يعني بالضرورة انكشاف الحركة الإسلامية ، وتكاتف جهود القاصي والداني لاجتثاثها ، لذا لا بد من كسب كل صوت يتفق مع ما يطرحه الشيخ حتى وإن كان ذلك على الصعيد السياسي المجرد .
لقد كان الشيخ يعد حزب الله اللبناني حزباً صديقاً ، ويسَرّ لما يقوم به من أعمال قتالية ضد إسرائيل ، ولما سئل عن ذلك ، أجاب الشيخ : " عدو عدوي صديقي ، وصديق عدوي عدوي "(183) .
ومع اختلافه المذهبي مع إيران ، إلا أنه لم يرفض صداقتها ، وشكرها على حسن مواقفها الداعمة والمؤيـدة للقضية الفلسطينية(184) ، ولم يقتصر هذا الموقف على إيران وحزب الله فقط بل جعله الشيخ ناظماً لموقفه مع كل دول وشعوب العالم .
يقول الشيخ : " نحن نمد أيدينا لكل العالم ، وسنتعامل مع كل العالم مع من يقف بجانب قضيتنا وينصر حقنا إن شاء الله تعالى "(185) .
4) موقفه من البهائية :
إن البهائية من الفرق الباطنية المعاصرة ، التي ترى من مؤسسها الميرزا حسين علي إلهاً يعبد من دون الله عز وجل ، وأن الله قد حل في جسده ، وتتخذ لها كتباً مقدسة غير القرآن ، وتعاليم وشرائع غير تعاليم وتشريعات الإسلام ، فضلاً عن ارتباطاتها المشبوهة مع القوى الاستعمارية المختلفة وفي مقدمتها إسرائيل(186) .
وقد أقبل مستشرق سويدي يلبس ثوب الصوفية ، ويعمم رأسه بعمامة خضراء ، ويضع في رقبته مسبحة تتدلى حتى وسط بطنه ! مع أحد الأدعياء من حملة الفكر البهائي في قطاع غزة ، وكانت محطتهم الأولى عند الشيخ إبراهيم الخالدي شيخ الطرق الصوفية في القطاع ، والذي اقتصرت ثقافته على الذكر والتسبيح .. وعرض القوم فكرتهم عليه على أنها حركة إسلامية صوفية تريد خدمة الإسلام ، فرحب الشيخ إبراهيم الخالدي بتلك الفكرة وكاد أن يوافق ، لولا تدخل العناية الإلهية بأن جاء الشيخ – رحمه الله – مع بعض مساعديه ، ليحاور ذلك المستشرق ومن معه ويكشف خطتهم ، ويرد على باطلهم ، ثم قام عقب ذلك بفضح أمرهم بين الناس في المساجد وتحذير الناس منهم ، مما أدى إلى فشل خطتهم ، فعادوا من حيث أتوا خاسئين خاسرين(187) .
ثانياً : موقفه من اليهود وإسرائيل :
اتسمت نظرة الشيخ إلى اليهود كأصحاب عقيدة وديانة، وإلى إسرائيل ككيان غاصب محتل للأرض والحق الفلسطيني، بالموضوعية والحيادية فقد أعلن في غير موطن أنه لا عداء ولا صراع مع اليهود كأصحاب ديانة، ولكن العداء والصراع مع من اعتدى على الحق الفلسطيني .
إن الدولة الإسلامية عبر العصور أنصفت اليهود ، ووفرت لهم الحياة الكريمة ، وقدمت لهم الأمن والحماية ، وعاشوا تحت ظلالها ردحاً من الزمان ، دون ظلم لهم أو سلب لحقوقهم ، أو منع من التمتع بحرية التدين والعبادة .
يقول الشيخ : " نحن لا نعاديهم لأنهم يهود ، بل نقول لهم أنتم عشتم معنا في الدولة الإسلامية في جميع جنباتها ، وكان لكم حريتكم الدينية والاقتصادية والمعيشية ، كنتم أهل ذمة نرعاكم ونحميكم ، لكنكم اختلفتم عندما أردتم أن تقيموا كياناً على أرضنا وعلى ترابنا ، وعلى بذور آبائنا ، فكان الاصطدام بيننا . إذن ، نحن لا نقاتلهم لأنهم يهود ، ويمكنهم أن يعيشوا بيننا ، وهم يعيشون في كل الوطن العربي والإسلامي ، فقد شرد اليهود وضربوا في فرنسا فما وجدوا إلا أسبانيا ملجأً لهم ، الدولة الإسلامية ، ولما ضرب المسلمون في أسبانيا وضرب اليهود معنا لم يجدوا ملجأ لهم إلا الهجرة إلى بلاد الشمال الأفريقي في المغرب والجزائر ، كان العالم الإسلامي هو الملجأ الآمن لهم ، في كل ظروف حياتهم ، لم يجدوا منا مذابح ولا اضطهاد ، نحن لا نعاديهم لأنهم يهود ، لكن نعاديهم لأنهم اغتصبوا أرضنا وشردوا شعبنا "(188) ، هذا بالإضافة إلى أهدافهم البعيدة والخطيرة والتي تمتد إلى هدم المسجد الأقصى المبارك ، وبناء الهيكل على أنقاضه أو إلى جواره(189) ، وهو ما يفسر موقف الشيخ في رفضه لإقامة دولتين متجاورتين إحداهما إسرائيلية والأخرى فلسطينية ، حيث قال لمراسل صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية : " إن الحل هو إقامة دولة إسلامية على كامل التراب الفلسطيني يعيش فيها العرب واليهود والمسيحيون تحت قيادة المسلمين "(190) .
ثالثاً : موقف الشيخ من حكومة بريطانيا وأمريكا :
لقد امتدت ثقافة الشيخ إلى فهم حقيقة الموقف الرسمي السلبي لكلٍ من بريطانيا وأمريكا من القضية الفلسطينية ، والإيجابي بالنسبة لإسرائيل ، وهو ما يدفع إلى عدم الثقة بالأطروحات الأمريكية والبريطانية والتي تعد صانعة إسرائيل ، وراعية الوجود الإسرائيلي في المنطقة . يقول الشيخ : " أنا أُحمّل بريطانيا مأساة الشعب الفلسطيني ، لأن بريطانيا هي التي مكنت لإسرائيل من الوجود في فلسطين هي التي مهدت بانتدابها لقيام دولة إسرائيل ، هي التي أعطت اليهود الأرض ، وأعطتهم السلاح ، ومكنت لهم في هذه البلاد ، فهي تتحمل دوراً تاريخياً في مأساة شعبنا الفلسطيني وعليها أن تكفِّر عن هذا الذنب، الذي نفذته ضد الشعب الفلسطيني "(191).
وحول نظرته لمدى ارتباط السياسة البريطانية بالسياسة والقرار الأمريكي، يقول الشيخ: " إن عجلة السياسة البريطانية مرتبطة بعجلة السياسة الأمريكية ، ولا تخرج عنها ، ولقد عرف الناس ما هي السياسة الأمريكية ، عندما يأخذ مجلس الأمن قراراً بمنع الاستيطان والمستوطنات، تقوم أمريكا باستعمال حق الفيتو ، فماذا نريد من أمريكا بعد ذلك ؟ ماذا ستفعل لنا ؟ كل العالم يرفض الاستيطان ويرفض المستوطنات وأمريكا تستعمل حق النقض (الفيتو) "(192) .
إن فهم الشيخ لتلك المواقف والسياسات يعكس سعة ثقافته ، وأن مواقفه كانت قائمة على أرضية ثابتة من الوعي والإدراك والبصيرة النافذة .
المطلب الخامس : الثقافة العامة :
إن مع هذه الثقافة المتميزة لهذا الداعية والتي أشرنا إليها سابقاً نجده على دراية بالثقافة العامة والسائدة في المجتمع بما يخدم الفكرة التي يعمل من أجلها ، وحتى يكون متمشياً مع طبيعة الواقع المعاش ، وبحكم أن الشيخ له علاقات متميزة وخبرات واسعة ، وأنه قائد حركة ربانية وهي حركة حماس كان من الضروري له أن يتميز بفكره وسلوكه ، ليكون ناجحاً في قيادته لحركته ، ناجحاً في دعوته التي قضى حياته كلها من أجلها ، ولبيان الثقافة العامة المتميزة لدى الشيخ أحمد ياسين يمكن الحديث في النقاط الآتية :
أولاً : فهم الشيخ للعرف والعادة :
لا بد للمصلح في مجتمع مثل المجتمع الفلسطيني الذي يرزح تحت احتلال وفيه من الأفكار الغريبة عنه الكثير مما لا يمت إلى الدين بصلة ، فيحدث الشقاق والشجار بين العائلات الفلسطينية ، منها الأخذ بالثأر وأكل المال بغير حق .. إلى غير ذلك من المشاكل التي يعجُّ بها المجتمع الفلسطيني ، لا بد في مثل هذه الظروف أن يتصدر لإصلاح المجتمع رجالٌ أكفاء فهموا الواقع الفلسطيني ، وأدركوا حقيقة الأمر ، وكان الشيخ الداعية والمصلح من هؤلاء الرجال الذين تصدروا هذا العمل العظيم .. قال تعالى : لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ(193) ، فقد تصدر الشيخ الإصلاح بين الناس والقضاء بما يتفق مع شرع الله المقتبس من القرآن والسنة ، ولا بد لمثله من معرفة بعض القوانين المتعارف عليها بين العشائر في العرف والعادة التي يتم من خلالها الدخول في الإصلاح بما لا يختلف مع شرع الله ، مثل : وضع الوجه على المتخاصمين لمدة معينة ، ودفع مبلغ من المال لدفع الشر بما يسمونه " عطوة " مقدمة للصلح ، أو غير ذلك .. وكان الشيخ لديه المعرفة بهذه الأمور ، وقد نجح نجاحاً عظيماً في هذا الميدان – خاصة في الانتفاضة الأولى – مما دفع الناس للإقبال عليه ، وطلبهم مع بعضهم البعض أن يكون الشيخ أحمد ياسين هو المصلح بينهم واتفاقهم على أن الشرع هو الحكم بينهم ، لدرجة أن الشيخ كان لا يستطيع أن يقوم من مكانه لمدة يوم كامل متواصل فقط يصلي مكانه جماعة فيمن حضروا .. وكان في كثير من الأحيان لا يستطيع تناول طعام الغذاء حتى قدوم الليل(194) .
ثانياً : فهم الشيخ لقوانين كرة القدم :
كان الشيخ محباً للرياضة ، مهتماً بمتابعة أخبارها في الصحف(195) ، وقد افتتح كثيراً من النوادي وكان يدعم الشباب في هذا الجانب ، فمثلاً ساهم في افتتاح الجمعية الإسلامية التي ابتدأت نشاطها بالرياضة ، وكذلك أنشأ نادي المجمع الإسلامي ، وكانت كرة القدم من أنواع الرياضة التي شجعها الشيخ ، وقد حصل أنه قام مرة بالإصلاح بين فريقين لكرة القدم لمسجدين من مساجد غزة حين تفاقم الخلاف بينهما ، وكان الشيخ قد أحضرهما وبدأ الاستماع إلى الفريقين وبدأ يسألهم عن كل صغيرة وكبيرة تتعلق بأبناء الدعوة الإسلامية وأنشطتها ، فلما وصل إلى الحديث عن الخلاف بدأ يناقشهم في أسباب الخلاف لدرجة أنه أظهر فهمه الواسع بقوانين الكرة ، وفي نهاية الأمر توصل الفريقان إلى حلٍّ يرضي كليهما ، ويتناسب مع قوانين اللعب من جانب ، وأخلاق المسلم من جانب آخر(196) ، فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ذكاء الشيخ ومعرفته بطريقة ذكية للدخول إلى موضوع الخلاف والحديث فيه بدقة ومهارة شديدتين للوصول إلى إقناع الطرفين بالحل النهائي ، حتى يعودوا أخوة متحابين .
ثالثاً : فهمه بالجانب العسكري :
إن من ميزات القائد الناجح أن يكون بارعاً في كل ما يطرح ، سواء كان واقعياً ، سياسياً أو عسكرياً ، من هنا فإن الشيخ القائد كان قد تميز أيضاً بهذا الفهم وهذا الجانب – أي الجانب العسكري – فقد كان يُذكر أمامه بعض الأمور العسكرية في كثير من الجلسات فكان يناقش ويناظر وكأنه خريجٌ من الكلية الحربية ، يروي أحد مهندسي الجناح العسكري لحركة حماس : " أنهم فوجئوا في إحدى اللقاءات بالشيخ أنه يناقشهم في أدق تفاصيل عملهم في إطار الاستعدادات للتصدي لأي اجتياح صهيوني عسكري محتمل لمدينة غزة ، مضيفاً أن حديث الشيخ لم يكن مجرد حديث للترف أو لاستعراض بعض معلوماته ؛ وإنما استفادوا منه في ميدان المعركة ، وقال المجاهد : إن الشيخ اقترح طرقاً لمواجهة دبابات الاحتلال ، واهتم بمعرفة طريقة وآلية توزيع المجاهدين على مناطق مدينة غزة ، والمحاور التي يمكن أن تكون مداخل لاجتياح قوات الاحتلال للمدينة ، وآلية التصدي لهم "(197) .
رابعاً : فهمه بالجانب الأمني :
لقد كان الشيخ على دراية كبيرة بأهمية الأمن وضرورته لاستمرار العمل الإسلامي ، ولتفويت الفرص على الأعداء من النيل منه ، أو إصابته في مقتل وهو ما برز في العديد من الأمثلة أهمها(198) :
1- معرفة وسائل العملاء في إسقاط الآخرين ، ومن ذلك استخدامهم لأسلوب الجنس ، ومن ثم تصوير الضحية وهي في حالة ارتكاب الفاحشة أو اغتصابها ، ثم ابتزازها عقب ذلك عبر تهديدها بالفضيحة أو العمالة .
2- ملاحقة العملاء وخطفهم والتحقيق معهم والحكم عليهم بالإعدام أو غيره بحسب ما ارتكبوه من جرائم ووفقاً لقواعد الشريعة الإسلامية .
3- معرفة الشيخ لأساليب الاحتلال النفسية التي يستخدمها ضد السجناء ، كمحاولة تشويه السمعة وغيرها وسبل مواجهتها .
4- استخدام أسلوب النقاط الميتة في الاتصال بين أفراد التنظيم ، وذلك بحيث تنتقل التعليمات التنظيمية إلى عضو التنظيم دون أن يعرفهم أحدهما الآخر ، وقد تم استخدام مثل هذه الأساليب داخل السجون الإسرائيلية خلال اعتقال الشيخ .
هكذا كانت ثقافة الشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله تعالى .
الخاتمة
أولاً : النتائج :
ويمكن إجمال أهم نتائج البحث في النقاط الآتية :
1- إن الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله – ظاهرة فريدة من نوعها ، فهو مدرسة كاملة يتتلمذ فيها الأصحاء والمعاقين على السواء ، ويتعلمون فيها كيفية الانتصار على العجز البدني والضعف الصحي ، وأن العجز الحقيقي هو عجز الإرادة وضعف العقول .
2- إن الصلة بالله تبارك وتعالى والمداومة عليها ، سبيل لازم لتحقيق التقوى ، ولقطف ثمار المعرفة والثقافة ، وهو ما حصل من خلاله الشيخ على العلم الوهبي .
3- إن بلوغ أقصى درجات الثقافة والمعرفة ، يحتاج إلى كسب وجهد وصبر ومطالعة ، وأن التذرع بالظروف والابتلاءات هو سبيل العاجزين فإن الشيخ الذي لم يكن بوسعه أن يقلب صفحة كتاب كان يفعل ذلك بلسانه مع صعوبة ذلك أيضاً كي يغتنم وقته ، وتزيد علومه ومعارفه ، وهو ما يعكس قوة إرادة الشيخ في ذلك .
4- إن شدة الذكاء وقوة الذاكرة التي أنعم الله بها على الشيخ ، ساهمت إلى حد كبير في ارتقاء مستواه الثقافي .
5- إن الشيخ لم يقنع بتحديد مصادر المعرفة ، وإنما قام بالاستفادة من مختلف تلك المصادر سواء البيت أو المدرسة أو الجامعة أو المسجد أو المعتقل ، وغيره وسواءً كانت وسائله في ذلك تقليدية أم حديثة كالإنترنت ووسائل الإعلام المختلفة .
6- إن اتساع دائرة الثقافة لدى الشيخ ، وشمولها للثقافة الإسلامية واللغوية والتاريخية والاقتصادية والواقعية ، مكنت الشيخ من كسب احترام الآخرين ، ومن قيادة حركته ، لأن الجميع فيهم رأوا فيه الرجل العالم العارف بالله تعالى ، الذي يبني رأيه على أسس متينة من الوعي والعلم والمعرفة ، الأمر الذي يجعله جديراً أن نعده مجدداً للدعوة الإسلامية في فلسطين خلال القرن العشرين .
7- إن الثقافة التي حرص عليها الشيخ لم تتضمن الجوانب التخصصية والدقيقة للعلوم المختلفة، إذ ذلك مرده أهل الاختصاص الذين عرفوا باحترام الشيخ لهم وإحالته للعديد من المسائل التخصصية إليهم ، وإنما كان حرص الشيخ على امتلاك مختلف المعارف التي تخدم عمله كداعية إلى الله تعالى ، وتساهم في معالجته لمختلف القضايا التي تخدم الجمهور المحيط به، ومن ذلك معرفته للتفسير والفقه واللغة والتاريخ وفقه للواقع ونحو ذلك .
8- إن معرفة الشيخ واطلاعه على مختلف الأفكار والاتجاهات المعاصرة ، ومدى مخالفتها للدعوة الإسلامية ، مكنه من تجنيب الأمة والحركة الإسلامية داخل فلسطين ويلات تلك المبادئ الهدامة كالشيوعية والقومية والبهائية والشيعة والعلمانية ونحو ذلك .
9- إن ثقافة الشيخ ووعيه جعل الشعب الفلسطيني ينجو من ويلات حرب أهلية يمكن لها أن تأتي على الأخضر واليابس ، ولا تخدم إلا العدو الصهيوني المحتل .
10- إن الثقة بنصر الله تعالى ، وتمكينه لدينه في الأرض ، تؤدي إلى مواصلة الداعية لدعوته، دون أن يعبأ بما يصيبه ذلك في سبيل الله وهو ما تحقق للشيخ .
ثانياً : التوصيات :
يوصي الباحثان بمزيد من الدراسة حول شخصية الشيخ أحمد ياسين الظاهرة المعجزة ، سواء المتعلقة بالجانب الثقافي وذلك بإفراد كل نوع من أنواع الثقافة لدى الشيخ ببحث مستقل ، أو الجوانب التربوية لديه وكذلك فقه الدعوة عنده ، إلى غير ذلك من الجوانب المتعددة والتي في محصلتها جمع تراث الشيخ من الصدور والسطور ، وذلك قبل أن ينقطع السند بوفاة أتباعه وأصحابه أو استشهادهم ، ومن ثم دراسة ذلك التراث دراسة علمية موثقة، كي يستفيد الدعاة والأجيال اللاحقة منه .
وأخيراً ..
فإن الحمد لله تعالى وحده الذي وفقنا إلى إتمام هذا الجهد المتواضع فما كان فيه من حق وصواب فلله الفضل والمنة ، وما كان فيه من خطأ فمن أنفسنا والشيطان ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، معلم الناس الخير، والهادي إلى سواء السبيل، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين...
إن ارتقاء المستوى المعرفي للداعية والذي هو ثمرة التقوى والإيمان وصدق التوجه لله عز وجل ، والتحصيل الكسبي لأسباب العلم والثقافة ، يعد من الأسلحة الهامة والضرورية لنجاح الداعية ، وانتشار دعوته ، وهو ما تحقق للإمام الشهيد أحمد ياسين .
أهمية الموضوع وسبب اختياره :
لقد ميز الله بين الداعية العالم الذي يعرف ما يدعو إليه وبين من وصف بالجهل وعدم المعرفة لأبجديات دعوته وآفاقها وأصولها ، قال تعالى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (1) ، والمتأمل لسيرة الإمام الشهيد أحمد ياسين يقف على العديد من جوانب العلم والمعرفة ، الأمر الذي يوضح أحد الجوانب الهامة في شخصيته وسبب تأثيرها على الآخرين ، على اختلاف أجناسهم وأفكارهم ، وهو ما يدفع أقلام الباحثين إلى تناول هذه الظاهرة المعجزة ، التي حققت رغم الإعاقة الجسدية – والتي أصيب بها الشيخ في شبابه – ما عجز عن بلوغه أكثر الأصحاء .
ومما يبين أهمية الموضوع أن هذا الرجل أحيا أمة بأسرها، ويتطلع كثير من الناس إلى التعرف على مستواه المعرفي والثقافي للاقتداء به.
ويرجع اختيار البحث إلى الأسباب الآتية :
1- إن الشيخ أحمد ياسين يعد أهم شخصية إسلامية فلسطينية عرفها الواقع الفلسطيني ، خلال القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين ، من حيث ما خلفه من آثار إسلامية غيرت الواقع الفلسطيني بشكل رئيس، وأثرت على الواقع العربي والعالمي.
2- إن ثقافة الشيخ أحمد ياسين وما تميزت به من سعة وشمول، كان لها عظيم الأثر في نجاح دعوته وثقة الآخرين به ، وهو ما يفيد الدعاة والدارسين لهذه الظاهرة بزاد ثقافي وافر .
3- إن تناول الجانب الثقافي في حياة الشيخ أحمد ياسين يعد من الدراسات الجديدة ، التي لم تتناولها أقلام الباحثين بدراسات علمية مستقلة .
منهج البحث :
وسيتبع الباحثان في هذه الدراسة المنهج الوصفي التحليلي، وذلك عبر الوقوف على بعض المواقف والمشاهد التي تعكس مدى ثقافة الشيخ وتحليلها في ضوء أصول المنهج العلمي، كما وستعتمد هذه الدراسة الأسلوب العلمي من حيث عزو المعلومات إلى مظانها، وذلك على النحو الآتي:
- تخريج الآيات القرآنية وذلك ببيان اسم السورة ورقم الآية في الحاشية .
- تخريج الأحاديث النبوية من مظانها المعتمدة ، ثم نقل حكم العلماء عليها باستثناء ما أخرجه البخاري ومسلم ، وذلك لأن الأمة تلقتها بالقبول ، فأحاديثه صحيحة .
- ترجمة الأعلام غير المشهورين .
- إن جميع المقابلات التي أجراها الباحثان في هذه الدراسة تمت باللقاء المباشر مع مختلف الشخصيات .
- إذا ذكر لفظ الشيخ مفرداً خلال هذه الدراسة فإن ما يراد به الشيخ أحمد ياسين رحمه الله .
الدراسات السابقة :
لم يقف الباحثان على أيٍّ من الدراسات التي تناولت هذا الجانب في حياة الإمام أحمد ياسين، باستثناء بعض الكتب الصغيرة التي تحدثت عن حياة الإمام ولم تولِ هذا الجانب اهتماماً كبيراً .
خطة البحث :
ويمكن تقسيم البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة موزعة على النحو الآتي :
المقدمة : وتتضمن أهمية البحث وسبب اختياره ومنهج البحث والدراسات السابقة وخطة البحث.
المبحث التمهيدي : حياة الشيخ أحمد ياسين :
- المطلب الأول : مولده ونسبه .
- المطلب الثاني : نشأته العلمية .
- المطلب الثالث : استشهاده .
المبحث الأول : العوامل التي ساهمت في ارتقاء ثقافة الشيخ أحمد ياسين :
- المطلب الأول : التقوى وصدق التوجه لله عز وجل .
- المطلب الثاني : الإمكانات الذهنية .
- المطلب الثالث : إرادة التحصيل العلمي .
- المطلب الرابع : تنوع مصادر المعرفة .
المبحث الأول : جوانب من ثقافة الشيخ أحمد ياسين وعلومه :
- المطلب الأول : الثقافة الإسلامية .
- المطلب الثاني : الثقافة اللغوية .
- المطلب الثالث : الثقافة الإنسانية .
- المطلب الرابع : الثقافة الواقعية .
- المطلب الخامس : الثقافة العامة .
الخاتمة : وتتضمن أهم النتائج التي خلص إليها الباحثان ، والتوصيات التي تخدم غرض البحث.
المبحث التمهيدي
حياة الشيخ أحمد ياسين
زخرت حياة الإمام أحمد ياسين بالكثير من الابتلاءات التي يمكنها أن تمثل عائقاً جسيماً، أمام التقدم العلمي والرقي الثقافي للمرء، لولا ما تمتع به الشيخ – رحمه الله – من توفيق إلهي، وسمات شخصية مميزة جعلت منه مدرسة للجميع - ممن ظهر عليهم البلاء ومن غيرهم - ، بأن ينتهجوا منهجه وينهلوا من منابع العلم المتعددة كي يرقوا بأنفسهم وبغيرهم في مجال العلم والمعرفة .
ولبيان ذلك لابد من تقديم نبذة عن حياته من حيث مولده ونشأته حتى استشهاده ، ونجاحه في تجاوز كافة العوائق التي اعترضت سبيل تحصيله للعلم والمعرفة ، وهو ما يمكن توضيحه في ضوء المطالب الثلاثة الآتية :
المطلب الأول : مولده ونسبه :
ولد الشيخ أحمد ياسين في شهر يونيو من عام 1936م في قرية الجورة الفلسطينية ، توفي والده إسماعيل ياسين وهو ابن خمس سنوات(2) ، وكانت أمه امرأة مؤمنة عُرفت بتدينها تدعى سعدة عبد الله الهبيل(3) ، وكان له من الأشقاء أخوان وأخت ، وله أخوان لأب وأخت لأب أيضاً(4) ، وكانت تعد هـذه الأسـرة من أغنيـاء تلك القرية وذلك حتى هجرة عام 1948(5) ، إذ عقب ذلك تحولوا من الثراء إلى لاجئين يبحثون عن المأوى والمأكل والمشرب كسائر العائلات الأخرى من أبناء شعب فلسطين الذين سقطت ديارهم تحت الاحتلال وطُردوا منها(6) .
المطلب الثاني : نشأته العلمية :
نشأ الإمام أحمد ياسين في بيت كسائر البيوت الفلسطينية ، يغلب عليه طابع الطيبة والتديـن الفطري ، دون أن يتميز أحد الوالدين أو من يكبره سناً من إخوته بالعلم الشرعي أو غيره ، خاصة في قريته التي ولد فيها وعاش مرحلة صباه ، اللهم ما عرف عنهم من حب العلم وعدم ممانعتهم من تعلم الراغب من أبنائهم ، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال التحاق الشيخ بالمدارس المختلفة .
درس الشيخ في مدرسة الجورة الابتدائية وكان في السابعة من عمره ، حيث لم تكن المدارس تقبل أيٍّ من الطلاب دون هذه السن ، وبقي مواظباً في دراسته حتى أول شهر من الصف الخامس حيث كانت حرب عام 1948م ، وكانت هجرة الشعب الفلسطيني الأولى ومنها سكان قرية الجورة ، وعائلة الشيخ التي خرجت إلى منطقة غزة ، ليلتحق عقب ذلك في مدارسها حتى أنهى دراسته الثانوية ، ليعمل مدرساً للتربية الدينية واللغة العربية في مدرسة الكرمل - بغزة – والتي كانت تسمى بمدرسة الرمال ، ثم التحق بجامعة عين شمس ليدرس سنة كاملة في قسم اللغة الإنجليزية ، لكنه لم يكمل مشواره التعليمي الجامعي لعدة ظروف طرأت عليه سواء الصحية منها والسياسية كذلك(7) ، فقد ساءت حالته الصحية والتي بلغت إلى حد الشلل التام فضلاً عن ظروف الاعتقال لأبناء الحركة الإسلامية ، والمنع من السفر والذي تعرض له الشيخ في تلك المرحلة .
لم تكن الإصابة التي تعرض لها الشيخ رحمه الله – وهو يؤدي بعض التمارين الرياضية على شاطئ بحر غزة والتي أدت إلى الشلل وعدم القدرة على الحركة إلا بصعوبة بالغة في بادئ أمره انتهت إلى التنقل على كرسي متحرك(8)- ، لتفت من عزمه في مواصلة مسيرته الدعوية والعلمية .
فقد التحق في صفوف حركة الإخوان المسلمين وأعطى البيعة للأخ شعبان البغدادي عام 1954(9) ، الأمر الذي ساهم في رقيه الروحي والإيماني وتواصله بأسباب العلم والمعرفة وذلك من خلال نظام الأسر لدى الجماعة والعمل الدعوي المتواصل من دروس ومواعظ وخطابة فضلاً عن المطالعة وغيرها مما مكن للشيخ فقهاً واسعاً وعلماً ومعرفة في كثير من جوانب المعرفة والثقافة ، وهو ما سيتم الحديث عنه في المبحثين التاليين .
المطلب الثالث : استشهاده :
استشهد الشيخ أحمـد ياسين صباح يوم الاثنين الأول من صفر عام 1425هـ الموافق 22 مارس لعام 2004م ، بعد أن أقام ليله بين يدي الله عز وجل يقرأ القرآن ويدرس إخوانه ويعظهم ويجيب على تساؤلاتهم ، وليتناول طعام السحور ناوياً صيام يوم الاثنين إحياءً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وليصلي الفجر في جماعة وليجالس إخوانه عقب ذلك ثم ليخرج من مسجد المجمع الإسلامي الذي أسسه على التقوى ليكون منارة للعلم والدعوة إلى الله ، حتى إذا كان في طريقه إلى بيته والذي كان على مقربة من المسجد أطلقت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية ثلاثة صواريخ في اتجاه جسده الطاهر لتحوله إلى أشلاء ، وليرقى رحمه الله إلى العلياء بعد حياة حافة بالعلم والإيمان والدعوة إلى الله تعالى(10) ، فكان استشهاده رسالة للعلماء والعابدين والدعاة إلى الله تعالى بأن من أراد أن يجمع بين ذلك كله فما عليه إلا أن يتجرد لله عز وجل ويتزود بالصلة به ، ويأخذ بأسباب المعرفة المادية الممكنة كي ينعم الله تعالى عليه بالعلم والوعي اللازم لنجاح دعوته ، ويؤيده بالقوة والإرادة التي تمكنه من تجاوز الابتلاءات والأحداث الجسام ، فلا تعيق تقدمه وحركته نحو الغايات السامية والقمم الشامخة .
وكان المشهد العظيم في خروج الناس جميعاً في فلسطين لتودع هذا العالم الرباني المجاهد ، وكأن هذه الجموع تزفـه في ليلـة عرسه ، شاهدةٌ على مكانته في قلوبهم ، وشاهدةٌ على مكانته العلمية والجهاديـة ، ولم يحصل ذلك في فلسطين فحسب وإنما في كثير من دول العالم .. وإنما يؤكد هذا على صدق توجه هذا الإمام الجليل ومحبة الناس له ممن يعرفه أو لا يعرفه .. وإن دلَّ ذلك على شيء فإنما يدل على محبة الله تعالى له .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبريل ، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض "(11) .
المبحث الأول
العوامل التي ساهمت في ارتقاء ثقافة الشيخ أحمد ياسين
إن الله عز وجل تكفل بحفظ دينه ودعوته من أن تمتد إليها أيادي العبث والتحريف ، ومن أن يأفل نورها أو أن تنطفئ جذوتها ، قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) ، ولقد كان من بين مظاهر الحفظ أن يهيء الله عز وجل لهذه الأمة ، على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها ، وهو ما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم .
عن أبي هريـرة – رضي الله عنـه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)(13) .
إن الشيخ أحمد ياسين هو الداعية والعالم الأبرز الذي أحيا الأمة ، وأعاد الصدارة للدعوة الإسلامية في فلسطين خلال القرن العشرين وحتى استشهاده ، ولما كان العلماء ورثة الأنبياء فإن هذا يعني أن من سيتصدر شأن تجديد الدين في قلوب الناس بإحيائها وإعادتها إلى المحجة البيضاء ، أن يتميز بمختلف جوانب المعرفة وأن يعده الله عز وجل لدعوته ، ويكلؤه بحفظه ورعايته ، وهو ما تحقق للشيخ الرباني والعالم الجليل أحمد ياسين ، والذي توفر له من أسباب العلم والمعرفة ما يجعله أستاذاً ومعلماً للعلماء ومرشداً لهم .
ويمكن إجمال أهم العوامل التي ساهمت في ارتقاء الجانب العلمي والمعرفي لدى الشيخ أحمد ياسين في المسائل الآتية :
المطلب الأول : التقوى وصدق التوجه لله عز وجل :
لقد شرف الله عز وجل العلم حينما جعل له مأوى في قلوب عباده الأخيار ، وجعله ثمرة للتقوى ، حيث أكدت آيات القرآن الكريم في غير موطن أن العبد كلما ارتقى في مدارج التقوى كلما نوّر الله تعالى بصيرته بالعلم النافع ، قال تعالى : ... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (14) .
يقول الإمام القرطبي : " وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه ، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقى إليه ؛ وقد يجعل الله في قلبه ابتداءً فرقاناً ، أي فيصلاً يفرق به بين الحق والباطـل ؛ ومنه قولـه تعالـى : يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً(15) "(16)، وهذا يعني أن من خاف الله عز وجل وأقبل عليه ففعل أوامره واجتنب نواهيه وفق لمعرفة الحق من الباطل(17) . وهذا النوع من العلم أطلق عليه بعض العلماء العلم الخفي(18) الذي يقوم على الإلهام والفهم الذي يؤيد الله عز وجل به عباده العارفين الصادقين .
يقول ابن القيم – رحمه الله - : " إن هذا العلم الخفي هو الإلهام والفهم الخاص الذي هو ثمرة العبودية ، والمتابعة ، والصدق مع الله ، وبذل الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله ، وكمال الانقياد له ، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – وقد سئل : هل خصّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ - فقال : لا والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه "(19) .
ومع أن التقوى وصدق التوجه لله عز وجل محله القلب ، إلا أنه يمكن الوقوف على مظاهر هذه المقامات الإيمانية العالية للشيخ أحمد ياسين ، من خلال المشاهد والمواقف التي تعكس للمطَّلع عليها مدى إقباله على العبادة ، وتقربه لله عز وجل ، وعزوفه عن الدنيا وثقته بما عند الله عز وجل ، وهو ما يمكن توضيحه في النماذج الآتية :
أولاً : الثقة بالله عز وجل والتوكل عليه :
كان الشيخ أحمد ياسين مثالاً يحتذى به للواثق بربه المعتمد عليه والآخذ مع ذلك بالأسباب الممكنة والمشروعة لتحقيق مقاصده .
فقد تخرج الشيخ في مدرسة فلسطين الثانوية عام 1958م وتطلعت نفسه إلى العمل أسوة بأقرانه ، ومع اعتلال صحته فإنه لم يكن هناك ميداناً للعمل سوى مدارس الحكومة فتقدم بطلبه لمدير التربية والتعليم ، ليمثل عقب ذلك لمقابلة شخصية أمام لجنة أعدت لهذا الغرض ، وبالنظر إلى تفوق الشيخ في المقابلة وشدة ذكائه فقد أدرجت اللجنة اسمه في الكشف المرفوع إلى الحاكم الإداري العام ليبدي الرأي فيها ، وكتب أمام اسمه رغم قدراته الممتازة وتفوقه لكنه أعرج ، وصباح يوم المقابلة قابله أحد أصحابه وهو ذاهب إلى لجنة المقابلة قبل الموعد بساعتين وهو يغوص في الرمل فيسقط حيناً على الأرض ويساعده أحد المارة حيناً في الطريق الصلبة ، حيث تتناثر ذرات الرمل من تحت قدميه خلال مشيه ، فقال له : إلى أين يا أخي أحمد ؟ فأجاب بكل ثقة : لمقابلة اللجنة ، فقد دعتني لمقابلتها ، فقال له صاحبه رفقاً به وشفقة عليه : وهل تتصور أن اللجنة ستوافق عليك ؟! مذكراً إياه بأنها تشترط للقبول ثمناً أي رشوة – حسب ما عرفه الناس عنها آنذاك – ثم أردف قائلاً : يا أخي الكريم أرى أن توفر على نفسك شقاء المسير وتعود من حيث أتيت ، فابتسم الشيخ وهو واقف يترنح يميناً وشمالاً على أصابع قدميه ، وقال : (يا أخي وهل تتصور أنني ذاهب للجنة لكي أستعطفها ؟! لا والله ، فأنا مسلم واثق أن الله إذا أراد لي التعيين ، فلن يتمكن بشر من قطع رزقي ، ألم تقرأ قوله تعالى : وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (20) ، وهل فاتك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس – رضي الله عنهما - : (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف)(21) ، والله إنني واثق من أن الله تعالى لن يخيبني ، فأنا متوكل على الله عز وجل وماضٍ في سبيله ! وقد تحقق بالفعل للشيخ ما يريد وكانت ثقته بالله في محلها ولم يخيب الله تعالى ظنه به ، إذ هيأ له أسباب القبول حيث كان للحاكم الإداري العام – الفريق أحمد سالم – ولد صغير يحبه وقد ولد أعرجاً فلما قرأ تقرير اللجنة في حق أحمد ياسين، قال بلهجته المصرية : (وإيه يعني أعرج، يعني ما يشتغلش ، يعني يموت من الجوع ، وأشّر بقلمه الأحمر أمام اسم أحمد ياسين عبارة (يعيّن) ثم أمر بتعيين الباقيين الذين رشحتهم اللجنة(22) .
ثانياً : محافظته على الفرائض وحرصه على النوافل :
إن العبـد بقـدر صلته وعبادته لربه فإنه يرقى إلى أعلى درجات التقوى وهو ما أمر الله عز وجل به، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(23).
إن المحافظة علـى ما افترضـه الله عز وجل والتقرب إليه بالنوافل يجعل العبد في معية الله عز وجل، ومن كان كذلك فإنه سيوفقه إلى معرفة الحق وينير له السبيل الذي يفرق به بين الحق والباطل .
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)(24) .
وقد عرف الشيخ أحمد ياسين بتعبده لله عز وجل وحرصه على صلاة الجماعة في المسجد والصيام وتلاوة القرآن والذكر وغير ذلك من صور العبادة المختلفة التي تعكس ربانيته وصلته بالله عز وجل ، وهو ما توضحه المواقف الآتية :
1) محافظته على صلاة الجماعة :
حرص الشيخ على صلاة الجماعة على الرغم من اعتلال صحته ، حيث كان يشهد صلاة العتمتين في جماعة حتى إنه كان يستعين بالفانوس (المصباح) خلال خروجه لصلاة الفجر لكشف الطريق الوعر آنذاك وذلك منذ بداية حياته في صفوف الدعوة(25) ، وحول هذا الحرص على صلاة الفجر في المسجد في معسكر الشاطئ ، خرج ذات يوم مع كونه مريضاً ولا مرافق له يساعده للوصول ، تعثر الشيخ ووقع وبقي ملقى على الأرض حتى طلوع الشمس(26) ، وقد تكرر ذلك معه أكثر من مرة(27) .
2) أخذه بالعزيمة في العبادة :
الحالة الصحية التي عاشها الشيخ أحمد ياسين بعد إصابته بحيث كانت قدماه تضعف على حمله إلا بمشقة وجهد ولمدة محدودة إلا أن ذلك لم يكن لينال من عزيمته وإرادته في أن يصلي قائماً أو يطوف في الحج على قدميه مع أنه كان بوسعه أن يأخذ بالرخصة فيصلي جالساً ويطوف محمولاً على الأعناق خاصة وهو الرجل الرباني الذي كسب قلوب أصحابه بحيث كانوا يتنافسون في توفير أسباب الراحة والسلامة له ، ومن المشاهد التي تؤكد على همة الشيخ في مجال العبادة ما يأتي :
- حدثتنا بثينة الدجني(28) : " كنا في منزل الشيخ لحل مشكلة عائلية ، فجاء موعد صلاة العصر فقام للصلاة ، وكان آنذاك بوسعه القيام مع شيء من الجهد والمشقة ، وبعد أن اعتدل من الركوع وأراد أن يسجد وقع على الأرض بشدة ومع شدة الضربة التي تعرض لها الشيخ، وقوة الصوت الذي نجم عن ارتطام جسمه بالأرض ، لم يصرخ ولم يتأوه بل أتم صلاته وكأنه لم يحصل شيء ، فلما فرغ من صلاته ، سألته : لمَ لمْ تصل وأنت جالس ؟ قال الشيخ: ما دمت قادراً على القيام سأصلي وأنا قائم " .
- حدثنا عبد الرحمن تمراز : " ذهبت في رفقة الشيخ أحمد ياسين للحج إلى بيت الله الحرام وكان ذلك في أوائل السبعينات وكانت أول حجة يحجها الشيخ حيث رفض الشيخ أن يطوف حول الكعبة إلا مشياً على القدمين وذلك بمساعدة اثنين إلى جانبي الشيخ فطاف رحمه الله الأشواط السبعة مشياً وكان أمامه شخص ومن خلفه آخر ، وقد كنت أمامهم لفتح الطريق ، وحين السعي بين الصفا والمروة سعى الشيخ ماشياً الأشواط السبعة وذلك أيضاً بنفس المساعدة السابقة "(29) .
3) حرصه على النوافل :
لقد عرف الشيخ بتمسكه بأسباب التقوى والصلة بالله عز وجل والذي كان من بينها المحافظة على صلاة التطوع وقيام الليل وصيام النوافل ومنها صيام يومي الاثنين والخميس هذا فضلاً عن تلاوة القرآن الكريم والانشغال بحفظه حتى أتمه في اعتقاله الثاني ، هذا بالإضافة للذكر والتسبيح ، وقد كان هذا منهجاً للشيخ خلال حياته خارج السجن أو داخله .
وقد ذكر الشيخ أنه كان يقرأ في معتقله أربعة أجزاء من القرآن الكريم في صلاة السنة سوى ما يقرأه في صلاة الفرض(30) ، وفي بعض الأحيان كان يقرأ جزأين من القرآن أو أكثر داخل الصلاة وخارجها يزيد في ذلك أو ينقص بحسب حالته الصحية(31) .
كما كان الشيخ يستيقظ من نومه قبل الفجر بساعة على الأقل فيتوضأ ويبدأ بصلاة القيام حتى الأذان فيصلي الفجر في المسجد أو جماعة في مكتبه مع مرافقيه وذلك حسب وضعه الصحي والأمني وبعد الفجر مباشرة يبدأ بقراءة القرآن حتى الساعة السابعة صباحاً(32) .
وقد حدثنا الأستاذ الدكتور نزار ريان عن حرص الشيخ على قيام الليل ، فقال: " لقد بت معه الليالي ذوات العدد فما ترك قيام الليل قط"(33) .
كما كان اعتقال الشيخ بمثابة معراجاً إلى الله عز وجل ، وخلوة اغتنمها في العبادة وهو ما أكده حين وصف سجنه - في سياق إجابة على سؤال وجه إليه حول كيفية سجنه بالنسبة له – بقوله : " إن الإنسان المؤمن يجد في السجن متعة ، المتعة هي في كونه يتفرغ لعلاقته مع الله ، علاقة العبادة وعلاقة القرآن ، أنا أكملت حفظ القرآن في السجن "(34) ، وهو ما أكده مرافقوه في معتقله(35) ، ولعل الساعات القليلة التي سبقت استشهاد الشيخ خير دليل على منهج الشيخ التعبدي إذ قضى ليلته الأخيرة في مسجد المجمع الإسلامي بغزة قائماً لله عز وجل ذاكـراً لـه داعياً إليه ، متناولاً طعام السحور لأنه كان ينوي الصوم تطوعاً لله عز وجل وكان يوم اثنيـن، مؤديـاً صلاة الفجر في جماعة ، ليكون بعد ذلك في ذمة الله عز وجل ولتتحقق له عقب ذلك أمنيته في لقاء الله تعالى شهيداً(36) .
ولقد تحدث الشيخ مرة بعد خروجه الأول من السجن متمنياً أن كل شباب الحركة الإسلامية يدخلون السجن لمدة ستة أشهر فقط .. قلتُ له : ما هذه الأمنية العجيبة ؟! قال : حتى يختلي الشباب مع نفسه ويعود إلى ربه فيقرأ القرآن والكتب الإسلامية من جهة ، ويُزال حاجز الخوف من العدو من جهة أخرى(37) .
إن الناظر والمتأمل لسيرة الشيخ أحمد ياسين وعبادته ليقف دون أدنى شك على المنهج الرباني الذي سلكه الشيخ في أحواله كلهـا ، الأمر الذي يجعله جديراً بنعمة الله عز وجل عليه ألا وهي سعة العلم وبعد الأفق ، وفراسة تحقق له علماً ، لا يمكن أن يتحصله العبد إلا عبر رياضة لنفس ومجاهدة لها وتربيته إياها على مخافة الله عز وجل وإلزامها بطاعته وعبادته .
حدثنا مصباح الكحلوت وعبد الرحمن تمراز أن الشيخ كان معروفاً بفراسته حتى إنه كان يعرف ما يريده محدثه قبل أن يحدثه(38) ، وأضاف عبد الرحمن تمراز أن الأمر يتعدى ذلك إلى أن الشيخ كان يستشعر مدى صدق محدِّثه ، وكان يبني رأيه على ما يستشفه من نظرته الثابتة فإذا سئل لِمَ صنعت ذلك ؟ يقول هكذا رأيت . وكنا نستدرك بعد فترة موقفه وحكمته(39) ، ومن ذلك – على سبيل المثال لا الحصـر - : " أنه حضر لأحد المذيعين في التلفاز الأردني عام 1997م عدة مقابلات مع بعض الشخصيات البارزة ، عقَّب عليها بقوله : " وهذا المذيع سيتسلم في يوم من الأيام وزارة الإعلام وما أسرع ما صدَّقت الأيام فراسته ! وإذا بمذيع الأمس يصير وزير إعلام "(40) ، ومنه أيضاً أنه ذكر أن خليفة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بعد وفاته سيكون محمود عباس وليس غيره من رؤساء أجهزة الأمن(41) ، وقد تحقق ذلك بعد وفاة أبي عمار وتولى الأخير منصب رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ، وذلك مصداقاً لقوله تعالى : وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ (42) .
المطلب الثاني : الإمكانات الذهنية :
تميز الشيخ أحمد ياسين بشدة الذكاء وقوة الذاكرة وسرعة البديهة والفطنة والفراسة والتي هي ثمرة للتقوى ، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال النقاط الآتية :
أولاً : شدة الذكاء وقوة الذاكرة :
عرف الشيخ بذكائه وقوة ذاكرته منذ سني حياته الأولى ، حيث كان متفوقاً بين أقرانه حيث لم يتجاوز ترتيبه في سنوات دراسته عن الخمسة الأوائل ، حتى إنه كان مرجعية لزملائه ، فكان يقرأ الكتاب فيأتي أصحابه فكان يعلمهم ويشرح لهم(43) ، وقد شهد له من اقترب منه ولازمه بأنه عالي الفطنة ، موصوف بالذكاء الخارق وقوة الذاكرة والتي بلغت تذكر الأمر منذ أربعين أو خمسين سنة ، حتى إنه كان يراجع الأخ فيما مضى من تلك السنوات(44) .
وقد أتاه ذات يوم شاب اسمه عبد العزيز(45) متعارفاً مع الشيخ وكان لقاؤه هذا الأول من نوعه، وقد تكرر مرة ثانية بعد ثلاثة أشهر، فإذ بالشيخ يرحب به قائلاً: أهلاً أخ عبد العزيز(46).
كما كان الشيخ يمتلك من القدرة الذهنية ما يمكنه أن يكرر المعلومات الكثيرة بعد أن تعرض عليه من الوهلة الأولى بدقة متناهية ، مما يعكس ما تمتع به الشيخ وما تميز به من المواهب الخاصة والقريحة المتقدة .
حدثنا الدكتور محمد بخيت(47) " أنه اجتمع عدد كبير من الشباب في مسجد المجمع الإسلامي وكان ذلك تقريباً عام 1980م وذلك لصلاة الليل ، وبعد القيام جلسنا وتعارفنا فذكر كل واحد اسمه ثلاثياً وعمله والحالة الاجتماعية ، وكان العدد يقارب مائة وعشرون شخصاً، فقال الشيخ : من يعيد ما سمعنا ، الاسم والعمل والحالة الاجتماعية ، فلم يستطع أحد ، فأعادها الشيخ دون أي خطأ وكان الحضور من مناطق شتى " .
ثانياً : دقة الملاحظة ودقة التعبير :
إن ما يعكس ما تميز به الشيخ من الإمكانات الذهنية هو ما عرف به من النباهة ودقة الملاحظة ، وهو من لوازم الشخصية القيادية التي تمتع بها الشيخ أحمد ياسين إذ يحسب عليه من الكلمات والتعبيرات والمواقف ما لا يحسب على غيره .
ويمكن الوقوف على دقة الملاحظة والتعبير لدى الشيخ من خلال المواقف الآتية :
1- خلال فترة اعتقال الشيخ الأولى في انتفاضة المساجد عام 1987م ، أجرت الصحافة عدة لقاءات معه وكان من أهداف إحدى المقابلات إحراج الشيخ أمام الرأي العام العالمي ، وذلك إذا نجحوا في استدراجه لما يريدون من التعبيرات والتصريحات .
ومن ذلك أدت إحدى العمليات الاستشهادية داخل باص يهودي داخل الخط الأخضر إلى مقتل واحدٍ وعشرين جندياً يهودياً في بيت ليد ، فسئل الشيخ أمام التلفاز عن رأيه في هذا الانفجار ، فإذا ما أيد العملية أظهروه أمام العالم كطاغية يحب القتل فيفقد التعاطف العالمي معه ، وإذا استنكرها أظهروه للفلسطينيين كمتخاذل ورافض للجهاد وهو ما يحدث فتنة بين مؤيديه ومن يتربص به من الخصوم ، إلا أن الشيخ انتبه لمكر اليهود فكان دقيقاً حريصاً في تصريحه حيث قال لهم : " أنا حزين لأن سفك الدماء لم ينته بعد"، ففهمها المحايدون أنه لا يحب القتل ، أما أنصاره ومؤيدوه فقد فهموها أنه حزين لأن فلسطين لم تتحرر بعد وبالتالي هم مجبورون على قتل المحتلين(48) ، وقد يفهمها المؤيدون بأنه حزين لاستمرار سفك دماء الفلسطينيين من قبل المحتلين .
2- في جلسة انتخابات لعمل ما كان مقرراً انتخاب لجنة مكونة من ثماني أفراد ، فقال الشيخ: عليكم انتخاب ثمانية من الحضور فقال أحد الجالسين : وأنت أحدهم فكان هذا السؤال يوهم أن الشيخ أحد الثمانية ، فقال الشيخ مباشرة : وأنا أحد الحضور – أي حقي كأي واحد منكم -(49) .
المطلب الثالث : إرادة التحصيل العلمي :
إن التحصيل العلمي يحتاج لتحققه إرادة قوية ، لدى طالب العلم ، إذ بدونها يبقى المرء في عداد الجهلاء ، أو ممن اضمحلت علومهم ممن قنع بالقليل منه ، فهو غير مستحق لأن يكون في مصاف العلماء ، ولعل موقف موسى عليه السلام حينما علم أن هناك من هو أعلم منه – وهو الخضر عليه السلام – عزم أن يسير إليه ولو أدى ذلك أن يسير أحقاباً ، غير مكترث أو آبه بما يعترضه من جهد ونصب ، ما دامت النتيجة علماً نافعاً يقربه لله عز وجل ، فيه خير دليـل علـى أهميـة إرادة التحصيل العلمي لطالب العلم ، قال تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (50) ، ولما التقى بالخضر عليه السلام سأله العلم ، قال تعالى : قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (51) .
لقد كان الشيخ أحمد ياسين من أولئك الذين عرفوا بقوة الإرادة ، التي لا تنال منها الحوادث والخطوب ، إذ تميز بحرصه وشغفه بالتحصيل العلمي منذ صغره ، ولم تثنه الظروف السياسية والتي تعرضت لها فلسطين زمن النكبة الأولى عام 1948م – حيث سقطت أكثر البلاد ومنها بلدته ، الأمر الذي دفعه وأسرته للهجرة إلى غزة – من أن يعمل على تحصيل العلم ، فداهمته حادثة الشلل التي لازمته حتى استشهاده ، ولم يتغير موقفه نحو العلم .
وفي ضوء ما تقدم ، يمكن توضيح مدى إرادة التحصيل العلمي لدى الشيخ من خلال بعض المواقف البارزة في حياته :
أولاً : عاش الشيخ أحمد ياسين حتى عام 1952م معافى سليماً قادراً على الحركة والتنقل ، شأنه كأي شاب آخر من الأصحاء ، وقد عكست السنوات الأولى من المراحل الدراسية التي مر بها الشيخ خلال هذه الفترة صورة الطالب المثابر ، الحريص على دروس العلم ، فدرس في مدرسة الجورة الابتدائية حتى الصف الخامس ، حيث درس شهراً فيها ، حتى بدأت النكبة عام 1948م ، فأجبروا على الرحيل من الجورة إلى غزة ، ومع شدة هذه الظروف إلا أنها لم تذهب بحب الشيخ إلى المدرسة مرة أخرى ، فالتحق بمدرسة في النصيرات إذ كانت الأقرب إليه فدرس عدة أشهر ، لكن وبالنظر إلى قساوة الظروف الاقتصادية التي تعيشها أسرته ، اضطرت الأسرة إلى الرحيل إلى غزة مرة أخرى ؛ لكي يعمل في مطعم فول عند ميناء غزة نحواً من سنة ، وكان ذلك أواخر عام 1949 و1950م ، ثم التحق بالمدرسة مرة أخرى حيث قبل في الصف الرابع رغم أنه أنهاه ، إلا أنه عاد إليه بعد سنتين من مغادرته إليه بنجاح ، دون أن يفت ذلك من عزيمته ، ثم تعرض إلى حادثة الشلل وكان ذلك في صيف عام 1952م، وبعد أن مكث خمسة وأربعين يوماً في المستشفى عقب انزلاق في عموده الفقري خلال لعبة الرياضة على شاطئ بحر غزة ، خرج ليعود إلى المدرسة في نفس العام 1952م إلى الصف السادس ، مع أنه خرج ضعيفاً لا يستطيع أن يمسك القلم ، وغير قادر على المشي إلا بصعوبة فإذا ما تعثر بأي شيء يسقط أرضاً ، ومع ذلك كله نجح في الدراسة الابتدائية والإعدادية ثم انتقل إلى المرحلة الثانوية ، وذلك في مدرسة الإمام الشافعي ثم مدرسة الكرمل (وكانت تسمى آنذاك الرمال) ثم مدرسة فلسطين الثانوية ، حيث أتم المرحلة الثانوية فيها بتفوق ، وعلى الرغم من أنه حصل على قبول من جامعة القاهرة إلا أن الظروف المادية حالت مرة أخرى أمام ذلك فقدم الوظيفة إذ لا قدرة له لتحمل نفقات الدراسة في مصر ، وفي عام 1964م قرر – على الرغم من اعتلال صحته - أن يحقق حلمه في إكمال دراسته أسوة بزملائه الذين سبقوه إلى ذلك ، فتقدم لامتحان الثانوية مرة أخرى ثم إلى جامعة عين شمس بمصر بقسم اللغة الإنجليزية ، وقد تقدم للامتحان في الجامعة أواخر العام 1965م إلا أن الاعتقالات التي وقعت للإخوان المسلمين في مصر آنذاك وما أعقبه من إعدام سيد قطب حال دون عودته إلى مصر مرة أخرى ، ثم فكر مرة أخرى في الذهاب لمصر لإتمام دراسته ، وذلك عام 1967م قبل العدوان في الخامس من يونيو وقد أخذ إجازة من التعليم كي يسافر إلا أن طلبه قد رفض ومنع من السفر(52) .
ثانياً : أكد كل من صاحب الشيخ واقترب منه على حرصه الشديد ، وتفانيه لتحصيل العلم والمعرفة ، إذ عجز مرضه من أن ينال من هذا الحرص ، وزاده سجنه واعتقاله لدى الاحتلال حرصاً وإرادة على تحصيل العلم النافع .
حدثنا الأستاذ محسن أبو عيطة والذي كان مرافقاً للشيخ في اعتقاله الثاني : " قمت بعمل ما يشبه الحامل لوضع الكتاب عليه وذلك بواسطة يد الكرسي إضافة للوسائل التي لدينا في الغرفة الصغيرة بسجن كفار يونا الأمر الذي سمح للشيخ أن يقرأ الصفحتين المتقابلتين فكان إذا فرغ منها أومأ إليَّ بعينيه أن اقلب الصفحة ، وذات مرة أخذتني غفوة فكره إيقاظي فاستيقظت فرأيته وقد مد رأسه على الكتاب وأخذ يقلب الصفحة بلسانه ، فقلت : يا أبا محمد لمَ لمْ توقظني؟! هل تحسب أنني سأزعل إذا أيقظتني ؟! نحن هنا في خدمتك !! فقال بشيء من الغضب : الذي أستطيع عمله يجب أن أفعله ، ثم قال : أنتم المشايخ اللي خربتوا الشيخ ، كنت أمشي لكن الكل يريد أن يحمل الشيخ "(53) .
ومع قوة الذاكرة التي تمتع بها الشيخ إلا أنه كان يعمد إلى تلخيص بعض الفقرات العلمية ، كما حدث – مثلاً - من تلخيصه لبعض الفقرات التي تعجبه بيده ، من كتاب المجموع في الفقه الشافعي للإمام النووي ، مع ما يرافق ذلك من صعوبة لوضعه الصحي حيث الشلل الذي أصاب جسده فمنعه من الحركة إلا بصعوبة بالغة(54) .
المطلب الرابع : تنوع مصادر المعرفة :
تعددت مصادر التحصيل العلمي والمعرفي عند الشيخ ، الأمر الذي يفسر المستوى الثقافي الرفيع الذي بلغه ، إذ على الرغم من أنه ولد لأسرة عادية كانت تتقن الفلاحة والزراعة والصيد في البحر ، شأنها في ذلك كأبناء الشعب الفلسطيني خاصة في قرية الجورة(55) ، ومع أنَّ الشيخ قد توفي والده منذ طفولته ، إلا أن الله تعالى قد عوضه إرادة قوية دفعته لتحقيق مزيد من التحصيل العلمي .
ويمكن إجمال أهم المصادر التي تلقى الشيخ من خلالها علومه وثقافته في النقاط الآتية :
1) المدرسة والجامعة :
إن المدارس والجامعات من أهم المؤسسات التي تهدف إلى تزويد الإنسان بالعلوم والمعارف المختلفة ، وقد التحق الشيخ بهذه المؤسسة التعليمية في مختلف مراحلها حتى أتم المرحلة الثانوية ثم درس عاماً واحداً فقط بجامعة عين شمس في قسم اللغة الإنجليزية ، حيث حالـت بينـه وبين إكمال دراسته الظروف ، ليستقر عقب ذلك في عمله كمدرس في سلك التعليم(56) ، وهو ما يحقق بالضرورة تغذية راجعة للمدرس نفسه إذ إن تعليم الآخرين يضيف للإنسان تجربة ومعرفة جديدة للمعلم تزداد مع مرور الأيام ، فضلاً عما يستلزمه ذلك من تحضير وتهيئة ذهنية وترسيخ ومراجعة للمعلومات وطرائق التدريس ، كي يحقق المعلم أعلى درجات النجاح في عمله .
2) أثر البيت على المعرفة عند الشيخ:
يعد البيـت في الإسـلام من المؤسسات التعليمية التي اهتم بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يجتمع بأصحابه في بيت الأرقم بن أبي الأرقم ليعلم الناس أحكام دينهم(57) ، وهو ما نهجه أصحابه من بعده(58) .
لقد كان بيت الشيخ أحمد ياسين كتلك البيوت من حيث كونها مناراً للعلم وملتقى العلماء، إذ كان بيته في معسكر الشاطئ متواضعاً –من القرميد – يؤمه الشباب بوصفه رجل الدعوة الإسلامية، وبيته من ثم مقراً لهم، وكان يجتمع بالنقباء من رجال الدعوة – وهم نقباء الأسر – وينصت لكل واحد منهم، ثم يبدي رأيه فيما يدور من الحوار، ويناقشهم فيما أبدوه من وجهات نظر إن لزم ذلك(59)، وكانوا إذا لم يقفوا على إجابة سؤال في مسألة ما، يكلف الشيخ أحدهم أن يراجع هذه المسألة من مظانها ؛ كي يقدم في اللقاء التالي الإجابة الشافية عن تلك المسألة، وكان كثيراً ما يتصل بأهل الاختصاص للإجابة عن بعض التساؤلات الغامضة التي تشكل عليهم(60) .
ولم يتغير هذا الحال بعد انتقال مكان سكناه قرب المجمع الإسلامي ، إذ بقي بيته مأوى لكل الشباب والقادمين ، فكان كالخلية التي لا تفتر(61) ، وهذا يوضح أن بيت الشيخ كان مؤسسة علمية ، يتشاور فيها الشيخ ويستمع لمن حوله ويتبادل معهم الآراء والحلول لما يجّد من إشكالات، وهو ما يساهم إلى حد كبير في ارتقاء المستوى العلمي والمعرفي للشيخ، خاصة إذا ما سلّمنا بقوة ذاكرته ، وشدة ذكائه كما أسلفنا .
ويعد إنشاء الشيخ مكتبة في بيته تضم كثيراً من أبواب المعرفة تأكيد على أثر البيت وأهميته في الارتقاء بالمستوى المعرفي عنده.
حدثنا الدكتور إبراهيم بخيـت : " تتجـاوز مكتبة الشيخ الإمام أحمد ياسين أكثر من (950) تسعمائة وخمسين عنواناً في شتى العلوم الدينية والإنسانية :
- علوم الدين الإسلامي : الفكر الإسلامي، الدعوة الإسلامية ، الحركات الإسلامية .
- العلوم الإنسانية : تاريخ ، سياسة، الصراع الفلسطينية الإسرائيلي ، فلسطينيات ، لغة عربية ، إعلام .
وهذه الكتب تتراوح بين الكتب الموسوعية كالموسوعة الفقهية 37 مجلداً ، وكتيبات صغيرة إضافة إلى القصص والروايات الدينية ، وبعض الكتب في العلوم البحتة "(62) .
3) المسجد :
يعد المسجد من أقدس الأماكن وأهمها في التاريخ الإسلامي، فقد ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم به حينما وطئت قدمه أرض المدينة المنورة(63)، ليمثل عبر التاريخ مؤسسة أكاديمية تنشر العلم والمعرفـة بيـن أبنـاء المسلمين، وتجعله ملتقى ثقافياً يلتقي خلاله العلماء بطلاب العلم ومريديه.
وقد برز اهتمام الشيخ أحمد ياسين بارتياد المساجد والمواظبة عليها عقب حادثة الشلل التي تعرض لها في شبابه(64) ، وكان – رحمه الله – يتردد على مسجد أبو خضرة – في وسط غزة – حرصاً منه على حضور المحاضرات التي كان يلقيها وفود الإخوان المسلمين الذين كانوا يأتون إلى غزة في هذه المرحلة ، حيث كان من بينهم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ، وقد كان ذلك قبل انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين ، ليتزود من العلم والمعرفة، وليصعد من نشاطه الدعوي عقب ذلك سواء في بناء المساجد كمسجد الشمالي والمجمع الإسلامي ، أو في الخطابة والوعظ في مسجد العباس بمدينة غزة وغيره ، إذ كان الشيخ من أشهر خطباء غزة وكان ممن لا يخشى في الله لومة لائم(65) .
4) نظام الأسر :
اهتمت جماعة الإخوان المسلمين بتقسيم أعضائها إلى أسر ، أي مجموعات صغيرة أسوة بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة(66) ، حيث تحدد الجماعة مناهج خاصة تتناسب ومستوى المجموعة الثقافي والذهني للارتقاء بهم تربوياً وثقافياً(67) .
وعقب انتماء الشيخ لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين عام 1954م ، بدأ تشكيل الأسر الإخوانية ، والتي كانت تتسم بالسرية الشديدة خاصة وأنه واكبها حملة اعتقالات في صفوف جماعة الإخوان في مصر ، فضلاً عن الإعدامات والمطاردات لرجال الحركة الإسلامية، وممن كان مع الشيخ في أسرة واحدة آنذاك عبد الرؤوف أبو دية ، والذي كان يدرس معه في نفس الفصل من المرحلة الإعدادية ، وبالنظر إلى التضييقات الحكومية كانت الأسر تعقد جلساتها في الغابة ، والتي يطلق عليها اليوم اسم المشتل – على مقربة من شاطئ بحر غزة – فكانوا يدرسون فقه السنة لسيد سابق ، والحديث ورسائل البنا ويبدأوا بحفظ جزء عم من القرآن الكريم ، وكانت الأسرة عبارة عن لقاء أسبوعي ، يتطور منهجهم فيه باستمرار وتتدرج الدراسة فيه بحسب المستوى الثقافي للأفراد(68) ، وكان عبد الرحمن بارود –أحد أصدقاء الشيخ- والذي حصل على درجة الدكتوراه في اللغة العربية من مصر فيما بعد وأصبح يقرض الشعر ، أحد أفراد الأسرة التي انضم إليها الشيخ أيضاً(69) .
حدثنا فؤاد الشيخ سلامة : " لقد اعتمدت الأسر تفسير الظلال للإمام سيد قطب ، وكان الشيخ – رحمه الله – يكثر القراءة فيه ، فضلاً عن حفظه للعديد من سور وأجزاء القرآن الكريم كسورة النساء والنور والتوبة والأنفال وبعض سور الحواميم حيث كان يلتزم مع النقباء بهذا البرنامج ، وهو ما عكس فقهاً واضحاً وثقافة واسعة لدى الشيخ ، فكان يكثر من الاستشهاد من آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا ما تحدث في قضية معينة ، حتى إن السامع لا يشبع من علمه لسعته ، وكان مرجعاً علمياً في مختلف القضايا والمعضلات "(70) .
5) مطالعة الكتب والصحف والمجلات :
إن المطالعة تكسب القارئ عمراً جديداً إلى عمره ، إذ تضيف إليه تجارب الآخرين وأفكارهم ومعارفهم ، وهو ما يجعل من القارئ المثابر موسوعة علمية خاصة إذا ما قرأ في الكتب المفيدة والمراجع الأصيلة ، وعرف مع ذلك بذكائه وقوة ذاكرته ، وحرصه على الامتثال لأمر الله عز وجل بالقراءة ، في سورة العلق : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (71).
لقد كان الشيخ يحب المطالعة والقراءة في الكتب الدينية والسياسية وله بعض القراءات الأدبية ، حيث أخبر الشيخ بأنه قد قرأ تفسير ظلال القرآن الكريم وأكثر كتاب تفسير الطبري إضافة لقراءته تفسير ابن كثير كما قرأ معظم صحيح مسلم بشرح النووي وكان يقرأ في فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني ، كما قُرئ عليه من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ كتاب شرح أصول العقيدة الإسلامية للدكتور نسيم ياسين وأثنى عليه خيراً ، وأوصى أن يعتمد في تربية أبناء الحركة ، كما قرأ سلسلة كتب محمد أحمد الراشد في فقه الدعوة إضافة إلى غيرها من كتب الفكر والدعوة الإسلامية(72) ، خاصة كتابات الشيخ فتحي يكن ومحمد الغزالي(73) ، كما وكان الشيخ يهتم بمطالعة كتب التاريخ ككتاب البداية والنهاية الذي كان مولعاً بقراءته وهو سلسلة من عشرين مجلداً(74) .
6) أثر السجن على المعرفة عند الشيخ:
يعد السجن من الأماكن التي وفرت للشيخ متسعاً من الوقت، لتحصيل العديد من المعارف، حيث وجه الشيخ سني اعتقاله نحو الكسب المعرفي ، حتى حفظ كتاب الله تعالى طالع عدداً من الكتب المختلفة ، يقول الشيخ أحمد ياسين : " أنا أكملت حفظ القرآن في السجن ، لم أكن قد حفظته بعد ، نعم كنت أحفظ أجزاء كبيرة منه ، لكن لم يكن لدي الوقت للحفظ ، وفي هذه السنة (1995م) أنهيت حفظ القرآن الكريم ، واطلعت على التفاسير ، واطلعت على التاريخ الإسلامي ، وعلى أصول الفقه ، وكتب اللغة العربية ، والفقه الإسلامي في مجلدات ، ثلاثة وعشرين مجلداً للأستاذ محمد بخيت المطيعي الذي كان يكمل كتاب الإمام النووي رحمه الله ... المجموع للنووي ، يعني كان الإنسان في سجنه هي فترة دراسة وعلم ، فترة عبادة ومعنوية روحية عالية جداً "(75) .
وقد بلغ حرصه واهتمامه بكتاب المجموع في الفقه الشافعي للإمام النووي أن يأخذه معه حينما تم الإفراج عنه في اعتقاله الأخير ليضيفه إلى مكتبته في بيته(76) .
وكان الشيخ حريصاً على قراءة الصحف والمجلات وخاصة في السجن حيث كانت وسيلة ضرورية تصله بالواقع الفلسطيني خارج حدود السجن ، حتى كان الشيخ يقرأ الإعلانات التي تتعلق ببيع الملابس ونحوها فلما سئل عن ذلك قال : " لأعرف إلى أي حد وصل أهل الفساد بفسادهم " ولما سئل عن اهتمامه بقراءة أخبار الرياضة ، قال مبيناً اهتمامه وحبه لها : "وهل أصابني ما أصابني إلا بسبب الرياضة ؟"(77)– ويريد بذلك حادثة الشلل-.
ومما يعكس مدى اهتمام الشيخ بالصحف أنه كان يعد حرمانه منها من المنغصات التي يقوم بها اليهود ضد المعتقلين لحرمانهم من معرفة أخبار أهلهم ووطنهم(78) .
7) وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وأشرطة الكاسيت :
حرص الشيخ على مشاهدة البرامج الإخبارية والتحاليل السياسية عبر وسائل الإعلام المسموعة كالراديو ، والمرئية كالتلفاز(79) ، وقد كان يستخدم سماعات الأذن في أواخر حياته وذلك لما كان يعانيه آنذاك من ضعف في السمع(80) ، وهو ما يمثل رافداً معرفياً لا يمكن تجاوزه في زمن التقدم التكنولوجي المعاصر، إذ يزود المتابع بكم وافر من العلوم والمعارف.
وكان يحرص الشيخ على اقتناء الراديو داخل سجنه وكذلك التلفزيون ، إذ كان ذلك مسموحاً ، وهو ما يوفر لهم التواصل مع مصاب شعبهم وهموم أمتهم ، وما يكابدونه من معاناة ويعايشونه من أحداث وتطورات(81) .
وكان يعجبه من البرامج التلفزيونية برامج المناظرات وبعض المسلسلات التاريخية والأدبية ، كما كان الشيخ يستمع إلى أشرطة كاسيت للنشيد الإسلامي(82) ، وكان لا يمتنع عن سماع الأشرطة التي تتضمن الأغاني الوطنية حتى لو رافقها بعض الموسيقى ، وذلك من أجل المعرفة لتوعية الناس وتحذيرهم من المحرمات .
يقول د. يحيى الدجني(83) : " صليت يوماً في مسجد المجمع الإسلامي ، وكان الشيخ متواجداً فيه ، فأقبل شاب وأخبر الشيخ بأنه يباع في السوق شريط يتضمن بعض الأغاني التي تهاجم الإسلام ، فطلب منه أن يأتي بالشريط ليستمع إليه فقال الشاب : إن فيه موسيقى ! فقال الشيخ سأستمع إليه ليس من أجل الموسيقى وإنما لأعرف ما يقال عن الإسلام فيه " .
8) الإنترنت :
لم يهمل الشيخ وسيلة الإنترنت ، بل استخدمها بشكل مكنه من زيادة معارفه وتواصله مع الوسائل الحديثة بما يخدم الدعوة الإسلامية ، فقد كان الشيخ يطلب من مرافقيه أن يستخرجوا بعض المقالات التي توضح – مثلاً – ما يمكر بالحركة الإسلامية أو تتحدث سلباً عن بعض الشخصيات الإسلامية ، وذلك كي يتمكن من وضع الردود المناسبة وتحديد الموقف اللازم(84) ، وقد كانت توضع هذه المقالات على مكتبه ، حتى إذا دخله أخذ يقرأ هذه المقالات والتحليلات ما أسعفه وقته لذلك(85) .
المبحث الثاني
جوانب من ثقافة الشيخ أحمد ياسين وعلومه
برزت ثقافة الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله – في العديد من المجالات العلمية المتنوعة، إذ لم تقتصر على الثقافة الإسلامية والتي أصبح له باع طويل فيها – إذ هي الأكثر بروزاً – بل امتدت لتشمل الثقافة اللغوية ، والثقافة الإنسانية ، والثقافة الواقعية والثقافة العامة . وهو ما يمكن بيانه في ضوء المطالب الخمسة الآتية :
المطلب الأول : الثقافة الإسلامية :
إن الداعية إلى الله لا بد أن يعي الفكرة التي يدعو إليها وعياً كاملاً ، وإلا انحسر نجاحه لقصور فهمه لدعوته ، لذا حرص الشيخ أن يغتنم ما أمكنه من الوقت للتزود من مصادر الثقافة الإسلامية ، والتفقه بالعلوم الشرعية كالقرآن الكريم وتفسيره والسنة النبوية والفقه وغيره ، كي يرقى بالعمل الإسلامي إلى أعلى درجات النجاح ، إذ فاقد الشيء لا يعطيه . ويمكن توضيح مدى سعة الثقافة الإسلامية لدى الشيخ من خلال النقاط الآتية :
أولاً : القرآن الكريم وتفسيره :
يمثل القرآن الكريم أهم مصدر للثقافة الإسلامية ، إذ هو أصل الأصول جميعاً ، وهذا يستلزم من الدعاة أن ينهلوا منه قدر جهدهم حفظاً وفهماً وعملاً ، ولا بد للداعية أن يتزود بحفظ الكثير من سور وآيات القرآن الكريم ، ليستشهد بها في عرض فكرته ، وتدعيم وجهة نظره ، وهو ما يضفي عليها حالة من القداسة والهيبة والاحترام .
ويمكن إجمال مدى ثقافة الشيخ في هذا الجانب في ثلاث نقاط ، وهي :
1) حفظ القرآن الكريم :
ابتدأ الشيخ بحفظ آيات القرآن الكريم وأجزائه ، خاصة مع انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين والتي كانت قد أقرت برنامجاً في نظام الأسر يتضمن حفظ جزء عم وبعض السور القرآنية الأخرى(86) ، كما اغتنم الشيخ فترات الاعتقال لحفظ المزيد من آي القرآن الكريم ، حيث أتم حفظ سورة البقرة وآل عمران في اعتقاله الأول عام 1984م(87) ، وأتم حفظ القرآن الكريم في اعتقاله الأخير عام 1995م(88) .
2) تفسير القرآن الكريم وفهم معانيه :
لقد حبا الله تعالى الشيخ قدرة فائقة على الحفظ والفهم ، والإرادة القوية ، وهو ما دفعه لأن ينهل من كتب التفاسير فقرأ تفسير الظلال وتفسير ابن كثير ومعظم تفسير الطبري(89) ، ومن دلائل ذلك :
أ- الاستشهاد بالآيات القرآنية في مواطنها :
لقد كان الشيخ يدعم أقواله وأفكاره بالآيات القرآنية التي تناسب المقام ، مما يعكس فقهاً عظيماً لآيات القرآن الكريم ، ومن ذلك – مثلاً - أنه سئل : بماذا تنصح أبناء حماس ؟ فقال الشيخ: (أنصحهم بتقوى الله ، ومن التقوى أن تقبلوا على العبادة وحفظ القرآن ، ومن التقوى أن تستفيدوا من الوقت فتقبلوا على العلم والتعلم وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (90) ومن التقوى أن نشغل أنفسنا بذكر الله بأوقات فراغنا ولا نشتغل بغيبة إخواننا ، ومن التقوى أن يحب بعضنا بعضاً ، وأن يؤثر بعضنا بعضاً ، ومن التقوى أن يغفر المرء لإخوانه زلاتهم ويلتمس لهم العذر ، ومن التقوى أن يسهر الأخ على خدمـة إخوانـه ومعاونتهـم ، كما وصف القرآن المؤمنين بقوله : أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ (91))(92) .
ويلاحظ من الآيتين السابقتين في نصيحة الشيخ لأبناء حركة حماس جماع توجيهاته لهم، فمن أقبل على العلم وسأل الله عز وجل أن يزيده منه فقد استفاد من وقته وربى نفسه بملء الفراغ ، فأقبل على عبادة الله وحفظ القرآن وذكر الله تعالى وهو ما يورث التقوى ، وأن التراحم بين المؤمنين يعني أن يحب الأخ أخاه المسلم ويسهر على خدمته ويحافظ على سائر حقوقه .
وقد اكتفى الشيخ بآيات من كتاب الله عز وجل كوصية له لمن بعده ، حيث سئل عن وصيته فأجاب : وصيتي أكتبها ، وأكتبها عملياً إن وصيتي قول الله تعالى : وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) ، وفي دلالة الآيات على ما أراده الشيخ من وصية لأتباعه والمعاني ما لا يخفى، فهي توضح أن منهج الأنبياء ومن معهم ، ممن حمل منهجهم ، أنهم أوذوا في سبيل الله وأن ذلك لم يثنهم أو يضعفهم عن مواصلة المسير ، بل صبروا واحتسبوا وتوجهوا إلى الله بالدعاء والأخذ بأسباب النصر فجاهدوا حتى تحقق لهم النصر ولمن استشهد منهم الجنة .
وقـد عرف الشيخ باستشهاده بالآيات القرآنية في خطبه(94) ولقاءاته عبر وسائل الإعلام(95) وغيرها(96) .
ب- التفسير الدقيق للآيات القرآنية :
ساهمت القدرات الذاتية التي وهبها الله إلى الشيخ في حفظه لما يقرأ وفهمه له دون أن تخونه ذاكرته أو تنال منه الأيام وصروف الدهر .
فقد قرأ أحد أتباعه تفسير الآية القرآنية من سورة يوسف : مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ (97) من تفسير الظلال للإمام سيد قطب ، فلما أقبل على درس الشيخ أحب أن تعم الفائدة على الحاضرين فسأل الشيخ عن معنى الآية ، ففسرها الشيخ كما هي في الظلال ، وهو ما يؤكد حفظه لما يقرأ(98).
كما كان يعقد الشيخ الدروس في المساجد يتناول من خلالها بعض الآيات ويقوم بشرحها وتفسيرها مع ربطها بالواقع الذي يعيشه الناس ، وكان من بين ذلك درس الثلاثاء الذي واظب على أدائه في المسجد الشمالي ، في معسكر الشاطئ بمدينة غزة ، بعد العشاء وأحياناً بعد المغرب، حيث تحدث عن أصحاب الكهف في ضوء ما ورد في القرآن الكريم في سورة الكهف، وكذلك أصحاب السبت الذين ورد ذكرهم في سورة الأعراف(99) ، ليدلل من خلالها على طبيعة اليهود التي ألفت العناد والمعصية ومخالفة أوامر الله عز وجل ، في مقابل أهمية الدعوة إلى الله والاستقامة على أمر الله والتي كانت سبباً بيناً في نجاة فريق من بني إسرائيل(100) .
ج- استنباط معاني جديدة من النصوص القرآنية :
لم يقتصر فهم الشيخ – رحمه الله – على ما يقرأه من كتب التفسير ، بل كان يتأمل معاني الآيات الكريمة ليقف على عظيم معانيها ، ملتزماً في ذلك بالضوابط الشرعية ، ومن ذلك تأريخه لزوال دولة إسرائيل معلقاً ذلك بعد شرح فهمه وتفسيره على مشيئة الله - بما يعني عدم جزمه في هذه المسألة- ومستدلاً على ذلك بآيات القرآن الكريم ، حيث قال تعالى : فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (101) ، يقول الشيخ : " أنا أقول إن إسرائيل بائدة إن شاء الله في القرن القادم في الربع الأول منه ، وبالتحديد أنا بقول(102) في 2027م تكون إسرائيل غير موجودة ... لأنني أؤمن بالقرآن الكريم ، القرآن حدثنا أن الأجيال تتغير كل 40 سنة ، في الأربعين الأولى كانت عندنا نكبة ، في الأربعين الثانية بدأت عندنا انتفاضة ومواجهة وتحدٍّ وقتال وقنابل ، في الأربعين الثالثة تكون النهاية ، إن شاء الله تعالى ، هذا استشفاف قرآني ... لأن ربنا حينما فرض على بني إسرائيل أن تتيه في سيناء 40 عاماً لماذا؟ ليغير الجيل المريض التعبان هذا بجيل مقاتل ، وجيلنا الأول هو جيل النكبة ذهب وطلع جيل الأحجار والقنابل ، والجيل القادم هو جيل التحرير إن شاء الله تعالى "(103) .
ثانياً : السنة النبوية :
تعد السنة النبوية المصدر الثاني للثقافة الإسلامية ، وهو ما دفع الشيخ للاستزادة من هذا المعين الذي لا ينضب ، لكي يعيد الأمة إلى أصالتها وأصولها ، وقد ظهرت ثقافته في هذا الجانب من خلال :
1) الاستشهاد بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
كان الشيخ يستدل بالأحاديث النبوية على ما يريد قوله وبيانه للناس في دروسه ومواعظه وحواراته(104) وكان يتناول العديد من مواضيع السيرة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لينطلق منها إلى الواقع الذي يعيشه الناس ، ويعرض من خلالها أفكاره وتعاليمه ، ومن ذلك حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً من بني إسرائيل ، وكيف تاب وقبل الله توبته ليشجع عقب ذلك المذنبين واليائسين من رحمة الله تعالى ، كي يقبلوا عليه ، ومنه أيضاً الحديث الذي أخرجـه البخاري في صحيحه بسنده عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)(105)، حيث شرح الشيخ واستنبط منه حكم وجوب الدعوة إلى الله إلى غير ذلك من العبر والعظات(106).
2) حفظه للكثير من الأحاديث النبوية وقراءته في كتب السنة :
حرص الشيخ على مطالعة كتب السنة وعلى حفظ الحديث الشريف وفهمها وتدبرها ، فقد حفظ الأربعين النووية عن ظهر قلب ، وكان يفرد بعضاً من الوقت حال زيارته لشقيقه الأكبر شحدة إسماعيل ياسين ، لكي يقرأ عليه الدكتور نسيم شحدة ياسين – ابن شقيقه – من كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري وغيره ، خاصة في بعض المسائل التي يريد الوقوف على الأحكام المتعلقة بها، هذا بالإضافة إلى حرص الشيخ على قراءة شرح صحيح مسلم للإمام النووي، وكان يقرأ كذلك في رياض الصالحين(107) ، والذي كان يقتنيه في مكتبته داخل السجن في اعتقاله الأخير(108)، وهو ما جعله ذو معرفة كبيرة بالأحاديث النبوية .
حدثنا الأستاذ الدكتور نزار ريان: " لقد كان الشيخ يقرأ كثيراً في الصحيحين وفي فتح الباري وقد ساومته على نسخته لكتاب فتح الباري عشرات المرات فأبى، فإن قلت إن الشيخ يعرف جميع الأحاديث المتعلقة بالعبادات والمعاملات لا أكون مبالغاً، ومع أنه لا يعرف دقائق علوم الحديث وتفصيلاته إلا أنه كان يميز بين الحديث الصحيح والضعيف والموضوع، ولقد راجعته مئات المرات في مسائل عديدة في مختلف العلوم كالحديث وأصول الفقه وغيرهما فكان له رأياً سديداً راجحاً، وقد ذهبت لزيارته وهو مريض في دار الشفاء، أناقشه في عشرة مسائل، فكان رحمه الله يحاجني في كل ذلك، وأشهد: لقد كان الحق معه في كل ما قال"(109) كما كان يحترم أهل الاختصاص حيث كان كثيراً ما يحيل إلينا بعض الأحاديث لتخريجها وبيان حكمها(110).
3) استنباط الأحكام من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
عرف الشيخ بفهمه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدرته على استنباط الأحكام الشرعية منها.
حدثنا الدكتور سالم سلامة : " لقد ثبت أن الشيخ له اطلاعات واسعة على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ودليلنا على ذلك أنه لما أدلى برأيه بأنه لا مانع من إعطاء هدنة مؤقتة مع اليهود بشرط تجنيب المدنيين من الطرفين من أي اعتداء ، كان مبنياً على فهم واسع وفقه معتبر لما كانت عليه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في المعاملة مع الأعداء، كما في عرضه على غطفان في معركة الأحزاب في أن يعطيهم جزءاً من ثمار المدينة على أن يرجعوا ، ولما في صلح الحديبية ، ولقد أثبت الإمام الشهيد أحمد ياسين أنه على فقه كبير بقبول هدنة مؤقتة وليست دائمة ، كما يسعى الأعداء إذ لا سلام بين الإسلام والكفر"(111) ، وحينما قررت مديرية التربية والتعليم التابعة لوكالة غوث اللاجئين إدخال الاختلاط في بعض الفصول والمراحل في المدارس الابتدائية ساءه ذلك ، ذهبت إلى الشيخ في بيته وأنا ألوم الحركة الإسلامية لتقصيرها أمام هذه الظاهرة الخطيرة ، وعدم منعها بالقوة ، فما كان من الشيخ إلا أن استدل بغزوة الأحزاب حينما عرض ثلث ثمار المدينة على غطفان ليحيّدهم ، وقال هل كان النبي صلى الله عليه وسلم مقصراً أو مخطئاً ؟؟(112) وما وصيته لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين بأن يلتزموا بتطبيق مبادئ الإسلام في الحرب مع أعدائهم قدر جهدهم فلا يقتلوا النساء أو الشيوخ أو الأطفال ، إلا إذا حملوا السلاح وقاتلوهم وذلك من باب الاعتداء بالمثل(113) إلا تأكيد آخر لفهمه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته لأصحابه رضي الله عنهم بمثل تلك التعليمات(114) .
ثالثاً : علم العقيدة :
امتلك الشيخ قدراً وافراً من مصادر العقيدة الإسلامية الرئيسة ، والمتمثلة بالقرآن الكريم الذي يحفظه عن ظهر قلب ، ويفهم معانيه لما قرأه من تفاسير متعددة كي يكون على بينة من أحكامه وتعاليمه ، وما تضمنه من عقيدة صحيحة ، وكذلك السنة النبوية التي توضح له علم العقيدة ، وتبين له مواضيعه كأركان الإيمان والأحكام المتعلقة بذلك .
كما قـام الشيخ بقـراءة بعض كتـب العقيدة السلفية ، حيث قرأ في كتاب شرح العقيدة الطحاوية (115) ، وكتاب شرح أصول العقيدة الإسلامية للدكتور نسيم شحدة ياسين ، وأثنى عليه خيراً(116) ، وقد تناول فيه المؤلف تعريف العقيدة وخصائصها ومعنى الإيمان والإسلام والفرق بينهما والأدلة على وجود الله عز وجل ، ثم أركان الإيمان الستة(117) .
ومما ساهم في زيادة فهم العقيدة الإسلامية لدى الشيخ رجوعه إلى كتب جماعة الإخوان المسلمين ، واقتناعه بمنهجهم ، حيث انتمى للجماعة في مقتبل عمره ، وقد عرفت هذه الجماعة بعقيدتها السلفية الصحيحة(118) ، وما وضحه الإمام الشهيد حسن البنا في رسائله ، وقرأه كذلك الشيخ أحمد ياسين(119) .
يقول الشيخ : " نحن امتداد للإخوان المسلمين في كل العالم ، نحن موجودون هنا بفكر الإخوان وبالعقيدة الإسلامية كاملة ، وليس هناك أي خلاف بيننا وبينهم "(120) .
كما أن الشيخ كان كثيراً ما يناقش الدكتور نسيم ياسين بحكم تخصصه في مجال العقيدة وكان كثيراً ما يسأل عن الخلاف الذي بين السلفية والأشعرية ، فيميل مع المذهب السلفي في نهاية المطاف .
وكانت الجماعة السلفية قد وزَّعت كتاباً في غزة تتهم فيه حركة الإخوان المسلمين بأنها حركة غير سلفية وعندها من البدع الكثير ، فأخذ الشيخ هذا الكتاب وقرأه وأخذ يناقش المختصين في العقيدة في بعض القضايا بما يؤكد دقة فهم الشيخ وامتلاكه للنصوص القرآنية والنبوية التي يمكن الاستشهاد بها في مواطنها الصحيحة .
كما كان الشيخ قد استمع لقول بعض المتخصصين الذين يأخذون على الحركة بعض الملاحظات في الجانب العقائدي، فكان الشيخ يبادرهم بطلبه منهم إجراء دراسة في هذا الموضوع وإظهار الموقف الصحيح الذي تدعمه الآيات والأحاديث وعليه سلفنا الصالح.. وكان كثيراً ما يغيِّر رأيه إذا كان هناك مخالفات في أحد الجوانب.. مثل ما حصل في موضوع تعليق صور الشهداء في المساجد من قبل شباب الحركة، فقد أنزل الشيخ تعميماً على قواعد الحركة بمنع تعليق الصور في المساجد، وكذلك رسم صور الشهداء على لوحات أو ميادين الشوارع العامة والمفترقات، وعندما علم الشيخ بأن ذلك محرمٌ وبأنه باب من أبواب الشرك منعه وأمر بمنعه وهكذا ... (121) .
رابعاً : علم الدعوة :
إن النجاح الدعوي الذي حققه الشيخ أحمد ياسين والمتمثل بانتشار جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين والتي تقلد الشيخ مسئولية الحركة في قطاع غزة عام 1967م(122) ، وما أعقب ذلك من إنشائه لحركة المقاومة الإسلامية حماس عام 1987م(123) ، وهو ما كان له الدور البارز في ظهور الصحوة الإسلامية في فلسطين ، متمثلاً ذلك في كثرة مؤسسات العمل الإسلامي وتنوعها إلى جانب الروافد البشرية التي تدين بالولاء للحركة الإسلامية من كافة أطياف المجتمع الفلسطيني وشرائحه الاجتماعية والثقافية ، يعكس فقهاً دعوياً واسعاً لدى الشيخ – رحمه الله - ، تمثل في إيمانه العميق بنصر هذه الدعوة وانتشارها وعالميتها ، وأن السبيل إلى ذلك لا يتحقق إلا عبر سيل من المخاطر والابتلاءات وهو ما يستلزم من الدعاة النصر والثبات ، وأنهم مطالبون أيضاً بالزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة ، وأن يوحدوا صفوفهم على أسس من الحب والتعاون متخلقين بالصفات اللازمة للداعية الناجح من رحمة ورفق وموعظة حسنة وغيرها .
يقول الشيخ : " إن الرسالة التي نحملها هي رسالة الإسلام العظيمة ، التي جاءت لتنقذ البشرية من الضلال إلى الهدى ، ومن الظلمات إلى النور ، قال تعالى : : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (124) ، لذلك لابد أن يكون حملة الرسالة العظيمة علماء ، تجردوا من الدنيا وشهواتها ، وتعلقوا بالآخرة ونعيمها ، ووحدة القلوب تجمعهم ، ووحدة الأخوة تؤلف بينهم ، الحب والتعاون شعارهم ، همهم إنقاذ الناس من النار بالكلمة الطيبة ، والموعظة الحسنة ، والمعاملة العالية من الرفق والحنان والعطف ، ومد يد المساعدة لإنقاذ من في النار إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، طريقهم طريق الأنبياء ، والرسل الكرام ، طريقهم محفوف بالمخاطر ، ولكنه في النهاية منتصر ، طريقهم البذل والعطاء والصدق والأمانة والوفاء ، والعاقبة للمتقين ، قال تعالى : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(125) "(126).
إن استخدام الشيخ للعديد من أساليب الدعوة ووسائلها المتنوعة، يعكس أفقه لعلم الدعوة، وخبرته الواسعة بها ، وأن أساليبها ووسائلها تمتاز بالمرونة والتجدد وعدم الجمود ، وهو ما ظهر من خلال استخدامه للنشاط الاجتماعي المتمثل بالخدمـات الاجتماعية حيث كان يقوم بجمع التبرعـات وتوزيعها على ذوي الأسـرى والمبعديـن والمحتاجين منذ انتهاء حرب عام 1967م(127)، واستخدام الشيخ التدريس والخطابة والندوات والمواعظ في المساجد لنشر الدعوة الإسلامية بين الناس ، كما وأنشأ الجمعية الإسلامية في مخيم الشاطئ عام 1976م ، والتي كانت تقوم بالأنشطة الرياضية والدينية - ندوات ، محاضرات ، رحلات ، وغيرها ... والإنسانية ، وفي نفس الفترة أنشأ المجمع الإسلامي بغزة والذي لم يأخذ التصديق من السلطات الإسرائيلية إلا في عام 1979م رغم قيامه بالأعمال الكثيرة التي تخدم الدعوة الإسلامية ، فقد اهتم المجمع بأنشطة الدعوة المختلفة من تحفيظ القرآن وتربية الشباب المسلم ، وبناء المساجد والمدارس ورياض الأطفال ، والعيادات الصحية ، كما قام الشيخ برعاية الجامعة الإسلامية بغزة والتي أنشئت عام 1978م ، وحافظ على فلسفتها ومنهجها الإسلامي(128) .
كما أسس الشيخ المكتبات الثقافية في المساجد وكان أولها تلك التي تأسست في مسجد العباس وذلك من أجل جلب الشباب إلى المساجد ورعايتهم ، كما أسس الشيخ فرق النشيد الإسلامي لتكون بديلاً عن الأفراح الماجنة والغناء الفاحش فأصبحت الأنشودة الإسلامية تستعمل للدعوة إلى الله وتوعية الناس ولتحل محلّ الفساد ، إلى غير ذلك من الوسائل التي استخدمها الشيخ للدعوة كالهدية والقصيدة وغيرها(129) .
ولم يكتف الشيخ بالدعوة في قطاع غزة، حيث نظر إلى واقع المسلمين داخل الخط الأخضر، من حيث بعد كثير منهم عن الدين، فبدأ منذ السبعينات يرسل الحافلات من غزة محملة بالدعاة، ليقوموا بدورهم الدعوي تجاههم، فكانوا يتوزعوا على المساجد، ثم يتجمعوا آخر النهار للعودة إلى غزة، وكانوا أحياناً يبيتون هناك في قرى المثلث وبئر السبع، وكان له دور كبير في تأسيس الحركة الإسلامية في تلك المناطق (130) .
خامساً : الفقه الإسلامي :
إن من يجالس الشيخ – رحمه الله – سرعان ما يخرج بنتيجة مفادها أنه يمتلك قدرات واسعة وأفقاً كبيراً، وإمكانات علمية في شتى العلوم، ومن بينها الفقه الإسلامي، وهو ما جعل دعوته وتأثيره يكتسب حيوية في مخيمات ومدن قطاع غزة(131) ، وقد اهتم الشيخ بمختلف جوانب الفقه الإسلامي فلم يقتصر على أحكام العبادات بل تعداه لما سواه من فقه الأطعمة والأشربة وفقه العقوبات وفقه الجهاد وغير ذلك ، مما مكنه أن يكون مرجعاً للناس في شتى الجوانب المعرفية ومن بينها الفقه، وأن ينجح في القضاء وفض النزاعات بين الخصماء في مختلف المسائل، حيث كان "يفصل في القضايا كالزواج والميراث والطلاق والأرض والمشاكل التي تقع بين الجيران وفي كل ما يتنازع الناس فيه ... فيفصل بينهم بما يرضي الله تعالى"(132) ، كما كان الشيخ مرجعاً للناس في حريته ، كان كذلك مرجعاً فقهياً لمن حوله في الأسر(133) .
حدثنا عبد الرحمن تمراز : " كان الشيخ رجل دعوة لا يسأل في شيء إلا وأجاب ، ونادراً ما كان يتوقف اللهم إلا إذا لا يعرف . وعندها يرجع إلى المراجع ، وكان بعد الدرس يفسح المجال للأسئلة الفقهية والسياسية وغيرها فكان يمتاز بالفقه والحنكة وتوصيل الإجابة بالأسلوب المناسب "(134) . كما أن قراءته في كتاب فقه السنة لسيد سابق والذي كان منهجاً في أسر الإخوان المسلمين(135) وكتاب المجموع في الفقه الشافعي للنووي واللذين يشملان مختلف أبواب الفقه ، حتى إنه كان يلخص بعض الفقرات من كتاب المجموع بيده رغم ما بها من ضعف ورغم تذبذب خطه في الكتابة كل ذلك على سعة فقهه وشموله(136) .
ومن النماذج التي تعكس مدى فقه الشيخ ما يأتي :
1) فقه العبادات :
ومن أمثلة فقهه في هذا الجانب :
أ- حدثنا فؤاد الشيخ سلامة : " قمت بتوضئته ذات يوم فمسحت الماء على لحيته فطلب مني الإعادة ، قائلاً : خلل الماء في اللحية ، وهذا يؤكد حرصه على الإتيان بهذه السنة وتعليمه لي ، حيث إنني لم أكن أعرف هذه المعلومة من قبل "(137) .
ب- حدثنا عبد الرحمن تمراز : " عندما أقوم بتوضيئه كان يقول لي : احرص على وصول الماء حول الأنف وكذلك فوق المرفق ، كي يصل الماء للعضو كاملاً ، مع الدلك إضافة إلى غسل الكفين مع اليد إلى المرفق ، لأن ذلك ركن لا ينبغي أن يؤتى به دون الكف ، وكان يحرص على تخليل الأصابع واللحية "(138) .
ج- حدثنا هاني حلس(139) : " صليت ذات يوم الفجر إماماً ، فلم أقنت فلما فرغت من الصلاة قال الشيخ : يا بني لمَ لم تقنت ؟ فقلت إنما أقنت في النوازل فقال : يا بني تريد نوازل أكثر مما نحن فيه ، ثم قال : لقد قنت في كل ركعتين من صلاة القيام ، وبعد ثلاثة أيام وكان يوم جمعة صليت الفجر إماماً ، فقال الشيخ – عقب الصلاة – يا بني هات الكرسي واجلس بجواري ثم قال لي : أنت على أي مذهب فقلت : الشافعي ، فقال : لمَ لم تقرأ سورتي السجدة والإنسان واليوم الجمعة وهذا مذهب الإمام الشافعي " .
د- حدثنا الدكتور أحمد شويدح(140) : " لقد كان الشيخ أحمد ياسين رحمه الله يثق بي في المجال الفقهي ، لذا كان يعود إلي بكثير من الأسئلة الفقهية ومن ذلك فقه العبادات ، وأذكر أنه سألني عقب اختلاف بين الإخوة في مسجد المجمع الإسلامي حول صحة الصلاة على السجاد الموشوم بالنقوش والصلبان(141) ، وبعد الاطلاع على الجواب جاء إلى الجامعة الإسلامية ، وابتسم طويلاً مبدياً إعجابه من الجواب لأنه يرضي جميع الأطراف تحت غطاء شرعي ، وحسبت حينها أن الجواب وافق رأيه " .
2) فقه الأسرة والقضاء والبيوع :
اتسعت ثقافة الشيخ لأبواب الفقه المتعلقة بفقه الأسرة والقضاء والبيوع بشكل يؤكد عظيم فقهه الذي أهله لخدمة دعوته .
حدثنا الدكتور أحمد شويدح: "إن أسئلة الشيخ لم تقتصر على فقه العبادات بل امتدت لتشمل أبواب الفقه الإسلامي الأخرى ، حيث كان يسأل في الأحوال الشخصية فيما يتعلق بالزواج والطلاق والميراث والوصية، وكان يسأل في القضاء وطرق الإثبات فيما يتعلق بمشاكل الناس من معاملات ، وسألني في فقه البيوع فيما يتعلق بالبيع والشراء وأحكامها ، ومن خلال أسئلته ومناقشته لي كنت أشعر أنه عالم متخصص في الفقه الإسلامي من حيث صورة المسألة فإن كانت خلافية أجده يعرف سبب الخلاف وآراء الفقهاء وأدلتهم ، وترجيحه لرأي فقهي عن سبب، سواء كان لقوة الدليل أو لمصلحة عامة الناس ، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي، لماذا سؤالي إذن ؟! وكنت أرى أنه للتأكد ، أو ربما يريد بسؤاله أن يقف على الجديد "(142) .
ولقد جاءته مشكلة ذات مرة ويترتب على حلها مسألة فقهية ، فطرح المسألة للنقاش وفي نهاية الحديث ذكر الشيخ أنه يميل إلى إجابة ما ، وكلفني بأن أذهب للشيخ محمد قوصة لسؤاله ، وبعد سؤال الشيخ محمد قوصة عُدت إليه وكانت الإجابة نفس ما مال إليه الشيخ(143) .
3) فقه الأطعمة والأشربة :
اهتم الشيخ بمعرفة الأحكام المتعلقة بالأطعمة والأشربة وهو ما برز في تأليفه لكتابه الوحيد والذي حمل عنوان : البيرة في الميزان ، وكذلك قراءته في كتب الفقه حول هذه المسائل، وهو ما يمكن توضيحه في نقطتين ، هما :
أ- كتاب البيرة في الميزان : ويقع هذا الكتاب في واحد وثلاثين صفحة ، تناول فيها الشيخ حكم البيرة والخمور وبين أن تغير أسمائها لا يسقط حكم الحرمة ، وأن تناول القليل كالكثير منه في الحرمة ، وأنه لا يجوز استعمال الخمور كدواء وهو ما أكدت النصوص الشرعية التي أكدت حرمة التداوي بما حرم الله عز وجل، مستثنياً بذلك ما يخضع لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، والتي تجيز التداوي بالحرام شريطة ألا يقوم دواء مقامه وأن يعلم يقيناً أن به شفاء ، وأنه بالظن لا يجوز استعماله. وكذلك ناقش الشيخ في كتابه حكم استخدام الكحول في الأدوية ، وحرمة صناعة الخمور في البلاد الإسلامية والاتجار فيها مع الكفار ، أو إهدائها أو قبولها هدية من الكفار ، كذلك فصل الحديث حول الأضرار المترتبة على تعاطي الخمور ، وذلك في ضوء نظرة طبية فاحصة ، ليختتم كتابه بنصيحة لأولي الأمر من الآباء والأمهات والتجار والمسلمين والناس عموماً مذكراً إياهم بالوقفة والحساب بين يدي الله يوم القيامة ، كما ويلاحظ في الكتاب أن الشيخ أكثر من الاستدلالات من الكتاب والسنة والتي لها عظيم الدلالة على فقه الشيخ إذ وضع كل دليلٍ في موضعه المناسب ليدعم ما أشار إليه من أحكام فقهية(144) . وقد بلغ التزام الشيخ وفقهه بتحريم المخدرات من أفيون وحشيش وغيرها أن يرفض أن يستخدمها في الحصول على السلاح ، وذلك مقابل تقديمها للمدمنين اليهود(145) .
ب- لقد عرف الشيخ بمطالعته في كتب الفقه وكان من بين ذلك حبه قراءة المسائل الفقهية فيما يتعلق بالأطعمة ، وكان إذا أعجبته فقرة فإنه يقرؤها على من حوله ويقوم بشرحها وتوضيح معانيها .
يقول رائد بلبول : " وما زلت أذكر مما قرأ عليّ مسألة أكل الميتة وطعام الغير ونصها في المجموع (9/36) في كتاب الأطعمة ، وإن وجد الميتة وطعام الغير وصاحبه غائب ففيه وجهان :
أحدهما : أنه يأكل الطعام لأنه طاهر فكان أولى .
والثاني : يأكل الميتة لأن أكل الميتة ثبت بالنص، وطعام الغير ثبت بالاجتهاد، فقدِّم أكل الميتة عليه، ولأن المنع من أكل الميتة لحق الله سبحانه وتعالى، والمنع من طعام الغير لحق الآدمي، وحقوق الله تعالى مبنية على التسهيل، وحقوق الآدمي مبنية على التشديد"(146).
4) الفقه بقانون العقوبات :
إن من أسمى أماني الشيخ أن يطهر الأرض الإسلامية من الاحتلال، وأن يقيم نظام الإسلام وحكم الله عليه، وقد كانت هذه الأمنية مبنية على أسس من المعرفة والوعي الكامل لطبيعة هذا النظام الإسلامي وما يتضمنه من قانون العقوبات والتشريعات التي ينبغي أن تسود فيه.
وقد بين الشيخ في مقال له نشر على موقع رابطة علماء فلسطين على شبكة الإنترنت نظرته إلى قانون العقوبات ، حيث بين فيه الغرض من العقوبة ، وهو الحد من الجريمة ، وحفظ أمن المجتمع ، وهو ما تتفق عليه الشريعة مع القوانين الوضعية ، ثم ذكر الشيخ خمس نقاط – على سبيل المثال لا الحصر – حول اختلاف هذا القانون بين الشريعة والقوانين الوضعية ، كتحديد الجريمة وشمول قانون العقوبات في الشريعة لكل ما يمس الدين والقيم الأخلاقية ثم فلسفة العقوبة ، وما بنيت عليه من أسس إضافة لاتصافها بالتوازن والعدالة والمساواة فالكل أمام القانون سواء ، ثم بين الشيخ مخالفة القانون الفلسطيني للشريعة الإسلامية ، حيث تقسم الشريعة الجرائم إلى قسمين :
الأول : جرائم الحدود والقصاص وكلاهما مقدرة من قبل الشرع ، وأن جرائم الحدود لا حق لأحد في إسقاط عقوبتها بحال من الأحوال ، وأما جرائم القصاص فلصاحب الحق إسقاط العقوبة أو استبدالها ، وهذا القسم مخالف للشريعة مخالفة جوهرية ، فما عدته الشريعة جريمة لم يعده القانون جريمة ، أو نظر إليه نظرة مخالفة للشريعة ورتب على ذلك أحكاماً تخالف الشرع ، ومن ذلك أن القانون جعل الزنا من البالغين فوق الثامنة عشر عاماً برضاهم جريمة يسيرة ، وقدر لها عقوبة مخففة ، إضافة إلى أن العقوبة المقدرة لجريمة الزنا في كل أحوالها مخالفة للشرع ، كما أنه لا يحق لصاحب الحق إسقاط حقه في كل الجرائم المنبثقة عن هذا القسم .
الثاني : جرائم التعازير وهي الجرائم التي لم يقدر المشرع عقوبة محددة ، بل مرجعها للحاكم وهنا لا يوجد اختلاف عميق بين الشريعة والقانون الفلسطيني وإن كان الخلاف في الفلسفة التي ينطلق منها القانون بعيداً عن فلسفة الشريعة ، ثم ختم الشيخ كلمته بقيام الشريعة الإسلامية على تحقيق حقوق الفرد على الدولة من رعاية وحماية من الفقر والجوع وتربية على الفضيلة والقيم ، وهو ما لا وجود له في القانون الفلسطيني(147) .
والمتأمل في هذا المقال يرى أنه قد شمل معظم جوانب فقه العقوبات بطريقة مختصة، وهو ما يدل على ثقافة الشيخ العميقة ، وإطلاعه الواسع في معرفة فقه العقوبات في الشريعة الإسلامية والقانون الفلسطيني الوضعي ، لكن هناك بعض النقاط التفصيلية التي لم يذكرها الشيخ، ولعل ذلك من باب الاختصار وهو ما يقتضيه سياق المقال ، ومن تلك النقاط التفصيلية ما قرره المشرع من تغليظ العقوبة على العود إلى الجريمة والاعتياد عليها ، وكالفرق بين الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الجنائي الوضعي في حل مشكلة العود ولو بعبارات بسيطة قليلة ، ومع ذلك فإن هذا الاختصار لا يقلل من القيمة العلمية الكبيرة التي تضمنها المقال في فقه العقوبات(148) .
المطلب الثاني : الثقافة اللغوية :
إن اللغة العربية تكتسب أهميتها من كونها لغة القرآن ثم لأهميتها في التخاطب مع الآخرين إذ هي وعاء الفكر ، فالداعية يستطيع من خلالها أن يعبر عما يريد من مبادئ وأفكار بطريقة سليمة وصحيحة خاصة إذا ما تصدر العمل الإسلامي وكان من القادة ، فضلاً عن أن يكون إمامهم كما كان شأن الشيخ أحمد ياسين ، فلا بد من الفهم اللغوي اللازم لتقويم اللسان حتى تصل الفكرة التي يريدها للآخرين بطريقة صحيحة .
وقد ساهمت قدرات الشيخ الذاتية في أن يكون مدرساً ناجحاً للغة العربية إضافة للتربية الدينية(149)، وقد كان الشيخ يعطي دروس تقوية في هذا الجانب بعد انتهاء دوام عمله في المدرسة تطوعاً(150)، وكان رحمه الله لا يبخل على أتباعه في إعطائهم دروساً في قواعد اللغة العربية إذا ما شعر أن لديهم ضعفاً، خاصة في مرحلة اعتقاله حيث يملك الوقت الكافي لذلك(151).
ولم تقتصر ثقافة الشيخ وفهمه للغة العربية على جانب النحو والصرف فحسب ، بل كان بليغاً في تعبيراته بحيث وصفه بعض أتباعه بأن كلماته رغم قلتها إلا أنها تتضمن معاني عظيمة وهامة .
يقول الأستاذ داود أبو خاطر(152) : " إن الشيخ معروف بأنه قليل الكلام ، كثير الاستماع يتكلم بجوامع الكلم " .
وقد كان الشيخ يستشهد في بعض الأحيان ببعض أبيات من الشعر ، كما كان يقرضه كذلك في بعض الأحيان .
ولما كان الشيخ معتقلاً ، وجاء موعد زيارته من قبل زوجه (أم محمد)، فخرج معه مرافقه وعرض عليه أن يرفعه أعلى الحاجز الذي يحول بينه وبينها ليراها ، فوافق الشيخ ، ولما تم له ذلك وانتهت الزيارة ، وعادوا إلى غرفتهم في السجن ، طلب من مرافقه أن يكتب ما سيمليه عليه من الشعر ، فكانت هذه الأبيات :
من الشُبّاك ألقيت شباكي
وطاردت الغزال بلا افتراق
وعانيت الهوى نظراً إليه
فما شافيت نفسي بالعناق
ألا يا لائمي عذراً فإني
ألاقي في الهوى ما لا تلاقي
هي الأوطان نحميها بسيف
ولا عزٌّ لها دون اتفاق
نوحد صفنا أبداً بعزمٍ
ولا صف يوحد بالشقاق
فلا تهنوا بني قومي فإنا
ليوم النصر نرنو باشتياق
فلسطين الغزالة إن قلبي
لها يهفو وترقبها المآقي(153)
وتعكس الأبيات السابقة الحس المرهف ، والعاطفة الشعورية الصادقة التي عاشها الشيخ خلال تلك الأبيات، والقدرة الفائقة والبليغة في التعبير عما جاش في صدره ، فكانت تلك الأبيات.
حدثنا الدكتور عبد الخالق العف(154) : " تتكثف المشاعر الإنسانية المرهفة في هذا السياق الوجداني الأثير ، في لغة عذبة سلسة رقراقة يتبدى فيها ألقُ صدق الأداء وبساطة التعبير ووضوح الصورة ، وقد جمع الشيخ الإمام فيها بين دِلِّ المتعشقين ، ورزانة الرساليين ، لذلك تحققت الاستجابة الانفعالية ، بالتجربة الشعرية لدى المبدع والمتلقي ، كما يلاحظ سلامة الوزن العروضي فهذا المقطع نظم على بحر الوافر الغنائي متموج النغم ، وعلى روى القاف المطلق بالكسر والمردوف بحرف المد بالألف وقد تساوق ذلك مع انتشار صوت المد بالألف في هذا المقطع مما يلائم طبيعة التجربة الاعتقالية خاصة لحظة تأجج المشاعر وقت الزيارة .
واللافت أيضاً سلامة اللغة نحواً وصرفاً ودلالة وهذا يدل على امتلاك الشيخ لناصية اللغة العربية " .
ولما كتب له أحد إخوانه وهو ناجي سنقرط قصيدة يناجيه فيها، رد عليه الشيخ بقصيدة ضمنها أجمل معاني الوفاء وألطفها ، معبراً عن أصدق معاني الأخوة ، بقصيدة من ثماني أبيات كان مطلعها(155) :
يا خير من عرف الفؤاد وكلما
وأبر خلٍّ للصديق وأرحما
ناجي رعاك الله يا إرث السنا
فأبوك في الآفاق أضحى معلما
هذي يدي ممدودة لوداعكم
والقلب مني ذاهل قد أُسقما
يا طيرُ حلق في ربا أوطاننا
لا تنسنا بالله وأنعم واسلما
فالله أسأل أن يفك إساركم
ويلم شمل الأهل يا أسد الحمى
والله يجمعنا بساحة عدله
وتضيءُ شمسُ الحقّ ليلاً أظلما
فنقيم للإسلام دولة عزةٍ
ويسود نور الله أرضي والسما
حدثنا الدكتور عبد الخالق العف(156) – معلقاً على القصيدة السابقة - : " ما أجمل أن تتعانق الأرواح والأقلام التي سقيت بمداد المعاناة والأسر ، وتقدم لنا هذه الروائع الشعرية المؤثرة الصادقة، التي تهز وجدان المتلقي على بساطتها ووضوحها وهذه رسالة الشعر الحقيقية.
لم يجنح الشاعر الشهيد الإمام إلى الغموض والخيال والرمزية ، كعادة الشعراء ؛ لأن الموقف لا يقتضي ذلك وهو يودع أخاً في الله توشك عيناه أن ترى شمس الحرية ، بالإضافة إلى أن الشيخ لم يصنف نفسه شاعراً يوما ما .
فالقصيدة جاءت على البحر الكامل وبروي الميم وألف الإطلاق ، وما أروع أن تنتهي القصيدة بألف الإطلاق في تجربة إطلاق أسير ، كما يلاحظ استخدام أساليب الإنشاء بين النداء والاستفهام والقسم والأمر والنهي ، وهذه الأساليب ضرورية في شد انتباه المتلقي " .
أما من حيث معرفة الشيخ باللغات الأخرى ، فقد عرف الشيخ بميله لتعلم اللغة الإنجليزية حيث تعرف عليها منذ صباه(157) ، ثم خلال الدراسة في مراحل التعليم ، وازداد ظهوراً حينما التحق بجامعة عين شمس بقسم اللغة الإنجليزية ليدرس عاماً كاملاً بنجاح ولولا الظروف التي حالت دون إكمال دراسته لكان من أهل الاختصاص في هذا الجانب(158) ، ومع ذلك فإنه يمكن القول بأنه يستطيع التحدث والتعبير عن فكرته بهذه اللغة ، بالإضافة إلى معرفته ببعض الكلمات الفرنسية التي عرفها منذ صباه أيضاً(159) .
المطلب الثالث : الثقافة الإنسانية :
ويقصد بها الإلمام بأصول ما يعرف الآن باسم العلوم الإنسانية كالتاريخ والاقتصاد والأخلاق وغيرها(160) ، وسيتم الحديث عن ثقافة الشيخ التاريخية والاقتصادية كأمثلة فقط للثقافة الإنسانية.
أولاً : الثقافة التاريخية :
لقد تضمنت آيات القرآن الكريم كثيراً من الأحداث التاريخية التي مرت بالأقوام السابقة، والتي ذكرها الله عز وجل من أجل أن تستفيد الأمة الإسلامية من تجاربهم ويأخذوا منهم العبرة والعظة كي يحققـوا النفـع لأنفسهم في الدنيا والآخرة . ومن ذلك قوله تعالى بعد قصة ثمود : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (161) .
وقد بين الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله – أهمية دراسة التاريخ الماضي للاستفادة من تجارب السابقين ، وتدوين التاريخ الحاضر بتجرد وأمانة كي لا تحرم الأجيال القادمة من الاستفادة من تجارب هذا الجيل .
يقول الشيخ : " والأمم الحية تسجل تاريخها ، بكل ما فيه من إيجابيات ومن سلبيات، وكيف عالجت تلك السلبيات ، وذلك لتستفيد أجيالها فتعمل على تعزيز الإيجابيات ، وتتحاشى الوقوع في السلبيات ما أمكن . وحياة الإنسان كلها تجارب ، وحياة الإنسان محدودة بالسنين، فعمر الفرد الفاني محدود ، وأيامه على الأرض معدودة ، فإن أهمل تجارب الذين سبقوه وذهب ليجرب كل شيء بنفسه ، تنتهي أيامه ، ولم يحقق تقدماً أو تطوراً أو نجاحاً ، وإن استفاد من تجارب الآخرين ممن يعايشهم ، وممن عاشوا قبله ، وفّر على نفسه الكثير الكثير من الجهد والمعاناة ، والتخبط الذي قد يقوده إلى الانحراف والانزلاق ، ومن هنا كان قدر الله أن يرسل للناس رسلاً ، يعيدونهم إلى منهج الله ليصوغوا حياتهم على أساسه ، إلى أن جاءهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة .
ومن هنا لا بد من أن ندرك أهمية دراسة التاريخ الماضي من مصادره الموثوقة ، وأن ندوِّن التاريخ الحاضر بأمانة وتجرد وموضوعية ، لكي تستفيد منه الأجيال القادمة ، كما استفدنا من تاريخ الأجيال السابقة"(162) .
ويلاحظ مما سبق عمق النظرة للشيخ نحو أهمية قراءة التاريخ وتدوينه ، إذ الأمم والشعوب لا يمكن أن ترقى دون استفادة وقراءة جادة هادفة لتجارب المعاصرين والسابقين ، ولعل ما دفع الشيخ ليسجل شهادته على عصره ، عبر قناة الجزيرة الفضائية في ثماني حلقات بثت خلال شهري أبريل ومايو عام 1999(163) وكذلك المقابلة الخاصة التي أجراها معه قسم التاريخ الشفوي بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية وهو من عدة حلقات تأكيد على فقهه بأهمية الثقافة التاريخية ودورها في حياة الأفراد والشعوب .
وقد عرف الشيخ بشغفه لقراءة المصادر التاريخية مثل كتاب البداية والنهاية لابن كثير وهو سلسلة من عشرين مجلداً ، وقد كان الشيخ يطلب ممن حوله أن يمتحنه فيه ، فيسألونه عن مقولة أو قصيدة أو فكرة من الكتاب ، فكان يخبرهم بمكان وجودها ، وأنها في مجلد كذا وصفحة كذا ، مما يعكس عظيم فقهه ، واستيعابه لما يقرأ(164) .
ثانياً : الثقافة الاقتصادية :
لم تقتصر ثقافة الشيخ على معرفة الاقتصاد الإسلامي فحسب ، بل امتلك معرفة واعية للاقتصاد الرأسمالي والشيوعي .
حدثنا الأستاذ إبراهيم بحر(165) : " لقد ألقى الشيخ أحمد ياسين محاضرة في الجامعة الإسلامية عام 1982م أو 1983م، أمام جمع غفير من الطلاب والمحاضرين، وكانت بعنوان "الاقتصاد ورفاهية الإنسان في الإسلام" وقد استمرت المحاضرة نحواً من ساعتين ، حيث تكلم الشيخ فيها عن الاقتصاد الإسلامي، وقارنه مع الاقتصاد الرأسمالي والشيوعي، وأكثر من الاستدلالات بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وناقش أقوال أقطاب الفكر الماركسي كماركس وإنجلز والرأسمالي كآدم سميث، وأبطلها بالدليل المقنع، وهو ما دفع بعض الحاضرين من أنصار الأفكار الرأسمالية والماركسية أن يقبلوه بعد انتهاء المحاضرة، ويكثروا له من التصفيق " .
المطلب الرابع : الثقافة الواقعية :
إن العمل الإسلامي كي يحقق أعلى درجات النجاح فإنه يستلزم ممن تصدر له من الدعاة المخلصين العاملين أن يكونوا على وعي ، ومعرفة كبيرة بمجموع الأفكار والاتجاهات المعاصرة ، والقوى الدولية خاصة تلك التي تمثل عقبة كأداء أمام المد الإسلامي المتنامي ، وذلك كي يكونوا على بصيرة مما يحاك ضدهم ، كي يرسموا السياسات الداخلية مع كافة شرائح المجتمع على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم ، وكذلك السياسات الخارجية بما يتفق وشريعة الإسلام ، وبما يحقق مصلحة الدعوة الإسلامية ، ويؤمن لها وجودها ومستقبلها .
ويمكن إبراز هذه الثقافة الواقعية في ضوء مواقف الشيخ المختلفة محلياً وإقليمياً وعالمياً.
أولاً : موقفه من التيارات الفكرية المناوئة للإسلام :
1) موقفه من التيار الشيوعي والقومي :
نجح الشيخ أحمد ياسين بوصفه رائد العمل الإسلامي في فلسطين ، في امتلاك قسط وافر من الثقافة الواقعية ، فعرف طبيعة الأفكار السائدة في عصره لكي يحصن أتباعه ومريديه ، من الانخراط في تلك التيارات المخالفة للإسلام ، وهو بذلك يحقق تعاليم القرآن الكريم في دعوته لذلك ، قال تعالى : وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(166)، خاصة وأن عصر تولي الشيخ لقيادة جماعة الإخوان المسلمين كان يشهد انتشاراً واسعاً للفكر الشيوعي والقومي ، وبروز الحركات الوطنية العلمانية الأخرى(167) ، مما حدا بالشيخ أن يفهم طبيعة تلك الأفكار ومناهجها ومخالفتها وأخطارها على الدعوة الإسلامية .
لقد أيقن الشيخ بأن الفكر الذي لا يستمد من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن مصيره الاندثار والزوال ، قال تعالى : فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ(168)، لذلك أكد أن الفكر الشيوعي القائم على الإلحاد وإنكار وجود الله عز وجل، أنه سيندثر وسيزول ، وهو ما تحقق بالفعل ، وما شهد الواقع العربي والفلسطيني له.
يقول الشيخ : " إن الشيوعيين هم نبات ميت في أرض ميتة لا تنبت "(169) ، وقد ناظر الشيخ – رحمه الله – بعض الشيوعيين ، وقد وفقه الله عز وجل بسرعة بديهته وسعة علمه فأثبت عجز فكرتهم ، وضعف منهجهم وبين في مقابل ذلك إثبات وجود الله عز وجل وعظيم صفاته .
يقول الدكتور نسيم ياسين(170) : " ذكر لي الشيخ مرة في أثناء حديثي معه موقفاً في السبعينات ناظر فيه أحد الشيوعيين، وكان قد ظهر أمرهم في غزة في ذلك الوقت ، فقال لي: بينما نحن في جلسة علمية في لقاء عام إذ قام أحد الشيوعيين وقال : يا شيخ هل يقدر ربك أن يخرجني خارج ملكه ؟! ففطن الشيخ بسرعة بديهته ، أن هذا الملحد يريد أن يحرجه، فإن قال : يقدر فقد وقع في محظور وهو إثبات أن هناك ملكاً غير ملك الله ، وإن قال : لا يقدر فقد أثبت عجز الله تعالى ، فقال له الشيخ : للإجابة على سؤالك أريدك أن تستجيب لي ، قال وماذا أفعل ؟ قال الشيخ : اخلع ملابسك ؟! قال الرجل : يا شيخ !! قال : هل تقدر أم لا؟! فبهت الرجل أمام جميع الحاضرين .. ثم تكلم الشيخ في إثبات وجود الله عز وجل وعظيم خلقه وكمال صفاته " .
وعلى الرغم من استناد القوميين إلى دعم النظام الناصري في مصر – نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر – وتأييده لهم ، وانتشار الشيوعيين آنذاك ، إلا أن الشيخ أحمد ياسين وجماعة الإخوان المسلمين كانوا مع قلتهم وملاحقة النظام المصري لهم يتصدون لتلك التيارات بالدعاية وكشف زيف أفكارهم ، مستخدمين مع ذلك الحكمة في التعامل وتجنب الصدام قدر جهدهم(171) .
2) موقفه من العلمانية والسلطة الفلسطينية :
تباين موقف الشيخ مع القوى العلمانية ممثلة في حركة فتح ، حيث ابتدأ رفضه لنهج الحركة من الناحية السياسية ، إذ رفض عرضاً قدمته الحركة له للانضمام إليها ، وذلك مستنداً إلى رؤيته الواقعية لحالة الضعف التي يعيشها العالم العربي ، حيث قال الشيخ مجيباً عن سبب رفضه الانضمام لحركة فتح ذات الخط العلماني : " رفضت لسبب واحد فقط ، فأنا أعلم أن الوطن العربي آنذاك ليس في حالة قوة لمواجهة إسرائيل ، وأن يتم العمل من داخل البلاد العربية ضد إسرائيل ، يعني هذا الأمر في ذلك الوقت أنه سوف يفتح الباب لإسرائيل لتحتل أجزاءً جديدة من الوطن العربي ، وسوف لا يحل مشكلتنا ، ولا يمكن أن نستطيع أن نحرر الأرض المحتلة بالوضع الذي كان قائماً آنذاك ، بل سنخسر أرضاً جديدة لصالح إسرائيل وهذا ما منعني من أن أشارك في ذلك العمل في ذلك الوقت "(172) .
ويلاحظ من كلام الشيخ أن السبب في رفضه آنذاك كان مرتهناً بالفترة الزمنية التي اقترنت بانطلاقة حركة فتح، وهذا يعني أن هناك أسباب أخرى تستوجب الرفض وهو اختيار حركة فتح للنهج العلماني، ولعل عدم إفصاح الشيخ عن ذلك يرجع إلى أن حركة فتح لم تعلن النهج العلماني مع انطلاقتها وإنما كانت حركة تحرر وطني تشحذ همم الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه ، وجل قادتها كانوا في جماعة الإخوان المسلمين(173) .
ولما تبين للشيخ منهجها العلماني اللاديني ، شجب هذا النهج الذي تسلكه المنظمة ، وبين أن آمال الفلسطينيين لا يمكن أن تتحقق إلا بمنهج الإسلام، وبإقامة الدولة الإسلامية(174).
إن المرحلة التي واكبت نشأة الجامعة الإسلامية بغزة ، وما واكبها من محاولات العلمنة ونشر الاختلاط ، والعمل على إدخال بعض العناصر اليسارية والمسيحية لعلمنتها ، وحرفها عن مسارها الإسلامي عكست موقف الشيخ الواضح والرافض للنهج العلماني ، والذي بلغ مداه وهو الصراع بين التيار الإسلامي والعلماني(175) ، إلا أن ذلك كان استثناءً وليس أصلاً ، إذ إن الشعب الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال وهذا يستلزم الوحدة والاتفاق وليس الفرقة والتناحر والاختلاف ، وهو ما أكد عليه الشيخ مما يدلل سعة أفقه وعظيم وعيه.
يقول الشيخ : " إن علاقتنا دائماً بكل الفصائل الفلسطينية علاقة طيبة وجيدة ، وعلى رأسها فتح "(176) .
وحينما تقلدت حركة فتح زمام السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو عام 1993م ، رغم ما يعيه الشيخ من سلبيات جسيمة تترتب على هذا الاتفاق ومنها تفتيت وحدة الشعب الفلسطيني ، لذا أكد الشيخ أنه والسلطة في خندق واحد ، وأن الحوار والتفاهم هو الناظم في العلاقات بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية ، وأن لغة العنف في التعامل ليس من ضمن قاموس الحركة أو مبادئها ، وأن توحد كافة شرائح المجتمع الفلسطيني في خندق واحد ضد العدو الإسرائيلي هو منهج لا يصح التخلي عنه(177) ، وأن أي خلاف أو اختلاف لا بد أن يعالج بحكمة بالغة .
حدثنا الأستاذ وائل الزرد(178) : " سألت الشيخ في الأيام الأخيرة – قبل استشهاده – عن موقفه من السلطة الفلسطينية ، وهل سيؤدي هذا الخلاف الذي بين حماس والسلطة إلى صدام؟ فأجاب الشيخ : سنناقشهم ونقاومهم ولكن سنلبس قفازات من حرير " .
3) موقفه من الشيعة :
إن هناك خلافاً واضحاً بين ما يعتقده الشيعة وخاصة الاثنى عشرية ذوو التواجد الكبير في لبنان وإيران والعراق ، وبين العقيدة التي يعتقدها الشيخ ، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة ، ومع ذلك كان للشيخ من الشيعة موقف ديني وآخر سياسي ، وهو كما يأتي :
أ- الموقف الديني :
كان الشيخ على وعي كامل بالانحرافات الشيعية من الناحية الدينية والعقدية ، فقد سئل الشيخ حول قوله تعالى : أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(179) عما إذا كانت تنطبق هذه الآية على حزب الله الشيعي اللبناني ؟ أجاب الشيخ : " لا أعتقد .. إن حزب الله في لبنان هو حزب شيعي لا يلتزم بأحكام كتاب الله وسنة رسوله .. والمسلمون سنة وليسوا شيعة .. وأنا أعتقد بأن حزب الله الصحيح هو الذي يلتزم بأحكام كتاب الله وسنة رسوله ، هذا إضافة إلى الاختلاف الكبير بين السنة والشيعة .. إن حزب الله في لبنان لا يمثلنا ولا يمثل المسلمين في لبنان ، هو بالتالي لا يمثل إلا نفسه "(180) .
وبعد انتصار ثورة الإمام الخميني في إيران ، وظهور العديد من الممارسات التي لا يرضاها الإسلام الحنيف ، عبر الشيخ عن موقفه بقوله : " إن ما يفعله الإيرانيون ليس كدولة إسلامية "(181) .
كما حصل خلاف بين أبناء حركته وبين أتباع حركة الجهاد الإسلامي في غزة وكانت تسمى آنذاك " الجماعة الإسلامية " في عام 1982م وكان سبب الخلاف هو أن الجماعة الإسلامية تكثر من الثناء على الخميني والثورة الإسلامية في إيران ، وتريد أن تأخذها نمطاً وقدوة للعمل الفلسطيني ، فأصبح دعاتها يتحدثون بذلك في المساجد ، فرفض أتباع الحركة الإسلامية الحديث بهذا الأسلوب لا سيما وأننا في فلسطين أهل سنة ، وقد حصل لقاء بين قادة الجماعة الإسلامية وبين الشيخ في أحد المنازل في مدينة غزة وكان الدكتور نسيم قد حضره ، وقد ذكر أن اللقاء انتهى على ما طرحـه الشيخ من عـدم الحديث من قبل الطرفين على الشيعة لا مدحاً ولا ذماً، وذلك لما تمر به قضيتنا وحتى لا يستفيد أعداؤنا من هذا التفرق(182) .
ب- الموقف السياسي :
لقد كان الشيخ رجلاً سياسياً يمكن وصفه بأنه محنك سياسي ، إذ فرق بين خلافه المذهبي والديني مع الآخرين وبين موقفه السياسي منهم ، خاصة وأنه قد كثر أعداء الإسلام في عصره وتنوعت ألسنتهم ومشاربهم ، إذ إعلان الحرب على الجميع يعني بالضرورة انكشاف الحركة الإسلامية ، وتكاتف جهود القاصي والداني لاجتثاثها ، لذا لا بد من كسب كل صوت يتفق مع ما يطرحه الشيخ حتى وإن كان ذلك على الصعيد السياسي المجرد .
لقد كان الشيخ يعد حزب الله اللبناني حزباً صديقاً ، ويسَرّ لما يقوم به من أعمال قتالية ضد إسرائيل ، ولما سئل عن ذلك ، أجاب الشيخ : " عدو عدوي صديقي ، وصديق عدوي عدوي "(183) .
ومع اختلافه المذهبي مع إيران ، إلا أنه لم يرفض صداقتها ، وشكرها على حسن مواقفها الداعمة والمؤيـدة للقضية الفلسطينية(184) ، ولم يقتصر هذا الموقف على إيران وحزب الله فقط بل جعله الشيخ ناظماً لموقفه مع كل دول وشعوب العالم .
يقول الشيخ : " نحن نمد أيدينا لكل العالم ، وسنتعامل مع كل العالم مع من يقف بجانب قضيتنا وينصر حقنا إن شاء الله تعالى "(185) .
4) موقفه من البهائية :
إن البهائية من الفرق الباطنية المعاصرة ، التي ترى من مؤسسها الميرزا حسين علي إلهاً يعبد من دون الله عز وجل ، وأن الله قد حل في جسده ، وتتخذ لها كتباً مقدسة غير القرآن ، وتعاليم وشرائع غير تعاليم وتشريعات الإسلام ، فضلاً عن ارتباطاتها المشبوهة مع القوى الاستعمارية المختلفة وفي مقدمتها إسرائيل(186) .
وقد أقبل مستشرق سويدي يلبس ثوب الصوفية ، ويعمم رأسه بعمامة خضراء ، ويضع في رقبته مسبحة تتدلى حتى وسط بطنه ! مع أحد الأدعياء من حملة الفكر البهائي في قطاع غزة ، وكانت محطتهم الأولى عند الشيخ إبراهيم الخالدي شيخ الطرق الصوفية في القطاع ، والذي اقتصرت ثقافته على الذكر والتسبيح .. وعرض القوم فكرتهم عليه على أنها حركة إسلامية صوفية تريد خدمة الإسلام ، فرحب الشيخ إبراهيم الخالدي بتلك الفكرة وكاد أن يوافق ، لولا تدخل العناية الإلهية بأن جاء الشيخ – رحمه الله – مع بعض مساعديه ، ليحاور ذلك المستشرق ومن معه ويكشف خطتهم ، ويرد على باطلهم ، ثم قام عقب ذلك بفضح أمرهم بين الناس في المساجد وتحذير الناس منهم ، مما أدى إلى فشل خطتهم ، فعادوا من حيث أتوا خاسئين خاسرين(187) .
ثانياً : موقفه من اليهود وإسرائيل :
اتسمت نظرة الشيخ إلى اليهود كأصحاب عقيدة وديانة، وإلى إسرائيل ككيان غاصب محتل للأرض والحق الفلسطيني، بالموضوعية والحيادية فقد أعلن في غير موطن أنه لا عداء ولا صراع مع اليهود كأصحاب ديانة، ولكن العداء والصراع مع من اعتدى على الحق الفلسطيني .
إن الدولة الإسلامية عبر العصور أنصفت اليهود ، ووفرت لهم الحياة الكريمة ، وقدمت لهم الأمن والحماية ، وعاشوا تحت ظلالها ردحاً من الزمان ، دون ظلم لهم أو سلب لحقوقهم ، أو منع من التمتع بحرية التدين والعبادة .
يقول الشيخ : " نحن لا نعاديهم لأنهم يهود ، بل نقول لهم أنتم عشتم معنا في الدولة الإسلامية في جميع جنباتها ، وكان لكم حريتكم الدينية والاقتصادية والمعيشية ، كنتم أهل ذمة نرعاكم ونحميكم ، لكنكم اختلفتم عندما أردتم أن تقيموا كياناً على أرضنا وعلى ترابنا ، وعلى بذور آبائنا ، فكان الاصطدام بيننا . إذن ، نحن لا نقاتلهم لأنهم يهود ، ويمكنهم أن يعيشوا بيننا ، وهم يعيشون في كل الوطن العربي والإسلامي ، فقد شرد اليهود وضربوا في فرنسا فما وجدوا إلا أسبانيا ملجأً لهم ، الدولة الإسلامية ، ولما ضرب المسلمون في أسبانيا وضرب اليهود معنا لم يجدوا ملجأ لهم إلا الهجرة إلى بلاد الشمال الأفريقي في المغرب والجزائر ، كان العالم الإسلامي هو الملجأ الآمن لهم ، في كل ظروف حياتهم ، لم يجدوا منا مذابح ولا اضطهاد ، نحن لا نعاديهم لأنهم يهود ، لكن نعاديهم لأنهم اغتصبوا أرضنا وشردوا شعبنا "(188) ، هذا بالإضافة إلى أهدافهم البعيدة والخطيرة والتي تمتد إلى هدم المسجد الأقصى المبارك ، وبناء الهيكل على أنقاضه أو إلى جواره(189) ، وهو ما يفسر موقف الشيخ في رفضه لإقامة دولتين متجاورتين إحداهما إسرائيلية والأخرى فلسطينية ، حيث قال لمراسل صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية : " إن الحل هو إقامة دولة إسلامية على كامل التراب الفلسطيني يعيش فيها العرب واليهود والمسيحيون تحت قيادة المسلمين "(190) .
ثالثاً : موقف الشيخ من حكومة بريطانيا وأمريكا :
لقد امتدت ثقافة الشيخ إلى فهم حقيقة الموقف الرسمي السلبي لكلٍ من بريطانيا وأمريكا من القضية الفلسطينية ، والإيجابي بالنسبة لإسرائيل ، وهو ما يدفع إلى عدم الثقة بالأطروحات الأمريكية والبريطانية والتي تعد صانعة إسرائيل ، وراعية الوجود الإسرائيلي في المنطقة . يقول الشيخ : " أنا أُحمّل بريطانيا مأساة الشعب الفلسطيني ، لأن بريطانيا هي التي مكنت لإسرائيل من الوجود في فلسطين هي التي مهدت بانتدابها لقيام دولة إسرائيل ، هي التي أعطت اليهود الأرض ، وأعطتهم السلاح ، ومكنت لهم في هذه البلاد ، فهي تتحمل دوراً تاريخياً في مأساة شعبنا الفلسطيني وعليها أن تكفِّر عن هذا الذنب، الذي نفذته ضد الشعب الفلسطيني "(191).
وحول نظرته لمدى ارتباط السياسة البريطانية بالسياسة والقرار الأمريكي، يقول الشيخ: " إن عجلة السياسة البريطانية مرتبطة بعجلة السياسة الأمريكية ، ولا تخرج عنها ، ولقد عرف الناس ما هي السياسة الأمريكية ، عندما يأخذ مجلس الأمن قراراً بمنع الاستيطان والمستوطنات، تقوم أمريكا باستعمال حق الفيتو ، فماذا نريد من أمريكا بعد ذلك ؟ ماذا ستفعل لنا ؟ كل العالم يرفض الاستيطان ويرفض المستوطنات وأمريكا تستعمل حق النقض (الفيتو) "(192) .
إن فهم الشيخ لتلك المواقف والسياسات يعكس سعة ثقافته ، وأن مواقفه كانت قائمة على أرضية ثابتة من الوعي والإدراك والبصيرة النافذة .
المطلب الخامس : الثقافة العامة :
إن مع هذه الثقافة المتميزة لهذا الداعية والتي أشرنا إليها سابقاً نجده على دراية بالثقافة العامة والسائدة في المجتمع بما يخدم الفكرة التي يعمل من أجلها ، وحتى يكون متمشياً مع طبيعة الواقع المعاش ، وبحكم أن الشيخ له علاقات متميزة وخبرات واسعة ، وأنه قائد حركة ربانية وهي حركة حماس كان من الضروري له أن يتميز بفكره وسلوكه ، ليكون ناجحاً في قيادته لحركته ، ناجحاً في دعوته التي قضى حياته كلها من أجلها ، ولبيان الثقافة العامة المتميزة لدى الشيخ أحمد ياسين يمكن الحديث في النقاط الآتية :
أولاً : فهم الشيخ للعرف والعادة :
لا بد للمصلح في مجتمع مثل المجتمع الفلسطيني الذي يرزح تحت احتلال وفيه من الأفكار الغريبة عنه الكثير مما لا يمت إلى الدين بصلة ، فيحدث الشقاق والشجار بين العائلات الفلسطينية ، منها الأخذ بالثأر وأكل المال بغير حق .. إلى غير ذلك من المشاكل التي يعجُّ بها المجتمع الفلسطيني ، لا بد في مثل هذه الظروف أن يتصدر لإصلاح المجتمع رجالٌ أكفاء فهموا الواقع الفلسطيني ، وأدركوا حقيقة الأمر ، وكان الشيخ الداعية والمصلح من هؤلاء الرجال الذين تصدروا هذا العمل العظيم .. قال تعالى : لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ(193) ، فقد تصدر الشيخ الإصلاح بين الناس والقضاء بما يتفق مع شرع الله المقتبس من القرآن والسنة ، ولا بد لمثله من معرفة بعض القوانين المتعارف عليها بين العشائر في العرف والعادة التي يتم من خلالها الدخول في الإصلاح بما لا يختلف مع شرع الله ، مثل : وضع الوجه على المتخاصمين لمدة معينة ، ودفع مبلغ من المال لدفع الشر بما يسمونه " عطوة " مقدمة للصلح ، أو غير ذلك .. وكان الشيخ لديه المعرفة بهذه الأمور ، وقد نجح نجاحاً عظيماً في هذا الميدان – خاصة في الانتفاضة الأولى – مما دفع الناس للإقبال عليه ، وطلبهم مع بعضهم البعض أن يكون الشيخ أحمد ياسين هو المصلح بينهم واتفاقهم على أن الشرع هو الحكم بينهم ، لدرجة أن الشيخ كان لا يستطيع أن يقوم من مكانه لمدة يوم كامل متواصل فقط يصلي مكانه جماعة فيمن حضروا .. وكان في كثير من الأحيان لا يستطيع تناول طعام الغذاء حتى قدوم الليل(194) .
ثانياً : فهم الشيخ لقوانين كرة القدم :
كان الشيخ محباً للرياضة ، مهتماً بمتابعة أخبارها في الصحف(195) ، وقد افتتح كثيراً من النوادي وكان يدعم الشباب في هذا الجانب ، فمثلاً ساهم في افتتاح الجمعية الإسلامية التي ابتدأت نشاطها بالرياضة ، وكذلك أنشأ نادي المجمع الإسلامي ، وكانت كرة القدم من أنواع الرياضة التي شجعها الشيخ ، وقد حصل أنه قام مرة بالإصلاح بين فريقين لكرة القدم لمسجدين من مساجد غزة حين تفاقم الخلاف بينهما ، وكان الشيخ قد أحضرهما وبدأ الاستماع إلى الفريقين وبدأ يسألهم عن كل صغيرة وكبيرة تتعلق بأبناء الدعوة الإسلامية وأنشطتها ، فلما وصل إلى الحديث عن الخلاف بدأ يناقشهم في أسباب الخلاف لدرجة أنه أظهر فهمه الواسع بقوانين الكرة ، وفي نهاية الأمر توصل الفريقان إلى حلٍّ يرضي كليهما ، ويتناسب مع قوانين اللعب من جانب ، وأخلاق المسلم من جانب آخر(196) ، فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ذكاء الشيخ ومعرفته بطريقة ذكية للدخول إلى موضوع الخلاف والحديث فيه بدقة ومهارة شديدتين للوصول إلى إقناع الطرفين بالحل النهائي ، حتى يعودوا أخوة متحابين .
ثالثاً : فهمه بالجانب العسكري :
إن من ميزات القائد الناجح أن يكون بارعاً في كل ما يطرح ، سواء كان واقعياً ، سياسياً أو عسكرياً ، من هنا فإن الشيخ القائد كان قد تميز أيضاً بهذا الفهم وهذا الجانب – أي الجانب العسكري – فقد كان يُذكر أمامه بعض الأمور العسكرية في كثير من الجلسات فكان يناقش ويناظر وكأنه خريجٌ من الكلية الحربية ، يروي أحد مهندسي الجناح العسكري لحركة حماس : " أنهم فوجئوا في إحدى اللقاءات بالشيخ أنه يناقشهم في أدق تفاصيل عملهم في إطار الاستعدادات للتصدي لأي اجتياح صهيوني عسكري محتمل لمدينة غزة ، مضيفاً أن حديث الشيخ لم يكن مجرد حديث للترف أو لاستعراض بعض معلوماته ؛ وإنما استفادوا منه في ميدان المعركة ، وقال المجاهد : إن الشيخ اقترح طرقاً لمواجهة دبابات الاحتلال ، واهتم بمعرفة طريقة وآلية توزيع المجاهدين على مناطق مدينة غزة ، والمحاور التي يمكن أن تكون مداخل لاجتياح قوات الاحتلال للمدينة ، وآلية التصدي لهم "(197) .
رابعاً : فهمه بالجانب الأمني :
لقد كان الشيخ على دراية كبيرة بأهمية الأمن وضرورته لاستمرار العمل الإسلامي ، ولتفويت الفرص على الأعداء من النيل منه ، أو إصابته في مقتل وهو ما برز في العديد من الأمثلة أهمها(198) :
1- معرفة وسائل العملاء في إسقاط الآخرين ، ومن ذلك استخدامهم لأسلوب الجنس ، ومن ثم تصوير الضحية وهي في حالة ارتكاب الفاحشة أو اغتصابها ، ثم ابتزازها عقب ذلك عبر تهديدها بالفضيحة أو العمالة .
2- ملاحقة العملاء وخطفهم والتحقيق معهم والحكم عليهم بالإعدام أو غيره بحسب ما ارتكبوه من جرائم ووفقاً لقواعد الشريعة الإسلامية .
3- معرفة الشيخ لأساليب الاحتلال النفسية التي يستخدمها ضد السجناء ، كمحاولة تشويه السمعة وغيرها وسبل مواجهتها .
4- استخدام أسلوب النقاط الميتة في الاتصال بين أفراد التنظيم ، وذلك بحيث تنتقل التعليمات التنظيمية إلى عضو التنظيم دون أن يعرفهم أحدهما الآخر ، وقد تم استخدام مثل هذه الأساليب داخل السجون الإسرائيلية خلال اعتقال الشيخ .
هكذا كانت ثقافة الشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله تعالى .
الخاتمة
أولاً : النتائج :
ويمكن إجمال أهم نتائج البحث في النقاط الآتية :
1- إن الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله – ظاهرة فريدة من نوعها ، فهو مدرسة كاملة يتتلمذ فيها الأصحاء والمعاقين على السواء ، ويتعلمون فيها كيفية الانتصار على العجز البدني والضعف الصحي ، وأن العجز الحقيقي هو عجز الإرادة وضعف العقول .
2- إن الصلة بالله تبارك وتعالى والمداومة عليها ، سبيل لازم لتحقيق التقوى ، ولقطف ثمار المعرفة والثقافة ، وهو ما حصل من خلاله الشيخ على العلم الوهبي .
3- إن بلوغ أقصى درجات الثقافة والمعرفة ، يحتاج إلى كسب وجهد وصبر ومطالعة ، وأن التذرع بالظروف والابتلاءات هو سبيل العاجزين فإن الشيخ الذي لم يكن بوسعه أن يقلب صفحة كتاب كان يفعل ذلك بلسانه مع صعوبة ذلك أيضاً كي يغتنم وقته ، وتزيد علومه ومعارفه ، وهو ما يعكس قوة إرادة الشيخ في ذلك .
4- إن شدة الذكاء وقوة الذاكرة التي أنعم الله بها على الشيخ ، ساهمت إلى حد كبير في ارتقاء مستواه الثقافي .
5- إن الشيخ لم يقنع بتحديد مصادر المعرفة ، وإنما قام بالاستفادة من مختلف تلك المصادر سواء البيت أو المدرسة أو الجامعة أو المسجد أو المعتقل ، وغيره وسواءً كانت وسائله في ذلك تقليدية أم حديثة كالإنترنت ووسائل الإعلام المختلفة .
6- إن اتساع دائرة الثقافة لدى الشيخ ، وشمولها للثقافة الإسلامية واللغوية والتاريخية والاقتصادية والواقعية ، مكنت الشيخ من كسب احترام الآخرين ، ومن قيادة حركته ، لأن الجميع فيهم رأوا فيه الرجل العالم العارف بالله تعالى ، الذي يبني رأيه على أسس متينة من الوعي والعلم والمعرفة ، الأمر الذي يجعله جديراً أن نعده مجدداً للدعوة الإسلامية في فلسطين خلال القرن العشرين .
7- إن الثقافة التي حرص عليها الشيخ لم تتضمن الجوانب التخصصية والدقيقة للعلوم المختلفة، إذ ذلك مرده أهل الاختصاص الذين عرفوا باحترام الشيخ لهم وإحالته للعديد من المسائل التخصصية إليهم ، وإنما كان حرص الشيخ على امتلاك مختلف المعارف التي تخدم عمله كداعية إلى الله تعالى ، وتساهم في معالجته لمختلف القضايا التي تخدم الجمهور المحيط به، ومن ذلك معرفته للتفسير والفقه واللغة والتاريخ وفقه للواقع ونحو ذلك .
8- إن معرفة الشيخ واطلاعه على مختلف الأفكار والاتجاهات المعاصرة ، ومدى مخالفتها للدعوة الإسلامية ، مكنه من تجنيب الأمة والحركة الإسلامية داخل فلسطين ويلات تلك المبادئ الهدامة كالشيوعية والقومية والبهائية والشيعة والعلمانية ونحو ذلك .
9- إن ثقافة الشيخ ووعيه جعل الشعب الفلسطيني ينجو من ويلات حرب أهلية يمكن لها أن تأتي على الأخضر واليابس ، ولا تخدم إلا العدو الصهيوني المحتل .
10- إن الثقة بنصر الله تعالى ، وتمكينه لدينه في الأرض ، تؤدي إلى مواصلة الداعية لدعوته، دون أن يعبأ بما يصيبه ذلك في سبيل الله وهو ما تحقق للشيخ .
ثانياً : التوصيات :
يوصي الباحثان بمزيد من الدراسة حول شخصية الشيخ أحمد ياسين الظاهرة المعجزة ، سواء المتعلقة بالجانب الثقافي وذلك بإفراد كل نوع من أنواع الثقافة لدى الشيخ ببحث مستقل ، أو الجوانب التربوية لديه وكذلك فقه الدعوة عنده ، إلى غير ذلك من الجوانب المتعددة والتي في محصلتها جمع تراث الشيخ من الصدور والسطور ، وذلك قبل أن ينقطع السند بوفاة أتباعه وأصحابه أو استشهادهم ، ومن ثم دراسة ذلك التراث دراسة علمية موثقة، كي يستفيد الدعاة والأجيال اللاحقة منه .
وأخيراً ..
فإن الحمد لله تعالى وحده الذي وفقنا إلى إتمام هذا الجهد المتواضع فما كان فيه من حق وصواب فلله الفضل والمنة ، وما كان فيه من خطأ فمن أنفسنا والشيطان ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .