الشّر من المسائل التي خاض فيها الفلاسفة طويلاً، وهي قضية تثار أحياناً للتشكيك في حكمة الله الخالق، إذ كيف يخلق الله الشّر، وما الحكمة من ذلك؟! وبلغت هذه المسألة عند البعض درجة المعضلة التي لا حل لها. ونحن هنا نقدم وجهة نظر تبدو لنا أقرب إلى الصواب، إذ الشّر غير موجود ابتداءً، ولكنه وجد تبعاً بعد أن خُلق الإنسان وغيره من القوى المدركة، وقد تشكل هذا المفهوم في الذهن البشري كنتيجة لأمرين ينحصران في كون الإنسان مخلوق ناقص، وفي موقف الإنسان من الأمر الإلهي، وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: الكمال لا يكون إلا لله تعالى، وكل ما خلق الله فهو ناقص ومحتاج إليه ولا مجال لان يكون المخلوق كاملاً، فعلى مستوى الوجود نجد أن نقطة البداية لمخلوق ما تجعل عمره دائماً في دائرة النهائي. ومن هنا كان الأزلي فقط هو الذي لا بداية له، وبالتالي لا نهاية له. ولا نريد هنا أن نعقّد الأمر، لذا نقول ببساطة: طالما أن المخلوق ناقص، ولا كامل إلا الله، فلا بد أن ينبثق عن هذا النقص ما نسميه بالشّر. فالموت مثلاً نوع من النقص، وهو ينهي حياة الإنسان، لذا يعتبره الإنسان نوعاً من الشّر. والإنسان أيضاً يمرض والمرض يمكن أن يؤدّي إلى الضعف أو الموت، ومن هنا كان المرض في نظر الإنسان شّراً. وفي الوقت الذي يبقى فيه الإنسان صحيحاً فلا يمرض، ويخلد فلا يموت، عندها ستتلاشى فكرة الشّر المتعلقة بالمرض والموت. وهذا يكون في الجنة لأهل الإيمان.
ثانياً: أما السبب الثاني لوجود مفهوم الشّر في الفكر البشري، فهو نزول الرسالات الإلهية، والتي هي رحمة، ونور، وهدى للناس، ويمكن تمثيلها بـ (الكاتالوج) الذي يرسله الصانع للتعريف بالمصنوع وكيفية التعامل معه. فهذه الرسالات جاءت بالتعليمات والأوامر والنواهي لتحقيق الانسجام بين الإنسان والوجود، وعندما بدأ الإنسان يتمرّد أحياناً على هذه التعليمات والأوامر تبلور في فكره مفهوم ما يسمى بالشّر.
هذا يعني أن الشّر غير موجود ابتداءً، ولكن عند وجود المخلوق الناقص، والذي سيبقى ناقصاً لأنه ليس بإله، وجد مفهوم الشّر، ثم عندما تمرد هذا الناقص على أوامر الكامل تبلور مفهوم آخر للشر.
ويقودنا هذا إلى القول بان الشّر قضية اعتبارية، فعندما يعتبر الإنسان أن الموت شّر فليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك على مستوى الواقع، فإذا كان وجود الإنسان ونموّه خيراً، فلماذا نعتبر فناءَهُ وتحلله شرّاً؟! قد يكون الجواب: لان الإنسان يحب الحياة ولا يريد الموت. وما الذي يدرينا أن حب الإنسان للبقاء في الدنيا هو خير حتى نقول إن الموت شر. وعليه يبقى الشّر الحقيقي والجوهري هو مخالفة الناقص لأوامر الكامل. وبذلك نكتشف أن الإنسان هو الذي يخلق الشّر، وبالتالي يفوّت على نفسه فرصة أن يُكَمِّل نقصه عن طريق هبة الخالق الكامل، والتي هي الخلود والسعادة التامّة، حيث يبلغ الإنسان درجة النفس الراضية المرضيّة.
وإذا كان الإنسان هو خالق الشّر، فلماذا خلقه الله؟!
لماذا خلقنا الله؟
سؤال حّير العقول، ولا يزال الناس يسألون: لماذا خلقنا الله ؟! وقد يبادر البعض إلى القول: إن الله خلقنا لنعبده، ويدللون على ذلك بقول الله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ". ولكن هل صحيح أنّ الآية تشير إلى ذلك ؟ والذي نراه أنّ الآية لا تجيب عن سؤال لماذا خلقنا الله ؟ وإنما تشير إلى وظيفة الإنسان في الحياة الدنيا. وحتى يتضح هذا الأمر يجدر بنا في البداية أن نبين المقصود بالعبادة في المفهوم الإسلامي.
المتتبع للآيات القرآنية والأحاديث الشّريفة، يدرك شمول مفهوم العبادة لكل جوانب الحياة، وهذا يعني أنّ العبادة هي كل سلوك إيجابي يقصد به التقرب إلى الله تعالى. ولا شك أنّ الدين الإسلامي قد فصّل وبيّن مفهوم الإيجابي والسلبي. لذلك نجد أن الفقيه ابن تيمية رحمه الله يذهب إلى أنّ الله شرع العبادة الصغرى مثل الصلاة، والصيام، والحج وغيرها، من أجل صلاح العبادة الكبرى، وقصد بالكبرى هنا ممارسة الحياة، فما يسمّى بالشعائر التعبديّة هي الدائرة الخاصة والضيقة لمفهوم العبادة. وهذا الأمر أصبح مفهوماً عند الصغير والكبير من المسلمين.
لماذا خلقنا الله ؟…… الذي يسأل هذا السؤال قد يقصد في سؤاله أن يقول لك: كان الإنسان عدماً، فما هي الحكمة الربانية في خلقه بعد أن كان غير موجود؟ وقد يكون قصد السائل أن يقول لك: الإنسان موجود، ولا أسألك عن خلقه بعد أن كان عدماً، وإنما أسألك أنّه الآن موجود، لماذا؟ أي أن السائل يسأل عن وظيفة الإنسان بعد أن خلقه الله ؟ وهذا السؤال أجابت عنه الآية القرآنية: " وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون " فهي تحديد وظيفة الإنسان بعد أن كان مخلوقاً، ولا تتحدث عن خلقه قبل أن يوجد. وقد عرفنا أن العبادة هي كل سلوك إيجابي يقصد به التقرب إلى الله. وعليه يكون معنى الآية:" وما خلقت الجن والإنس إلا ليسلكوا سلوكاً إيجابياً وفق ما أحدده لهم، فأنا لم أخلقهم للسلبيات، أنا خلقتهم والشأن شأنهم أن يكونوا إيجابيين ثم يأتي الدين ويفصل في ما هو إيجابي وما هو سلبي، ما يطلب فعله وما يطلب تركه.
لا توجد دولة إلا وتضع القانون الذي ينظم علاقة الناس بعضهم ببعض، وتقوم السلطة التنفيذية بحماية هذا القانون، وتصبح طاعة الدولة من الواجبات التي لا يسمح لأحد أن يفرّط فيها، أما الشّريعة الإسلامية فلم تقتصر على تنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض، بل تعدّت ذلك إلى تنظيم علاقة الإنسان بالوجود، ثم هي تعمل على تربية الإنسان والارتقاء به. ومن أجل تحقيق التفاعل والالتزام من قبل الناس، جعل الالتزام بهذه الشّريعة عبادة يثاب عليها المؤمن، وجعل المفرّط بها عاصياً مستحقاً للعقوبة. وإذا كان للقانون سلطة إلزام دنيوية، فإن للشريعة سلطة إلزام دنيوية وأخرى أخروية. وهذا يعني أنّ الله تعالى قد تعبدنا بمصلحتنا فنحن الذين بحاجة إلى تنظيم ورعاية، وهداية، وتربية، وتنمية.فكان من نعمة الله بالناس ورحمته، أن جعل تحقق مصالحهم عبادة له نسبها إلى نفسه لتحقق الدوافع لدى الناس بالتزام مصالحهم وعدم التفريط بها. ومن هنا لا يصح سؤال بعض الناس عندما يقولون: " وهل يحتاج الله لعبادتنا ؟ " فالجواب: بل نحن الذين بحاجة إلى عبادته، لأن عبادته هي التي تحقق مصالحنا، فمن الذي يستفيد عندما تشرّع الزكاة ؟ أمّا الصلاة فمردودها على الفرد والجماعة واضح وملموس، والله تعالى يقول:"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ". ومن الذي يتضرر إذا انتشرت الفحشاء والمنكر ؟ …وهكذا .
يمكن أن يقودنا هذا القول إلى أن العبادة وسيلة لإصلاح الدنيا، وصلاح الدنيا يؤدي إلى صلاح الآخرة.ومن أبرز الأدلة على أن العبادة وسيلة وليست غاية أنّ العبادات في الدنيا غير موجودة في الآخرة، فلو كان الله تعالى قد خلقنا من أجل هذه العبادات، فلماذا لا تستمر في الآخرة ؟!
إذاً لماذا خلقنا الله ؟
حتى نصل إلى الإجابة عن هذا السؤال، نقوم بطرح المثال الآتي:
لدينا ساعة يد، يمكن أن نسأل حولها ثلاثة أسئلة أساسيّة: هل احتاجت الساعة إلى صانع ؟ كيف صنعت الساعة ؟ لماذا صنعت الساعة ؟
1. هل احتاجت الساعة إلى صانع ؟ نقصد بالصانع هنا الصفات الآتية: العلم،الإرادة، القدرة. وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن ننظر إلى السّاعة، وبمجرد النظر السريع إلى السّاعة يحكم الإنسان على الفور بأنها احتاجت إلى صانع ويمكن أن نتلقى إجابة إيجابية 100% من العقلاء من غير تردد. وهذا أمر بدهي.
2. كيف صنعت السّاعة ؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من النظر في السّاعة، أو سؤال الصانع. وسوف تنخفض نسبة الذين يمكن أن يجيبوا إجابة إيجابية.
3. لماذا صنعت السّاعة ؟ حتى نجيب عن هذا السؤال لا بد أن يكون لدينا علم بالخلفيّات التي سبقت الوجود. أي لا بد من العلم أن البشر قسّموا اليوم إلى "24" جزءاً، ثم قسّموا كل جزء إلى "60" جزءاً،ثم قسّموا كل جزء إلى "60" جزءاً، وهذه الأجزاء تسمّى ساعة، دقيقة، ثانية. إذا لم تعرف هذه الخلفيّة التي سبقت الوجود، لا يمكن معرفة الإجابة على وجه الجزم، وترجع عدم الإمكانية إلى أن سؤال "لماذا" يتعلق بما قبل الوجود. أمّا سؤال "هل" وسؤال "كيف" فيتعلقان بالوجود، ومن هنا يمكن أخذ الإجابة من النظر في الوجود.
والآن نسأل: هل خُلق الكون ؟ الإجابة هي من مسئوليتك، لأنّه لا بد أن تنظر إلى الكون، وفي الكون، حتى تحصل على الإجابة. ولست بحاجة إلى أن تسأل أحداً عن ذلك، فمن السخافة أن تسأل الناس عن وجود فنان وراء اللوحة البديعة، لأن الإجابة تقدمها لك اللوحة عندما تنظر إليها. ويسهل عليك أن تصل إلى الإجابة بغض النظر عن خبرتك أو مستواك العلمي، أو الفلسفي. لذا من أعجب العجب أن يطلب إنسان من غيره أن يثبت وجود الخالق.
كيف خلق الكون ؟ البشرية منذ وجدت إلى يومنا هذا وهي تنظر في الكون في محاولة لمعرفة كيف خلق هذا الكون، وتطور العلوم كان نتيجة لمحاولة الإنسان أن يفهم كيفية تكوين الوجود ثم إن الدين قدّم للإنسان بعض الإجابات عن بعض الكيفيات، فالقرآن الذي يطلب من البشر أن ينظروا في كيفية الخلق: " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق " قدّم لهم بعض المعارف حول ذلك مثل:" ثم استوى إلى السماء وهي دخان " ومثل " أولم ير الذين كفروا أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ". واللافت أن آلاف السنين لم تكن كافية للإنسان حتى يلم إلماماً كافياً بكيفية الخلق، ولا يزال يحاول ذلك وهو ينجح كل يوم، ولكنه لا زال يجهل الكيفيّة الكاملة.
لماذا خلق الله الكون ؟
هذا السؤال لا يمكن أن نحصل على إجابته من خلال النظر في الكون، لأنه يتعلق بأمر سبق الوجود، فكما سبقت فكرة الزمن وجود السّاعة، فلا بد أن تسبق فكرة خلق الكون وجوده الفعلي. ومن هنا لا يمكن لتطور العلم أن يعطي الإجابة عن هذا السؤال، لأن العلم يبحث في الوجود، وسؤال (لماذا) يبحث فيما قبل الوجود. والإجابة لا تكون إلا عند الخالق، لأنّه هو الذي أراد أن يخلق قبل أن يخلق. فهل نجد في الوحي إجابة عن هذا السؤال ؟ في الواقع ليس هناك من إجابة عن هذا السؤال.ولكن لماذا ؟
1. مجال تفكير الإنسان وعلومه ووظيفته، هو الكون المخلوق، والسؤال يتعلق بأمر غير وجودي.
2. لا يزال الإنسان قاصراً عن فهم الكيفيّة، فكيف له أن يفهم ما هو أكبر؟
3. قد تكون المسألة من المسائل التي لا يطيقها العقل البشري، وهذا بدهي أن يكون علم الخالق فوق علم المخلوق، وحكمة الخالق فوق حكمة المخلوق، وحتى بين البشر نلاحظ تفاوتاً في القدرات، فلا يتوقع من الطفل ابن سنة أن يفهم الحكمة في تصرفات الأباء والأمهات. وقد وجدنا بالتجربة أنّ الإجابة عن سؤال:" من خلق الخالق ؟ " سهل جداً عندما يكون السائل مثقفاً ذكياً، ولكن إذا سأل هذا السؤال طفل نجد أنفسنا عاجزين عن إجابة يقتنع بها الكبار،ولا معنى لأن تتحدث مثلاً عن الهندسة الفراغية لطفل في الثانية من عمره.
4. سهل على الإنسان أن يجيب عن سؤال هل ؟ وسؤال كيف ؟ وهذا يكفي لخلافته ووظيفته في الأرض. ولكن من قال إن الإنسان قد خلق للدنيا، فمعلوم أن الدنيا تزول إمّا بموت الناس، أو بزوالها يوم القيامة. ومن هنا لا معنى لوجود الإنسان لمدة محدودة من الزمن حتى لو بلغت مليارات السنوات، لأن النهاية تجعل البداية غير ذات معنى، ومن هنا نجد أن الخلود فقط هو الذي يعطي البداية معنى، ومعلوم أن الآخرة هي دار الخلود. إذن فقط الآخرة هي التي تعطي الدنيا معنى، وقد ورد " خلقت الدنيا لكم وخلقتم للآخرة " إذن لا إجابة دنيويّة عن الغاية من خلق الإنسان، وهناك إجابة عن وظيفته الدنيوية وعلاقتها بالمصير الآخروي.
فليس بالضرورة أن تكون الإجابات كلها دنيوية، وإلا بماذا تتميّز الآخرة. ولا مجال لعالم المحدودات والنهائيات أن يجيب عن أسئلة تتعلق بعالم اللانهائيات. وهذا من أهم الفروق بين الدنيا والآخرة.
وأخيراً نحن نخاطب بهذا المقال أهل الإيمان، أمّا غير المؤمنين من الماديين فلا يلزمهم هذا لأن الحياة عندهم صُدفة وبالتالي لا يوجد شيء له معنى، والحكمة منتفية من الوجود كله، ولا أدري لماذا يعيشون
أولاً: الكمال لا يكون إلا لله تعالى، وكل ما خلق الله فهو ناقص ومحتاج إليه ولا مجال لان يكون المخلوق كاملاً، فعلى مستوى الوجود نجد أن نقطة البداية لمخلوق ما تجعل عمره دائماً في دائرة النهائي. ومن هنا كان الأزلي فقط هو الذي لا بداية له، وبالتالي لا نهاية له. ولا نريد هنا أن نعقّد الأمر، لذا نقول ببساطة: طالما أن المخلوق ناقص، ولا كامل إلا الله، فلا بد أن ينبثق عن هذا النقص ما نسميه بالشّر. فالموت مثلاً نوع من النقص، وهو ينهي حياة الإنسان، لذا يعتبره الإنسان نوعاً من الشّر. والإنسان أيضاً يمرض والمرض يمكن أن يؤدّي إلى الضعف أو الموت، ومن هنا كان المرض في نظر الإنسان شّراً. وفي الوقت الذي يبقى فيه الإنسان صحيحاً فلا يمرض، ويخلد فلا يموت، عندها ستتلاشى فكرة الشّر المتعلقة بالمرض والموت. وهذا يكون في الجنة لأهل الإيمان.
ثانياً: أما السبب الثاني لوجود مفهوم الشّر في الفكر البشري، فهو نزول الرسالات الإلهية، والتي هي رحمة، ونور، وهدى للناس، ويمكن تمثيلها بـ (الكاتالوج) الذي يرسله الصانع للتعريف بالمصنوع وكيفية التعامل معه. فهذه الرسالات جاءت بالتعليمات والأوامر والنواهي لتحقيق الانسجام بين الإنسان والوجود، وعندما بدأ الإنسان يتمرّد أحياناً على هذه التعليمات والأوامر تبلور في فكره مفهوم ما يسمى بالشّر.
هذا يعني أن الشّر غير موجود ابتداءً، ولكن عند وجود المخلوق الناقص، والذي سيبقى ناقصاً لأنه ليس بإله، وجد مفهوم الشّر، ثم عندما تمرد هذا الناقص على أوامر الكامل تبلور مفهوم آخر للشر.
ويقودنا هذا إلى القول بان الشّر قضية اعتبارية، فعندما يعتبر الإنسان أن الموت شّر فليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك على مستوى الواقع، فإذا كان وجود الإنسان ونموّه خيراً، فلماذا نعتبر فناءَهُ وتحلله شرّاً؟! قد يكون الجواب: لان الإنسان يحب الحياة ولا يريد الموت. وما الذي يدرينا أن حب الإنسان للبقاء في الدنيا هو خير حتى نقول إن الموت شر. وعليه يبقى الشّر الحقيقي والجوهري هو مخالفة الناقص لأوامر الكامل. وبذلك نكتشف أن الإنسان هو الذي يخلق الشّر، وبالتالي يفوّت على نفسه فرصة أن يُكَمِّل نقصه عن طريق هبة الخالق الكامل، والتي هي الخلود والسعادة التامّة، حيث يبلغ الإنسان درجة النفس الراضية المرضيّة.
وإذا كان الإنسان هو خالق الشّر، فلماذا خلقه الله؟!
لماذا خلقنا الله؟
سؤال حّير العقول، ولا يزال الناس يسألون: لماذا خلقنا الله ؟! وقد يبادر البعض إلى القول: إن الله خلقنا لنعبده، ويدللون على ذلك بقول الله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ". ولكن هل صحيح أنّ الآية تشير إلى ذلك ؟ والذي نراه أنّ الآية لا تجيب عن سؤال لماذا خلقنا الله ؟ وإنما تشير إلى وظيفة الإنسان في الحياة الدنيا. وحتى يتضح هذا الأمر يجدر بنا في البداية أن نبين المقصود بالعبادة في المفهوم الإسلامي.
المتتبع للآيات القرآنية والأحاديث الشّريفة، يدرك شمول مفهوم العبادة لكل جوانب الحياة، وهذا يعني أنّ العبادة هي كل سلوك إيجابي يقصد به التقرب إلى الله تعالى. ولا شك أنّ الدين الإسلامي قد فصّل وبيّن مفهوم الإيجابي والسلبي. لذلك نجد أن الفقيه ابن تيمية رحمه الله يذهب إلى أنّ الله شرع العبادة الصغرى مثل الصلاة، والصيام، والحج وغيرها، من أجل صلاح العبادة الكبرى، وقصد بالكبرى هنا ممارسة الحياة، فما يسمّى بالشعائر التعبديّة هي الدائرة الخاصة والضيقة لمفهوم العبادة. وهذا الأمر أصبح مفهوماً عند الصغير والكبير من المسلمين.
لماذا خلقنا الله ؟…… الذي يسأل هذا السؤال قد يقصد في سؤاله أن يقول لك: كان الإنسان عدماً، فما هي الحكمة الربانية في خلقه بعد أن كان غير موجود؟ وقد يكون قصد السائل أن يقول لك: الإنسان موجود، ولا أسألك عن خلقه بعد أن كان عدماً، وإنما أسألك أنّه الآن موجود، لماذا؟ أي أن السائل يسأل عن وظيفة الإنسان بعد أن خلقه الله ؟ وهذا السؤال أجابت عنه الآية القرآنية: " وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون " فهي تحديد وظيفة الإنسان بعد أن كان مخلوقاً، ولا تتحدث عن خلقه قبل أن يوجد. وقد عرفنا أن العبادة هي كل سلوك إيجابي يقصد به التقرب إلى الله. وعليه يكون معنى الآية:" وما خلقت الجن والإنس إلا ليسلكوا سلوكاً إيجابياً وفق ما أحدده لهم، فأنا لم أخلقهم للسلبيات، أنا خلقتهم والشأن شأنهم أن يكونوا إيجابيين ثم يأتي الدين ويفصل في ما هو إيجابي وما هو سلبي، ما يطلب فعله وما يطلب تركه.
لا توجد دولة إلا وتضع القانون الذي ينظم علاقة الناس بعضهم ببعض، وتقوم السلطة التنفيذية بحماية هذا القانون، وتصبح طاعة الدولة من الواجبات التي لا يسمح لأحد أن يفرّط فيها، أما الشّريعة الإسلامية فلم تقتصر على تنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض، بل تعدّت ذلك إلى تنظيم علاقة الإنسان بالوجود، ثم هي تعمل على تربية الإنسان والارتقاء به. ومن أجل تحقيق التفاعل والالتزام من قبل الناس، جعل الالتزام بهذه الشّريعة عبادة يثاب عليها المؤمن، وجعل المفرّط بها عاصياً مستحقاً للعقوبة. وإذا كان للقانون سلطة إلزام دنيوية، فإن للشريعة سلطة إلزام دنيوية وأخرى أخروية. وهذا يعني أنّ الله تعالى قد تعبدنا بمصلحتنا فنحن الذين بحاجة إلى تنظيم ورعاية، وهداية، وتربية، وتنمية.فكان من نعمة الله بالناس ورحمته، أن جعل تحقق مصالحهم عبادة له نسبها إلى نفسه لتحقق الدوافع لدى الناس بالتزام مصالحهم وعدم التفريط بها. ومن هنا لا يصح سؤال بعض الناس عندما يقولون: " وهل يحتاج الله لعبادتنا ؟ " فالجواب: بل نحن الذين بحاجة إلى عبادته، لأن عبادته هي التي تحقق مصالحنا، فمن الذي يستفيد عندما تشرّع الزكاة ؟ أمّا الصلاة فمردودها على الفرد والجماعة واضح وملموس، والله تعالى يقول:"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ". ومن الذي يتضرر إذا انتشرت الفحشاء والمنكر ؟ …وهكذا .
يمكن أن يقودنا هذا القول إلى أن العبادة وسيلة لإصلاح الدنيا، وصلاح الدنيا يؤدي إلى صلاح الآخرة.ومن أبرز الأدلة على أن العبادة وسيلة وليست غاية أنّ العبادات في الدنيا غير موجودة في الآخرة، فلو كان الله تعالى قد خلقنا من أجل هذه العبادات، فلماذا لا تستمر في الآخرة ؟!
إذاً لماذا خلقنا الله ؟
حتى نصل إلى الإجابة عن هذا السؤال، نقوم بطرح المثال الآتي:
لدينا ساعة يد، يمكن أن نسأل حولها ثلاثة أسئلة أساسيّة: هل احتاجت الساعة إلى صانع ؟ كيف صنعت الساعة ؟ لماذا صنعت الساعة ؟
1. هل احتاجت الساعة إلى صانع ؟ نقصد بالصانع هنا الصفات الآتية: العلم،الإرادة، القدرة. وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن ننظر إلى السّاعة، وبمجرد النظر السريع إلى السّاعة يحكم الإنسان على الفور بأنها احتاجت إلى صانع ويمكن أن نتلقى إجابة إيجابية 100% من العقلاء من غير تردد. وهذا أمر بدهي.
2. كيف صنعت السّاعة ؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من النظر في السّاعة، أو سؤال الصانع. وسوف تنخفض نسبة الذين يمكن أن يجيبوا إجابة إيجابية.
3. لماذا صنعت السّاعة ؟ حتى نجيب عن هذا السؤال لا بد أن يكون لدينا علم بالخلفيّات التي سبقت الوجود. أي لا بد من العلم أن البشر قسّموا اليوم إلى "24" جزءاً، ثم قسّموا كل جزء إلى "60" جزءاً،ثم قسّموا كل جزء إلى "60" جزءاً، وهذه الأجزاء تسمّى ساعة، دقيقة، ثانية. إذا لم تعرف هذه الخلفيّة التي سبقت الوجود، لا يمكن معرفة الإجابة على وجه الجزم، وترجع عدم الإمكانية إلى أن سؤال "لماذا" يتعلق بما قبل الوجود. أمّا سؤال "هل" وسؤال "كيف" فيتعلقان بالوجود، ومن هنا يمكن أخذ الإجابة من النظر في الوجود.
والآن نسأل: هل خُلق الكون ؟ الإجابة هي من مسئوليتك، لأنّه لا بد أن تنظر إلى الكون، وفي الكون، حتى تحصل على الإجابة. ولست بحاجة إلى أن تسأل أحداً عن ذلك، فمن السخافة أن تسأل الناس عن وجود فنان وراء اللوحة البديعة، لأن الإجابة تقدمها لك اللوحة عندما تنظر إليها. ويسهل عليك أن تصل إلى الإجابة بغض النظر عن خبرتك أو مستواك العلمي، أو الفلسفي. لذا من أعجب العجب أن يطلب إنسان من غيره أن يثبت وجود الخالق.
كيف خلق الكون ؟ البشرية منذ وجدت إلى يومنا هذا وهي تنظر في الكون في محاولة لمعرفة كيف خلق هذا الكون، وتطور العلوم كان نتيجة لمحاولة الإنسان أن يفهم كيفية تكوين الوجود ثم إن الدين قدّم للإنسان بعض الإجابات عن بعض الكيفيات، فالقرآن الذي يطلب من البشر أن ينظروا في كيفية الخلق: " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق " قدّم لهم بعض المعارف حول ذلك مثل:" ثم استوى إلى السماء وهي دخان " ومثل " أولم ير الذين كفروا أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ". واللافت أن آلاف السنين لم تكن كافية للإنسان حتى يلم إلماماً كافياً بكيفية الخلق، ولا يزال يحاول ذلك وهو ينجح كل يوم، ولكنه لا زال يجهل الكيفيّة الكاملة.
لماذا خلق الله الكون ؟
هذا السؤال لا يمكن أن نحصل على إجابته من خلال النظر في الكون، لأنه يتعلق بأمر سبق الوجود، فكما سبقت فكرة الزمن وجود السّاعة، فلا بد أن تسبق فكرة خلق الكون وجوده الفعلي. ومن هنا لا يمكن لتطور العلم أن يعطي الإجابة عن هذا السؤال، لأن العلم يبحث في الوجود، وسؤال (لماذا) يبحث فيما قبل الوجود. والإجابة لا تكون إلا عند الخالق، لأنّه هو الذي أراد أن يخلق قبل أن يخلق. فهل نجد في الوحي إجابة عن هذا السؤال ؟ في الواقع ليس هناك من إجابة عن هذا السؤال.ولكن لماذا ؟
1. مجال تفكير الإنسان وعلومه ووظيفته، هو الكون المخلوق، والسؤال يتعلق بأمر غير وجودي.
2. لا يزال الإنسان قاصراً عن فهم الكيفيّة، فكيف له أن يفهم ما هو أكبر؟
3. قد تكون المسألة من المسائل التي لا يطيقها العقل البشري، وهذا بدهي أن يكون علم الخالق فوق علم المخلوق، وحكمة الخالق فوق حكمة المخلوق، وحتى بين البشر نلاحظ تفاوتاً في القدرات، فلا يتوقع من الطفل ابن سنة أن يفهم الحكمة في تصرفات الأباء والأمهات. وقد وجدنا بالتجربة أنّ الإجابة عن سؤال:" من خلق الخالق ؟ " سهل جداً عندما يكون السائل مثقفاً ذكياً، ولكن إذا سأل هذا السؤال طفل نجد أنفسنا عاجزين عن إجابة يقتنع بها الكبار،ولا معنى لأن تتحدث مثلاً عن الهندسة الفراغية لطفل في الثانية من عمره.
4. سهل على الإنسان أن يجيب عن سؤال هل ؟ وسؤال كيف ؟ وهذا يكفي لخلافته ووظيفته في الأرض. ولكن من قال إن الإنسان قد خلق للدنيا، فمعلوم أن الدنيا تزول إمّا بموت الناس، أو بزوالها يوم القيامة. ومن هنا لا معنى لوجود الإنسان لمدة محدودة من الزمن حتى لو بلغت مليارات السنوات، لأن النهاية تجعل البداية غير ذات معنى، ومن هنا نجد أن الخلود فقط هو الذي يعطي البداية معنى، ومعلوم أن الآخرة هي دار الخلود. إذن فقط الآخرة هي التي تعطي الدنيا معنى، وقد ورد " خلقت الدنيا لكم وخلقتم للآخرة " إذن لا إجابة دنيويّة عن الغاية من خلق الإنسان، وهناك إجابة عن وظيفته الدنيوية وعلاقتها بالمصير الآخروي.
فليس بالضرورة أن تكون الإجابات كلها دنيوية، وإلا بماذا تتميّز الآخرة. ولا مجال لعالم المحدودات والنهائيات أن يجيب عن أسئلة تتعلق بعالم اللانهائيات. وهذا من أهم الفروق بين الدنيا والآخرة.
وأخيراً نحن نخاطب بهذا المقال أهل الإيمان، أمّا غير المؤمنين من الماديين فلا يلزمهم هذا لأن الحياة عندهم صُدفة وبالتالي لا يوجد شيء له معنى، والحكمة منتفية من الوجود كله، ولا أدري لماذا يعيشون
بقلم :بسام جرار