نقض فتوى القائلين بكفر من ترك الصلاة كسلا
مما لا مجال للشك فيه كون الصلاة أعظم ركن في الدين بعد التوحيد ، مما جعل العلماء يختلفون في حكم تاركها كسلا مع الاعتراف بفرضيتها ، وان كان الأكثر على عدم التكفير ، لكن لما صار الأمر يدعو إلى القلق ، لا أقول ممن يتبنى الحكم ـ أعني حكم التكفير ـ لكن ممن صاروا يلوثون أفكار المسلمين ، من أن القول بعدم التكفير لا يعرف ، وهو من الجهل بمكان ، وأنه خلاف الإجماع وخلاف النصوص القطعية ، ومما زاد الطين بلة امتناع بعض أئمة المساجد من صغار صغار الطلبة بحجة أن: الشيخ فلان لا يصلي على تارك الصلاة لأن تارك الصلاة كافر .
ولأجل ازالة هذه الشبهة أو الشبه ، وكي تتجلى المسألة بوضوح ، أحببت أن أضع بعض التأصيلات والقواعد المفيدة في بيان حكم تارك الصلاة كسلا، وكالبحث السابق لا استطرد في الاستدلال وغيره لكن اقتصر على اجمال معنى النصوص في قواعد مهمة فأقول:
الايمان: هو إما جنس محبة الله ورسوله، أو هو جنس المحبة والتعظيم وعلى أي الأمرين ، فان ذلك محله القلب لا محالة ، لأن أصل الايمان هو المطلوب في دخول العبد الاسلام، وشرط صحته في الظاهر أن يتلفظ بالشهادتين، ومن لم يتلفظ بالشهادتين فهو كافر لم يلتزم عقد الاسلام ، لأن أصل الايمان لا بد من التدليل عليه ، وقد اتفق أهل العلم بان التلفظ هو شرط ذلك ، وبهذا يكون قد حقق جنس المحبة والتعظيم عقدا وقولا ، فيدخل في الاسلام ، ومن لم يتلفظ بها فلم يحقق جنس المحبة ـ أعني مع التصديق ـ لذا فلا يدخل في الاسلام ولا يكون مسلما .
ثم بعد ذلك ما طرأ من طارئ فانه لا يزيل الايمان ، الا اذا أزال جنس المحبة والتعظيم بالكلية ، أما ما ينقصها فلا يعتبر سببا من أسباب التكفير ، وعليه :
أ ـ من ترك الصدقة فقد انقص الأصل ولم يزله بالكلية فيظل مسلما.
ب ـ من سب الله تعالى فقد كفر لأنه أزال جنس المحبة والتعظيم .
ج ـ من شرب الخمر فقد أنقص جنس المحبة والتعظيم ولم يزلهما بالكلية،فيظل مسلما.
د ـ من أنكر وجوب الحج بعد علمه ، فقد أزال جنس المحبة والتعظيم فيكفر .
وهكذا .....
ولذلك لما جيء بالرجل ليجلد في الخمر المرة الرابعة ، قال أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: لعنة الله عليه ما أكثر ما يؤتى به في الخمر ، فقال عليه الصلاة والسلام :" لا تلعنه فاني أعلم أنه يحب الله ورسوله ".
فهذا أزال جزءا من الأصل ولم يزله بالكلية ـ بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ
الكفر: هو إعدام الموجود ، وليس إعدام المعدوم.
أقول: الايمان هو العقد والقول ، فمن شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة ، وأقر بما يلازم ذلك من الايمان بالغيب الشامل للملائكة والقدر وغيره ، فهوالذي يثبت له عقد الايمان ، فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، هذا ما جرت عليه عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهوواضح جدا في دلالات الكتاب والسنة قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ) وقال: ( آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله ).
وقال عليه الصلاة والسلام: "من قال لا اله الا الله صدقا من قلبه دخل الجنة " وغير ذلك كثير.
فالآية دليل واضح على ما قلنا: فالشهادة ايجاد معدوم، وهو الإيمان الذي بإعدامه يحصل الكفر، والتبرؤ من الطواغيت ـ وهي الآلهة المعبودة مع الله أو من دونه ـ فهو اعدام موجود من جهة التوحيد، فمن لم يتبرأ من الطواغيت فهو كافر.
والحديث : أن من جاء بالشهادة فقد دخل الاسلام ، ثم بعد ذلك ، يطالب بالشعائر الأخرى من صلاة وحج وغيره.
ولذا جاء في حديث معاذ :" ليكن أول ما تدعوهم اليه عبادة الله وحده لا شريك له ، ثم أعلمهم أن الله افترض عليهم في اليوم والليلة خمس صلوات ..... "
فالدعوة أولا الى التوحيد ، ثم الى غيرها ، لأن مبني الصلاة على الشهادة ، وليس العكس.
التوحيد شرط في الصلاة وليس العكس:
مما يعرفه جاهل المسلمين وعالمهم ، أن أول ما يطلب من العبد الشهادتان، ولذا لما جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجارية قال لها:" أين الله؟ قالت: في السماء ، قال: من أنا؟قالت : أنت رسول الله ، قال : فأعتقها فانها مؤمنة ".
فاثبات الفوقية هو من جنس اثبات أصل التوحيد ، واثبات الرسالة هو تمام التوحيد.
فمن زعم بأن من قال الشهادة ، ثم لم يصل فانه كافر ، فهذا زاعم بأن الصلاة شرط في التوحيد ، بل هي كالشهادتين لا تقبل الشهادتان الا معها ، وهذا زعم باطل لم يقله عالم من المسلمين ، ذلك أن من قال من الأئمة بكفر تارك الصلاة كسلا ، انما قال ذلك بفهمه دلالة بعض النصوص الدالة على تكفيره ، لا أنه كافر ابتداء ، ولا تنفعه الشهادتان ، فإن هذا لم يقله عالم ، بل الامام أحمد رحمه الله تعالى ـ لاضطراب الأدلة عنده ـ جاءت عنه رواية بعدم التكفير اختارها ابن عقيل الحنبلي والعكبري وابن قدامة المقدسي .
دعوى اجماع الصحابة على تكفير تارك الصلاة :
نقل بعض أهل العلم اجماع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر ، فبنوا عليه تكفير التارك للصلاة كسلا ، قلت : وهذا الاجماع منقوض بما يلي:
1 ـ لا يمكن أن يكون اجماع ثم تكون آراء أكثر أهل العلم على خلافه ، فجمهور العلماء من الأحناف والمالكية والشافعية على أن تارك الصلاة ليس كافرا ، بل قال الأحناف : بأنه يستتاب بالسجن فقط فان تاب خرج والا مات مسلما .
وقالت : الشافعية باستتابته بالسيف ، فان تاب والا قتل حدا ، أي قتل مسلما.
فكيف بعد هذا كله يقال : ثبت الاجماع على تكفيره .
2 ـ أن ابن قدامة وغيره قد نقلوا الاجماع العملي على أن تارك الصلاة كسلا ان مات : صلي عليه ودفن في مقابر المسلمين ، ويرثه أهله ، وهذا من باب التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين ، الذي بات يجهله كثير من الناس ، حتى بعض من ينتسب الى العلم ، فيبني عليه ـ أعني التكفير ـ أن بقاء الزوجة مع زوجها التارك للصلاة حرام بل وزنى عياذا بالله تعالى ، ثم يؤصل ويفرع مما أشاع الفوضى بين المجتمعات ، نسأل الله السلامة والعافية .
الخلاصة :
1 ـ مما شاع وذاع ـ وللأسف ـ تسفيه رأي الطرف المقابل ، وهذا ـ فضلا عن كونه ليس من الدين ـ هو من العيب ودناءة الخلق ، فينبغي احترام الطرف المقابل حتى تسود المحبة بين المسلمين .
2 ـ لا ينبغي القطع في حكم عام للمسلمين ما دامت أدلته ودلالته ظنية .
3 ـ يجب التروي وعدم التجرؤ في اطلاق التكفير على الناس ، ورحم الله تعالى الامام الذهبي حيث ذكر في السير :" أن المسلم الذي دخل في الاسلام ، لا يقطع بخروجه منه الا بنقض ما أدخله فيه " فلنعتبر بذلك .
* التكليف مناط بالقدرة : قال تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها )وقال ما جعل عليكم في الدين من حرج ) فالعبد مكلف وسعه وطاقته ، فما كان فوق طاقته ، سقط عنه التكليف ، وهذا في كل ما يتعلق بالتشريع دون التوحيد ـ الا اذا أكره فيعذر حتى في التوحيد مع سلامة القلب ـ فالمجاهدون ان زاد عدد عدوهم سقط عنهم الجهاد حال الطلب ، وقد يكون كذلك الحكم ـ حسب الظروف ـ حال الدفع ، والمصلي غير القادر على القيام يصلي قاعدا ، والمريض له الفطر ثم يقضي ان تيسر ، وهكذا ، ثم ان الكافر الرئيس ان كان قي قومه ، وشق عليه ترك الرئاسة لأمر ما ، ولم يكن يستطيع فعل العبادات لم يكلفها ، حتى الصلاة ، وليس هو في ذلك كافر لأنه غير مطيق فعلها ، لكن ليس بحال من الأحوال يعذر في ترك التوحيد ـأعني ـ: النطق بالشهادتين ـ لأنه لا يثبت له عقد الايمان الا بالنطق بها ، فان تخلف بعدها كل شيء دونها فلا يؤثر ذلك في ايمانه ، من أجل هذا لما مات النجاشي رحمه الله تعالى ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أصحابه خلفه ثم صلى عليه لأنه مسلم موحد ، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يسجد لله سجدة ، ولا صام لله يوما ، ولا غير ذلك من شرائع الاسلام ، بل لم يجرؤ أن يظهر اسلامه أمام قومه ، وانما اسلم سرا في نفسه ، فقبل الله تعالى منه .
قلت : وعلى القاعدة السابقة التي ذكرت فيها التفريق بين : أن الكفر اعدام الموجود ليس غير ، فمع هذه القاعدة الأخرى ، يتأكد لدينا أن ترك الصلاة ليس كفرا ما لم يكن عن جحد أو استهزاء ونحوه، مما يقلع عقد التوحيد ويبطله .
قلت : والتخفيف لا يحصل في أصل التوحيد وشرطه ، لكن يحصل في أمر ظاهره الكفر لكن باطن العبد مطمئن بالايمان ، لايعذر بترك الشهادتين دون اكراه ، أرأيت الى عمار كيف أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في اسكات الكفرة بكلمة كفر قالها بلسان فقط .
قلت : لو كانت الصلاة شرطا في دخول الاسلام ـ كما يظن البعض ـ لما كان عذر أبدا في تركها لأحد ، لأنها حينها ستأتي على توحيده كله ، ولما لم تكن كذلك حصل الاذن بتركها للنجاشي ، لأنها لا تؤثر على توحيده بابطال ، فليتنبه لمثل هذا ؟!!! .
* كيف يتعامل مع الألفاظ حال الاجمال والاطلاق ، والبيان والتقييد :
مما أوهم البعض أو حمله على اطلاق التكفير على تارك الصلاة كسلا ـ مع أن المكفرين اضطربوا بم يكفر ؟: هل يكفر بترك الجميع أو بترك ولو صلاة أو ان غلب عليه الترك كفر والا فلا ، أقول : يجب التعامل مع الألفاظ بطريقة تنجينا من الاضطراب والتناقض لأجل سلامة الفتوى التي ينتج عنها اتزان واعتدال وراحة في الناس ، حتى لا يلعن بعضهم بعضا .
قلت : ومن الأحاديث التي تميزت بألفاظ لا بد من امعان واعمال النظر فيها للوصول الى حكم سليم من غير تعقيد ولا اضطراب ، ما جاء في حديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس من قصدي في أبحاثي هذه استعراض الأدلة ، لكن ما كان منها يمثل قواعد يسير عليها طالب العلم :
قال عليه الصلاة والسلام :" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر "مع قوله عليه الصلاة والسلام:" بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة " وقوله:" بين الكفر والايمان ترك الصلاة"
ولي مع هذه النصوص وقفات :
الأولى: قوله عليه الصلاة والسلام:" العهد الذي بيننا وبينهم "
قلت : الضمير في "بينهم" عندي ـ وهو قول لأهل العلم ـ في المنافقين وليس في الكافرين ، لأن المنافق ما يميزه عن الكفار صلاته معنا ، وانما يتضح نفاقه بترك الصلاة ، اذ لم يكن يعهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا يترك الصلاة، الا الكفار ، فكان المنافقون يتسترون بالصلاة ، اذ لو تركوها لفضح أمرهم وتبين نفاقهم ، فهذا هو المقصود من النص ، يؤيد ذلك أن العهد الذي بيننا وبين الكفار هو شعار الملة مطلقا وهو: شهادة التوحيد.
الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام :" بين" هذا ظرف مكان ، يدل على توسط شيء بين شيئين ، فقولنا : المقتصد بين السابق والظالم لنفسه ، يدل على ثلاثة أطراف ، منها واحد وسط .
وقولنا: الثنية بين الرباعتين كذلك ، وقولنا : خليل بين محمد وسالم ، فهو وسط بينهما .
ومقصدي من ذلك أن الشيء المتوسط ليس من الطرف الأول ولا الثاني ، فيلحق به حكمه ، حتى يأتي دليل من الخارج يبين ذلك ، فقولنا مثلا: حمزة بين سمير وخليل ، فحمزة وسط ، لكن ان عرفنا أن حمزة ابن سمير ، فعندها لا بد من الحاقه به بسبب النسب ، وهكذا .
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الصلاة بين الايمان والكفر " ، فهي وسط بينهما ، فان قلنا تركها من الكفر الأكبر التحقت به ، وان قلنا من الأصغر التحقت بالايمان ، وبالتتبع ومع ما سبق يتبين لنا أنها من الكفر الأصغر فتلحق بالايمان لا بالكفر المطلق ، لكن بالايمان الناقص .
الثالثة : مما يؤيد كونها تلحق بالايمان لا بالكفر ما يلي :
تأمل معي قولي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"فقد كفر " و " الشرك أو الكفر "
فاللفظ الأول نكرة في سياق الاثبات ، وهي على الراجح لا تعم ، وقيل تعم .
واللفظ الثاني " الكفر " مفرد معرف فيعم .
فهل يعمل بكل لفظ على حال من الأحوال ، أي اعتبار التعميم في وصف معين ، واعتبار التقييد في وصف دونه .
أم أن المسألة من باب : حمل المطلق " كفر " على المقيد " الكفر "
أم أن المسألة لا علاقة لها بكل ذلك ، اذ اللفظ الأول والثاني انما هي أوصاف : الأول وصف بالفعل " كفر " والثاني وصف بالاسم " الكفر "
قلت : القرائن توضح لنا أن الكلمتين من باب مجرد الوصف الذي لا يثبت حكما مطلقا ، لأن قول رسول الله عليه الصلاة والسلام :" كفر " أو :" الكفر" انما هما بمعنى واحد ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : في اتيان النساء في المحل الخبيث " فقد كفر " وقوله:" ثلاثة الناس بها كفر ......"
ولا يثبت التكفير بالفظ المجرد الا باسم الفاعل الخالي عن القرائن مثل : الكافر فلان أو كفر فلان وهكذا .
اذن فاللفظ لا يحمل على المعنى المطلق ما دام هناك قرائن ، فعندها يحمل على مطلق المعنى .
ومن القرائن ما سبق ذكره من الاجماع العملي أن تارك الصلاة المعين يصلى عليه وغير ذلك ، وكذا قصة النجاشي والله أعلم .
لا يعكرعلى هذا أن الألفاظ في الشرع تحمل على المعنى الشرعي دون اللغوي،
قلت : أولا : هذا ليس على اطلاقه مع صحته .
ثانيا : يجب التفريق بين المعاني القصودة للشرع ، فقد يقصد المعنى بالكلية ، وقد يقصد بالجزئية ، وهو معروف بالمعنى المطلق، أو مطلق المعنى : فمثلا : الايمان المطلق : هو الايمان الكامل .
ومطلق الايمان : هو أصل الايمان وهو ناقص .
ومثل : الكفر المطلق وهو الكفر الاعتقادي : وهو المخرج من الملة .
ومطلق الكفر وهو الكفر العملي : وهو غير مخرج من الملة.
وترك الصلاة هي من مطلق الكفر ( العملي ) لا من الكفر المطلق (الاعتقادي )
في مذاهب عامة المسلمين والله تعالى أعلم .
قلت يؤيد هذا: أن من قالوا بالتكفير اضطربوا ، هل يكفر بترك الصلاة، أو بترك الكل ، أو الحكم لما غلب ، قلت : في الايمان والكفر لا يقال مثل هذا ، بل اما أن يقال : كافر بمطلق الترك ، أو غير كافر بمطلق الترك ، والاضطراب في الفتوى يسقطها ، فيسلم قول غير المكفرين والله تعالى أعلم .
كتبه
سمير مراد
الاردن-عمان
سمير مراد
الاردن-عمان