القلب المفتون والقلب الناجي
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54].
فجعل الله -سبحانه وتعالى القلوب- في هذه الآيات ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلبا ناجيًا، فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي. والناجي: القلب المؤمن المُخْبِت إلى ربه، وهو المطمئن إليه الخاضع له، المستسلم المنقاد.
وذلك: أن القلب وغيره من الأعضاء يُراد منه أن يكون صحيحًا سليمًا لا آفة به، يتأتى منه ما هُيَّئ له وخُلِق لأجله، وخروجه عن الاستقامة إما ليبسه وقساوته، وعدم التأتي لما يُراد منه، كاليد الشلاء، واللسان الأخرس، والأنف الأخشم، وذكر العِنِّين، والعين التي لا تبصر شيئًا. وإما بمرضٍ وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد. فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة.
فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له.
والقلب الميت القاسي: لا يقبله ولا ينقاد له.
والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي، وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم.
فما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ، وفى القلوب من الشُّبه والشكوك: فيه فتنة لهذين القلبين، وقوة للقلب الحي السليم؛ لأنه يردُّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق في خلافه، فَيُخْبِت للحق قلبه ويطمئن وينقاد، ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان، فيزداد إيمانًا بالحق ومحبة له، وكفرًا بالباطل وكراهة له، فلا يزال القلب المفتون في مرية من إلقاء الشيطان، وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبدًا.
اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
للإمام ابن القيم-رحمه الله-
حقيقة القلب السليم
القلب السليم الذي ينجو من عذاب الله هو: القلب الذي قد سَلِم من هذا وهذا، فهو القلب الذي قد سلَّم لربه، وسلَّم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره ولا معارضة لخبره، فهو سليم مما سوى الله وأمره، لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله، فالله وحده غايته، وأمره وشرعه وسيلته وطريقته، لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره؛ لكن لا تمر عليه إلا وهي مجتازة، تعلم أنه لا قرار لها فيه، ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه، ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من الغي، وسليم من الباطل، وكل الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك يتضمنها.
وحقيقته أنه القلب الذي قد سلَّم لعبودية ربه حياءً، وخوفًا، وطمعًا ورجاء، ففني بحبه عن حب ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وسلَّم لأمره ولرسوله تصديقًا وطاعة، واستسلم لقضائه وقدره، فلم يتهمه ولم ينازعه، ولم يتسخَّط لأقداره، فأسلم لربه انقيادًا وخضوعًا، وذلًا وعبودية، وسلَّم جميع أحواله وأقواله، وإعماله ظاهرًا وباطنًا من مشكاة رسوله، وعرض ما جاء من سواها عليها، فما وافقها قَبِلَه، وما خالفها ردَّه، وما لم يتبيَّن له فيه موافقة ولا مخالفة وقف أمره وأرجأه إلى أن يتبين له، وسالم أولياءه وحزبه المفلحين، الذابِّين عن دينه وسنة نبيه، القائمين بها، وعادى أعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه، الخارجين عنهما، الداعين إلى خلافهما.
مفتاح دار السعادة
للإمام ابن القيم -رحمه الله- بتصرف بسيط
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54].
فجعل الله -سبحانه وتعالى القلوب- في هذه الآيات ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلبا ناجيًا، فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي. والناجي: القلب المؤمن المُخْبِت إلى ربه، وهو المطمئن إليه الخاضع له، المستسلم المنقاد.
وذلك: أن القلب وغيره من الأعضاء يُراد منه أن يكون صحيحًا سليمًا لا آفة به، يتأتى منه ما هُيَّئ له وخُلِق لأجله، وخروجه عن الاستقامة إما ليبسه وقساوته، وعدم التأتي لما يُراد منه، كاليد الشلاء، واللسان الأخرس، والأنف الأخشم، وذكر العِنِّين، والعين التي لا تبصر شيئًا. وإما بمرضٍ وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد. فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة.
فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له.
والقلب الميت القاسي: لا يقبله ولا ينقاد له.
والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي، وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم.
فما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ، وفى القلوب من الشُّبه والشكوك: فيه فتنة لهذين القلبين، وقوة للقلب الحي السليم؛ لأنه يردُّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق في خلافه، فَيُخْبِت للحق قلبه ويطمئن وينقاد، ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان، فيزداد إيمانًا بالحق ومحبة له، وكفرًا بالباطل وكراهة له، فلا يزال القلب المفتون في مرية من إلقاء الشيطان، وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبدًا.
اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
للإمام ابن القيم-رحمه الله-
حقيقة القلب السليم
القلب السليم الذي ينجو من عذاب الله هو: القلب الذي قد سَلِم من هذا وهذا، فهو القلب الذي قد سلَّم لربه، وسلَّم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره ولا معارضة لخبره، فهو سليم مما سوى الله وأمره، لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله، فالله وحده غايته، وأمره وشرعه وسيلته وطريقته، لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره؛ لكن لا تمر عليه إلا وهي مجتازة، تعلم أنه لا قرار لها فيه، ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه، ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من الغي، وسليم من الباطل، وكل الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك يتضمنها.
وحقيقته أنه القلب الذي قد سلَّم لعبودية ربه حياءً، وخوفًا، وطمعًا ورجاء، ففني بحبه عن حب ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وسلَّم لأمره ولرسوله تصديقًا وطاعة، واستسلم لقضائه وقدره، فلم يتهمه ولم ينازعه، ولم يتسخَّط لأقداره، فأسلم لربه انقيادًا وخضوعًا، وذلًا وعبودية، وسلَّم جميع أحواله وأقواله، وإعماله ظاهرًا وباطنًا من مشكاة رسوله، وعرض ما جاء من سواها عليها، فما وافقها قَبِلَه، وما خالفها ردَّه، وما لم يتبيَّن له فيه موافقة ولا مخالفة وقف أمره وأرجأه إلى أن يتبين له، وسالم أولياءه وحزبه المفلحين، الذابِّين عن دينه وسنة نبيه، القائمين بها، وعادى أعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه، الخارجين عنهما، الداعين إلى خلافهما.
مفتاح دار السعادة
للإمام ابن القيم -رحمه الله- بتصرف بسيط