حكم الإسلام في العملاء والجواسيس
إعداد
الدكتور صالح الرقب
الجامعة الإسلامية-كلية أصول الدين
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
التجسس لغة: هو اللمس باليد، وجس الخبر: أي بحث عنه، وتجسس الأمر: أي تفحصه وتطلبه وبحث عنه. والتجسس: هو التفتيش في بواطن الأمور، كما يفعل الطبيب المداوي، ويقال: جس الأرض جساً: وطئها. ومنه قول المتنبي في وصف الأسد:-
يطأُ الثرى مُترفقاً في تيهه ...... فكأنه آس يجسُّ عليلا
وجاء في لسان العرب:إن الجساس هو الأسد، لأنه يؤثر في فريسته ببراثنه. والتحسس (بالحاء)، هو أيضاً طلبُ الأخبار والبحث عنها. وهو بنفس معنى التجسس. وقيل:إن التجسس (بالجيم) أن يطلب المعلومة لغيره و(بالحاء) أن يطلب المعلومة لنفسه. وقد جاء في التنزيل الحكيم (ولا تجسسُوا)(120)، أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين. كما ورد في قوله تعالى: (يا بنيَّ اذهبُوا فتحسسُوا مِن يوسفَ وأخيهِ).
والتّجسس مأخوذ من الجس، وهو في الأصل مَسُّ العرق وتعرُّف نبضه للحكم به على الصحة والسقم، كما في مفردات الأصفهاني، ومنه اشتق الجاسوس، فالتّجسّس محاولة العلم بالشيء بطريقة سرية لا يفطن لها، أو البحث عما يكتم من الأمور، وقيل:هو والتحسس- بالحاء- بمعنى واحد، وقيل:إن الثاني هو طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: هو تطلبها لنفسه، أما التجسس فهو طلبها لغيره، وقيل غير ذلك. جاء في (النهاية في غريب الحديث،المجلد الأول،باب الجيم مع السين)":التَّجَسُّسُ بالجِيم: التَّفْتيش عن بوَاطِن الأمور وأكْثَر ما يُقال في الشَّرّ. والجَاسُوس:صاحب سرّ الشَّرّ. والنَّامُوسُ: صاحب سر الخير. وقيل التَّجَسَّس بالجيم أن يَطْلُبَه لِغَيره، وبالحاء أن يَطْلُبَه لنَفْسِه. وقيل بالجيم: الْبَحثُ عن العَوْرَات، وبالحاء: الاسْتِمَاع، وقيل مَعْناها واحِدٌ في تَطَلُّب مَعرفة الأخبار."
الجاسوسية اصطلاحاً: البحث والتنقيب عما يتعلق بالعدو، من معلومات سرية باستخدام الوسائل السرية والفنية، ونقل ذات المعلومات بذات الوسائل، أو بواسطة العملاء والجواسيس، والاستفادة منها في إعداد الخطط.
الجاسوسية قانوناً:العمل سراً وبادعاء وهمي للاستيلاء-أو محاولة الاستيلاء- على معلومات سرية بقصد إبلاغها إلى جهة معادية.
والتجسس من حيث دوافعه نوعان:
1- نوع خاص يكون الدافع عليه الفضول وحب الإطلاع على عورات الآخرين، ليتلذذ الجاسوس-في مجالسه الخاصة والعامة-بالخوض في الحديث عن أعراض الناس وعوراتهم، ويتباهى بأنّه يملك الدليل والبينة على صدق دعواه وقوله..لذا جاء عقب النهي عن التجسس النهي عن الغيبة؛ لأنّ الغيبة نتيجة حتمية للتجسس، فكل من تجسّس لا بد له من أن يقع في غيبة الآخرين.
2- ونوع عام يكون دافعه نقل المعلومات ورفع التقارير إلى الطواغيت الظالمين وغيرهم من الكفرة والمشركين..وهذا من الموالاة..وهو أشد أنواع التجسس جرماً، وهو من الكفر الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة ولا بد.
والنهي عن التجسس الوارد في الآيةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)الحجرات:12. يشمل النوعين السابقين، والعام أولى بالنهي من الخاص.
وللجاسوسية صور وأشكال متعددة منها:
1- جواسيس مهمتهم بيع الأراضي الفلسطينية أو سمسرتها للعدو الصهيوني.
2- منهم من يكلفون بالإسقاط الخلقي والأمني، ونشر المخدرات، وإشاعة الفواحش في المجتمع.
3- منهم من يساعدون العدو ويشتركون معه في قتل وتصفية واغتيال المناضلين والمجاهدين من أبناء الشعب الفلسطيني بالدلالة عليهم، ولو كان الأمر بسيطا جدا كأن يخبر أين المناضل أو أين بيته، أو أي مساعدة كانت، ويدخل في هذا النوع من الجاسوسية ما يسمى بالتعاون الأمني القائم-ومنه إحباط أعمال المجاهدين الفلسطينيين- بين دولة العدو الصهيوني وبين الأطراف العربية بفعل الاتفاقيات الظالمة وغير المعتبرة شرعاً، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه:آيس من رحمة الله". وما كان العدو لينجح في قتل واغتيال واعتقال المئات من المناضلين لولا هذا التعاون الأمني، ومساعدة الجواسيس وتسهيل مهمة الأعداء.
4- ومنهم الأجراء: وهم الذين باعوا أنفسهم لأعداء دينهم وأمتهم وأوطانهم مقابل ثمن بخس دراهم معدودة، أو مناصب موعودة، أو شهوات مبذولة ومتع مرذولة، وهؤلاء الأجراء يستخدمهم الاستعمار لتحقيق مصالحه وأهدافه، وهؤلاء يرتدون ثياب الوطنية أثناء حملتهم المسعورة ضد الإسلام عقيدة ونظاماً وثقافة، وأثناء استيرادهم للمبادئ والأفكار والمذاهب المعادية للإسلام ومن هؤلاء الأجراء: زمرة السياسيين الذين ينفذون سياسة الأعداء في الحكم والسياسة، وزمرة الماليين الذي ينفذون سياسة الأعداء في مجال المال والاقتصاد، وزمرة العسكريين الذين يجرون شعوبهم لعار الهزيمة والذل في ميادين القتال، وزمرة الصحفيين والمثقفين والأدباء الذين ينشرون فكر الأعداء وثقافتهم ورذائلهم الاجتماعية.
التجسس نوعان:
1- التجسس المشروع الممدوح:
وهو التجسس على العدو للحذر منه، والاستعداد لمقاومته فمشروع. قال الحافظ ابن حجر في الفتح:"وَيُسْتَثْنَى مِنْ النَّهْي عَنْ التَّجَسُّس مَا لَوْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذ نَفْس مِنْ الْهَلَاك مَثَلًا كَأَنْ يُخْبِر ثِقَة بِأَنَّ فُلَانًا خَلَا بِشَخْصٍ لِيَقْتُلهُ ظُلْمًا, أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا, فَيُشْرَع فِي هَذِهِ الصُّورَة التَّجَسُّس وَالْبَحْث عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ فَوَات اِسْتِدْرَاكه, نَقَلَهُ النَّوَوِيّ عَنْ " الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة " لِلْمَاوَرْدِيِّ وَاسْتَجَادَهُ, وَأَنَّ كَلَامه: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَث عَمَّا لَمْ يَظْهَر مِنْ الْمُحَرَّمَات وَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنّ اِسْتِسْرَار أَهْلهَا بِهَا إِلَّا هَذِهِ الصُّورَة.(فتح الباري 10/482).
وعَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ:سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ:مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ:أَنَا،ثُمَّ قَالَ:مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ:أَنَا، ثُمَّ قَالَ:مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا،ثُمَّ قَالَ:إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ (4113)، وَمُسْلِم.
روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بَسْبَسة بن عمرو الأنصاري عينا لتقصي أنباء عير أبي سفيان في غزوة بدر، وقد ذهب صلى الله عليه وسلم بنفسه ومعه أبو بكر إلى بدر وقابلا رجلا وسألاه عن أخبار قريش وعرفا منه مكانهم، ولمّا كان الرجل قد شرط عليهما أن يعرف من هما قال النبي صلى الله عليه وسلم أخيرا "نحن من ماء" ثم انصرفا عنه، وحار الرجل في معرفة هذا النسب، ولعلّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد أنهما خلقا من ماء. كما بعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص مع جماعة إلى بدر لهذا الغرض، وقبل خروجه إلى بدر أرسل طلحة بن عبيد الله وآخر لذلك، وكانت سرية عبد اللّه بن جحش إلى نخلة -بين مكة والطائف- في رجب من السنة الثانية للهجرة لاستطلاع أخبار قريش، وفي سنة أربع أو خمس من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بريدة بن الخصيب الأسلمي ليعرف أخبار بني المصطلق عند ماء يسمى "المريسيع".
ويجوز للدولة إزاء العناصر المعادية والأجنبية ما لا يجوز لها إزاء المواطنين والرعية. فالتجسس على الأعداء عمل مشروع - مطلقاً - وهو ضرورة من ضرورات الحرب، ندب رسول الله ص من يؤديه من صحابته الأجلاء، كحذيفة بن اليمان، ونعيم بن مسعود، وعبد الله بن أنيس، وخوات بن جبير، وعمرو بن أمية، وسالم بن عمير، وغيرهم. وبذا، فان المسلمين مكلفون باستطلاع أخبار العدو ومواطن ضعفه، ومواقع آلياته، وحركة جنده، ويعتبر ذلك كله جهاداً في سبيل الله، يجزى فاعله خيراً: (ولا ينالونَ مِن عدو نيلاً إلاَّ كتبَ لهُم بهِ عملٌ صالح).
2- التجسس المذموم المحرم:
التجسس غير المشروع فهو التجسس الساعي إلى فضح عورات الناس، وهتك أستارهم، أو المدفوع بالتشفي والحقد، أو النابع من حب الاستطلاع وحده. وقد جاء في الحديث الشريف: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم. ومنه التجسس للعدو ونقل أخبار المسلمين إليه، وحادث حاطب بن أبي بلتعة معروف، حيث أرسل خطابا إلى أهل مكة يخبرهم فيه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغزوهم وأعطاه لامرأة لحق بها في الطريق فأخذه منها من أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، وكان ضبطه في مكان يسمى "روضة خاخ"، ولمّا سئل حاطب عن ذلك لم يكذب وأقرّ بأنّه لم يفعله كفراً ولا رِدةً، ولكن لمصلحة شخصية له، ولما أراد عمر بن الخطاب قتله قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:"إنّه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال:اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". ونزل في ذلك أول سورة الممتحنةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقّ). وجاء في بعض روايات الحادثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بضرب عنق المرأة حاملة الكتاب إن لم تدفعه لهم.
وقال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا".الحجرات: 12. قال الطبري:وَقَوْله:"وَلَا تَجَسَّسُوا". يَقُول:وَلَا يَتَتَبَّع بَعْضكُمْ عَوْرَة بَعْض, وَلَا يَبْحَث عَنْ سَرَائِره, لَا عَلَى مَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنْ سَرَائِره. قال ابن كثير في تفسير الآية:"وَلَا تَجَسَّسُوا" أَيْ عَلَى بَعْضكُمْ بَعْضًا، وَالتَّجَسُّس غَالِبًا يُطْلَق فِي الشَّرّ، وَمِنْهُ الْجَاسُوس.
والتجسس هو نوع من السعي بالفساد، وعمل يعرِّض مصالح المسلمين وبلادهم للضرر، وقد نزلت الآية الكريمة في عقاب من يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا وهى قوله تعالى في سورة المائدةإِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)المائدة:33. ومن يتجسس على المسلمين ويتصل بأعدائهم ويعطيهم علمًا بأسرار عسكرية سرية لينتفعوا بها في البطش بهم، وإلحاق الأذى والضرر ببلادهم جدير بأن نعامله معاملة من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادًا، فلكل أمة نظمها العسكرية. والمصلحة العامة تستلزم أن تحتفظ لنفسها بأسرار تخفيها عن أعدائها، ولا يعلمها إلا أهلها المتصلون بحكم عملهم بها. فإذا سولت نفس أحد المواطنين له بأن يستطلع أمر هذه الأسرار بطرقه المختلفة، وينقلها إلى أعدائه وأعداء بلاده كان جاسوسًا، وكان ممن يسعى في الأرض بالفساد، ولأن من شأن إطلاع العدو على هذه الأسرار أن يسهل عليه محاربة المسلمين وتوهين قواهم.
ويجب المحافظة على الأسرار، وهي أماناتٌ، يقول الله تعالى عنها: (يَا أيهَا الذينَ آمنُوا لا تخونُوا اللهَ والرسولَ وتخونُوا أماناتكُم وأنتُم تعلمونَ). وكل هذا يستدعي أن تكون الجبهة الداخلية متماسكة، «بعضهم أولياء بعض»، لا يوالون عدواً، ولا يُسلمون نصيراً، قال تعالى: (يَا أيهَا الذينَ آمنُوا لا تتخذُوا عدوي وعدوكُم أولياءَ تلقُونَ إليهم بالمودةِ وقَد كفرُوا بمَا جاءكُم مِن الحقِ) وتماسك جبهة المؤمنين أمر رباني: (والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضهُم أولياءُ بعض يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ ويقيمونَ الصلاةَ ويؤتونَ الزكاةَ ويطيعونَ اللهَ ورسولهُ أولئكَ سيرحمهمُ اللهُ إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ).
إعداد
الدكتور صالح الرقب
الجامعة الإسلامية-كلية أصول الدين
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
التجسس لغة: هو اللمس باليد، وجس الخبر: أي بحث عنه، وتجسس الأمر: أي تفحصه وتطلبه وبحث عنه. والتجسس: هو التفتيش في بواطن الأمور، كما يفعل الطبيب المداوي، ويقال: جس الأرض جساً: وطئها. ومنه قول المتنبي في وصف الأسد:-
يطأُ الثرى مُترفقاً في تيهه ...... فكأنه آس يجسُّ عليلا
وجاء في لسان العرب:إن الجساس هو الأسد، لأنه يؤثر في فريسته ببراثنه. والتحسس (بالحاء)، هو أيضاً طلبُ الأخبار والبحث عنها. وهو بنفس معنى التجسس. وقيل:إن التجسس (بالجيم) أن يطلب المعلومة لغيره و(بالحاء) أن يطلب المعلومة لنفسه. وقد جاء في التنزيل الحكيم (ولا تجسسُوا)(120)، أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين. كما ورد في قوله تعالى: (يا بنيَّ اذهبُوا فتحسسُوا مِن يوسفَ وأخيهِ).
والتّجسس مأخوذ من الجس، وهو في الأصل مَسُّ العرق وتعرُّف نبضه للحكم به على الصحة والسقم، كما في مفردات الأصفهاني، ومنه اشتق الجاسوس، فالتّجسّس محاولة العلم بالشيء بطريقة سرية لا يفطن لها، أو البحث عما يكتم من الأمور، وقيل:هو والتحسس- بالحاء- بمعنى واحد، وقيل:إن الثاني هو طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: هو تطلبها لنفسه، أما التجسس فهو طلبها لغيره، وقيل غير ذلك. جاء في (النهاية في غريب الحديث،المجلد الأول،باب الجيم مع السين)":التَّجَسُّسُ بالجِيم: التَّفْتيش عن بوَاطِن الأمور وأكْثَر ما يُقال في الشَّرّ. والجَاسُوس:صاحب سرّ الشَّرّ. والنَّامُوسُ: صاحب سر الخير. وقيل التَّجَسَّس بالجيم أن يَطْلُبَه لِغَيره، وبالحاء أن يَطْلُبَه لنَفْسِه. وقيل بالجيم: الْبَحثُ عن العَوْرَات، وبالحاء: الاسْتِمَاع، وقيل مَعْناها واحِدٌ في تَطَلُّب مَعرفة الأخبار."
الجاسوسية اصطلاحاً: البحث والتنقيب عما يتعلق بالعدو، من معلومات سرية باستخدام الوسائل السرية والفنية، ونقل ذات المعلومات بذات الوسائل، أو بواسطة العملاء والجواسيس، والاستفادة منها في إعداد الخطط.
الجاسوسية قانوناً:العمل سراً وبادعاء وهمي للاستيلاء-أو محاولة الاستيلاء- على معلومات سرية بقصد إبلاغها إلى جهة معادية.
والتجسس من حيث دوافعه نوعان:
1- نوع خاص يكون الدافع عليه الفضول وحب الإطلاع على عورات الآخرين، ليتلذذ الجاسوس-في مجالسه الخاصة والعامة-بالخوض في الحديث عن أعراض الناس وعوراتهم، ويتباهى بأنّه يملك الدليل والبينة على صدق دعواه وقوله..لذا جاء عقب النهي عن التجسس النهي عن الغيبة؛ لأنّ الغيبة نتيجة حتمية للتجسس، فكل من تجسّس لا بد له من أن يقع في غيبة الآخرين.
2- ونوع عام يكون دافعه نقل المعلومات ورفع التقارير إلى الطواغيت الظالمين وغيرهم من الكفرة والمشركين..وهذا من الموالاة..وهو أشد أنواع التجسس جرماً، وهو من الكفر الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة ولا بد.
والنهي عن التجسس الوارد في الآيةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)الحجرات:12. يشمل النوعين السابقين، والعام أولى بالنهي من الخاص.
وللجاسوسية صور وأشكال متعددة منها:
1- جواسيس مهمتهم بيع الأراضي الفلسطينية أو سمسرتها للعدو الصهيوني.
2- منهم من يكلفون بالإسقاط الخلقي والأمني، ونشر المخدرات، وإشاعة الفواحش في المجتمع.
3- منهم من يساعدون العدو ويشتركون معه في قتل وتصفية واغتيال المناضلين والمجاهدين من أبناء الشعب الفلسطيني بالدلالة عليهم، ولو كان الأمر بسيطا جدا كأن يخبر أين المناضل أو أين بيته، أو أي مساعدة كانت، ويدخل في هذا النوع من الجاسوسية ما يسمى بالتعاون الأمني القائم-ومنه إحباط أعمال المجاهدين الفلسطينيين- بين دولة العدو الصهيوني وبين الأطراف العربية بفعل الاتفاقيات الظالمة وغير المعتبرة شرعاً، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه:آيس من رحمة الله". وما كان العدو لينجح في قتل واغتيال واعتقال المئات من المناضلين لولا هذا التعاون الأمني، ومساعدة الجواسيس وتسهيل مهمة الأعداء.
4- ومنهم الأجراء: وهم الذين باعوا أنفسهم لأعداء دينهم وأمتهم وأوطانهم مقابل ثمن بخس دراهم معدودة، أو مناصب موعودة، أو شهوات مبذولة ومتع مرذولة، وهؤلاء الأجراء يستخدمهم الاستعمار لتحقيق مصالحه وأهدافه، وهؤلاء يرتدون ثياب الوطنية أثناء حملتهم المسعورة ضد الإسلام عقيدة ونظاماً وثقافة، وأثناء استيرادهم للمبادئ والأفكار والمذاهب المعادية للإسلام ومن هؤلاء الأجراء: زمرة السياسيين الذين ينفذون سياسة الأعداء في الحكم والسياسة، وزمرة الماليين الذي ينفذون سياسة الأعداء في مجال المال والاقتصاد، وزمرة العسكريين الذين يجرون شعوبهم لعار الهزيمة والذل في ميادين القتال، وزمرة الصحفيين والمثقفين والأدباء الذين ينشرون فكر الأعداء وثقافتهم ورذائلهم الاجتماعية.
التجسس نوعان:
1- التجسس المشروع الممدوح:
وهو التجسس على العدو للحذر منه، والاستعداد لمقاومته فمشروع. قال الحافظ ابن حجر في الفتح:"وَيُسْتَثْنَى مِنْ النَّهْي عَنْ التَّجَسُّس مَا لَوْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذ نَفْس مِنْ الْهَلَاك مَثَلًا كَأَنْ يُخْبِر ثِقَة بِأَنَّ فُلَانًا خَلَا بِشَخْصٍ لِيَقْتُلهُ ظُلْمًا, أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا, فَيُشْرَع فِي هَذِهِ الصُّورَة التَّجَسُّس وَالْبَحْث عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ فَوَات اِسْتِدْرَاكه, نَقَلَهُ النَّوَوِيّ عَنْ " الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة " لِلْمَاوَرْدِيِّ وَاسْتَجَادَهُ, وَأَنَّ كَلَامه: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَث عَمَّا لَمْ يَظْهَر مِنْ الْمُحَرَّمَات وَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنّ اِسْتِسْرَار أَهْلهَا بِهَا إِلَّا هَذِهِ الصُّورَة.(فتح الباري 10/482).
وعَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ:سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ:مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ:أَنَا،ثُمَّ قَالَ:مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ:أَنَا، ثُمَّ قَالَ:مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا،ثُمَّ قَالَ:إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ (4113)، وَمُسْلِم.
روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بَسْبَسة بن عمرو الأنصاري عينا لتقصي أنباء عير أبي سفيان في غزوة بدر، وقد ذهب صلى الله عليه وسلم بنفسه ومعه أبو بكر إلى بدر وقابلا رجلا وسألاه عن أخبار قريش وعرفا منه مكانهم، ولمّا كان الرجل قد شرط عليهما أن يعرف من هما قال النبي صلى الله عليه وسلم أخيرا "نحن من ماء" ثم انصرفا عنه، وحار الرجل في معرفة هذا النسب، ولعلّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد أنهما خلقا من ماء. كما بعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص مع جماعة إلى بدر لهذا الغرض، وقبل خروجه إلى بدر أرسل طلحة بن عبيد الله وآخر لذلك، وكانت سرية عبد اللّه بن جحش إلى نخلة -بين مكة والطائف- في رجب من السنة الثانية للهجرة لاستطلاع أخبار قريش، وفي سنة أربع أو خمس من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بريدة بن الخصيب الأسلمي ليعرف أخبار بني المصطلق عند ماء يسمى "المريسيع".
ويجوز للدولة إزاء العناصر المعادية والأجنبية ما لا يجوز لها إزاء المواطنين والرعية. فالتجسس على الأعداء عمل مشروع - مطلقاً - وهو ضرورة من ضرورات الحرب، ندب رسول الله ص من يؤديه من صحابته الأجلاء، كحذيفة بن اليمان، ونعيم بن مسعود، وعبد الله بن أنيس، وخوات بن جبير، وعمرو بن أمية، وسالم بن عمير، وغيرهم. وبذا، فان المسلمين مكلفون باستطلاع أخبار العدو ومواطن ضعفه، ومواقع آلياته، وحركة جنده، ويعتبر ذلك كله جهاداً في سبيل الله، يجزى فاعله خيراً: (ولا ينالونَ مِن عدو نيلاً إلاَّ كتبَ لهُم بهِ عملٌ صالح).
2- التجسس المذموم المحرم:
التجسس غير المشروع فهو التجسس الساعي إلى فضح عورات الناس، وهتك أستارهم، أو المدفوع بالتشفي والحقد، أو النابع من حب الاستطلاع وحده. وقد جاء في الحديث الشريف: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم. ومنه التجسس للعدو ونقل أخبار المسلمين إليه، وحادث حاطب بن أبي بلتعة معروف، حيث أرسل خطابا إلى أهل مكة يخبرهم فيه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغزوهم وأعطاه لامرأة لحق بها في الطريق فأخذه منها من أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، وكان ضبطه في مكان يسمى "روضة خاخ"، ولمّا سئل حاطب عن ذلك لم يكذب وأقرّ بأنّه لم يفعله كفراً ولا رِدةً، ولكن لمصلحة شخصية له، ولما أراد عمر بن الخطاب قتله قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:"إنّه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال:اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". ونزل في ذلك أول سورة الممتحنةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقّ). وجاء في بعض روايات الحادثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بضرب عنق المرأة حاملة الكتاب إن لم تدفعه لهم.
وقال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا".الحجرات: 12. قال الطبري:وَقَوْله:"وَلَا تَجَسَّسُوا". يَقُول:وَلَا يَتَتَبَّع بَعْضكُمْ عَوْرَة بَعْض, وَلَا يَبْحَث عَنْ سَرَائِره, لَا عَلَى مَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنْ سَرَائِره. قال ابن كثير في تفسير الآية:"وَلَا تَجَسَّسُوا" أَيْ عَلَى بَعْضكُمْ بَعْضًا، وَالتَّجَسُّس غَالِبًا يُطْلَق فِي الشَّرّ، وَمِنْهُ الْجَاسُوس.
والتجسس هو نوع من السعي بالفساد، وعمل يعرِّض مصالح المسلمين وبلادهم للضرر، وقد نزلت الآية الكريمة في عقاب من يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا وهى قوله تعالى في سورة المائدةإِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)المائدة:33. ومن يتجسس على المسلمين ويتصل بأعدائهم ويعطيهم علمًا بأسرار عسكرية سرية لينتفعوا بها في البطش بهم، وإلحاق الأذى والضرر ببلادهم جدير بأن نعامله معاملة من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادًا، فلكل أمة نظمها العسكرية. والمصلحة العامة تستلزم أن تحتفظ لنفسها بأسرار تخفيها عن أعدائها، ولا يعلمها إلا أهلها المتصلون بحكم عملهم بها. فإذا سولت نفس أحد المواطنين له بأن يستطلع أمر هذه الأسرار بطرقه المختلفة، وينقلها إلى أعدائه وأعداء بلاده كان جاسوسًا، وكان ممن يسعى في الأرض بالفساد، ولأن من شأن إطلاع العدو على هذه الأسرار أن يسهل عليه محاربة المسلمين وتوهين قواهم.
ويجب المحافظة على الأسرار، وهي أماناتٌ، يقول الله تعالى عنها: (يَا أيهَا الذينَ آمنُوا لا تخونُوا اللهَ والرسولَ وتخونُوا أماناتكُم وأنتُم تعلمونَ). وكل هذا يستدعي أن تكون الجبهة الداخلية متماسكة، «بعضهم أولياء بعض»، لا يوالون عدواً، ولا يُسلمون نصيراً، قال تعالى: (يَا أيهَا الذينَ آمنُوا لا تتخذُوا عدوي وعدوكُم أولياءَ تلقُونَ إليهم بالمودةِ وقَد كفرُوا بمَا جاءكُم مِن الحقِ) وتماسك جبهة المؤمنين أمر رباني: (والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضهُم أولياءُ بعض يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ ويقيمونَ الصلاةَ ويؤتونَ الزكاةَ ويطيعونَ اللهَ ورسولهُ أولئكَ سيرحمهمُ اللهُ إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ).
تعليق